قراءات نقدية

مركزية المؤنث في استعادة المذكر لدوره الضائع والهامشي

في رواية سيدات زحل للطفية الدليمي

تعد رواية (سيدات زحل سيرة ناس ومدينة) للكاتبة الكبيرة لطفية الدليمي رواية نسوية كونها اتخذت من الصوت الانثوي فاعلا مركزيا قي التحبيك والوصف. وأعطت له الأولوية في المبادرة والتصعيد بعكس الصوت الذكوري الذي لم يكن له مثل هذا الدور.

 وهذا الاشتغال على ثيمتي الانوثة / الذكورية بناء على ثنائية المركز/ الهامش كان مقصودا من وجهتي نظر فنية وثقافية، كشفت عنهما الساردة حياة البابلي بوصفها البطلة التي عاشت مع صاحباتها في عالم نسوي منغلق بالاستلاب والإخفاق والتقييد والمنع والبحث بلا جدوى والحيرة بالتساؤلات المتوالية باستمرار.

اما الشخصيات الذكورية فهي مؤسلبة في عالم ضاعت فيه الرجولة أما بالموت أو الاخصاء أو الاستسلام والهجرة أو القتل والسفاح.

ولأجل أن تدعم الكاتبة وجهة النظر الثقافية هذه بوجهة نظر فنية؛ فإنها تراهن على قلب معادلة الإخفاق لصالح المؤنث جاعلة المذكر قابعا في الإخفاق إلى الأبد كنوع من المراهنة على لا فاعليته التي أصابها العطب والعنت.

لا خلاف أن ذلك القلب ليس ثأرا أو نبذا أو تحاملا أنثويا على الآخر، وإنما هو تعبير عن فكر تحرري فيه الانثوية تحاول أن تفرض نفسها، مخلخلة ما اعتادت سرديات الحداثة على تمثيله متجهة صوب التمثيل ما بعد الحداثي.

وإذا كانت الإعاقة في أدبيات الحداثة هي الجنوسة الموجودة في جميع جوانب الثقافات والمجتمعات والممارسات والمؤسسات والتجارب والمواقف التي فيها المرأة تابعة بأنثوية مفرطة وبالشكل الذي يوصل الى التشيؤ الجنسي لكن هذه الإعاقة تتحول مع أدبيات ما بعد الحداثة إلى اللااعاقة، داخلة في ثقافة سبرانية تهاجم الجنس الآخر.. بينما تعطي للمرأة الفاعلية مروّجة للإنتاج الايجابي وليس الاستهلاك السلبي وهكذا تراهن الكاتبة على هذه السمة الثقافية معطية المركزية للمؤنث موظفة اللاإعاقة.

وهذا ليس مقصورا على البطلة فقط وانما كان معكوسا أيضا عند الشخصيات المؤنثة الأخرى فهن فاعلات وقد هجرن العالم السطحي الزائف وعرفن بحدسهن الأنثوي أنهن قادرات على لعب دور مرّكزي، بمقصدية المناهضة للإعاقة والجنوسة مع معاداة كل ما هو ذكوري استعماري يتعالى على الأنوثة وينكر دورها في التغيير ..

وقد عبرت حياة البابلي عن نبذها للإعاقة من خلال استعراضها لتاريخ الانثوية ..وهدفها فهم أسباب اضطهاد الذكورة للانوثة أولا، ومحاولة توكيد لا تبعيتها كونها ثانيا هي هدف المعرفة وليست مجرد ذريعة ..

ومن ثم تقع البطلة حياة البابلي تحت طائلة البحث عن الرجولة المفقودة ممثلة بحازم وهاني ومهند وحامد أبو الطيور والشيخ قيدار الذين كانت الحرب قد ألتهمتهم كلهم كضحايا حرب حتى ضاعت الرجولة وصارت زائفة ومجرد صوت في مدينة أكلتها الحروب والميليشيات بالخطف والموت.

ولذلك تصاب البطلة بالتشظي الزماني والمكاني والهوياتي، فلا تعرف اسمها هل هي حياة البابلي ام آسيا كنعان. ويعمل الصمت والهذيان والنوم والغفوة والخدر والافاقة والتيه والصحوة على قلب الإعاقة إلى اللااعاقة، من خلال توظيف الحافز بمفهوم فلاديمير بروب لتصبح البطلة قادرة على التغلب على الآخر/ المعيق.

 وهكذا يتحول إلى صوت حميم وقرين يخترق ذاتها فيوقظ فيها الشهوة والحكمة واليقظة والرغبة ممثلا بناجي الجمالي" أغمضت عيني رضخت لغواية صوت الرجل بدأت هيأته تتشكل وتكتمل أمامي ..كأنني أعيد تكوين قسماته فيتخذ وجهه سيماء حارس الوعود او سادن مقامات الأمل نظرته شبيهة الندى تتقطر على قلبي فمه يرنم اسمي نشوانا هل هو اسمي حقا ؟" ص7

ويصبح ناجي مقصد االبطلة ومطلبها لكن أنّى لها أن تجده وهو مجرد طيف وفراغ,. ولهذا لا يكون أمامها إلا الأحلام التي هي حافز آخر سيمنعها من الاستسلام للاعاقة رافضة النضوب والتلاشي مغادرة شللها الذي اعتراها طيلة مكوثها في سرداب البيت لتعلو إلى السطح متجاوزة بالاحلام واقعها الذي سيغدو بمثابة المكان السردي المتسع فيمتد من بغداد الى طنجة وقد وجدت بعضا مما تبحث عنه" حين عدت لبغداد من طنجة واصلت كتم الحب كي لا يفوح من رائحتي خنقت الرغبة فلا تنسدل من نبراتي موهت نظرتي فلا تفتتضح اشواقي تحت المصابيح  الواشية والعيون الراصدة" 165ـ166

وتغدو الانثيالات بديالكتكية التساؤلات والمونولوجات والتداعيات صورة أخرى محفزة على التحرر والحلم بالآخر كمنقذ وشريك، متغلبة على الأزمة ومجابهة الموت والتلاشي والتشويش، شاعرة أنها ما زالت على قيد الحياة" آه لو كانت لدي الشجاعة فانفصل عن ذاكرتي السائلة المشتبكة التي تعذبني ..قلت لا بأس سأقاوم الذاكرة وانتظر خلاصي واخاطر بما تبقى لي واعتنق الحب في زمن الموتى" 51

أما بحثها في تاريخ الأنوثة وتفتيشها عن نساء ماضيات عشن تعيسات جنبا إلى جنب نساء حاليات اللائي يصارعن العنوسة والترمل والطلاق ضمن حيز مكاني محتدم بالحب والحرب، فإنه سبيل تحفيزي آخر على التعايش مع الحيرة والحرمان وهن ينتظرن المصير المجهول فلا يجدن إلا السرداب خير مكان للاحتماء والنبش في تاريخ بغداد تحديدا وتاريخ العراق عموما عبر حقب مختلفة وحكام متعددين عثمانيين وانكليز وملكيين وجمهوريين.

وهنا يبزغ الآخر كحلم به تستعيد حياة توازنها نافضة عنها ما اعتراها من الجنون والنسيان" اسمع نبرته في همهمة الريح واشم رائحته في طلع النخيل صوته كامن في الهواء سحابة نجوم تمطر من نظرته وهو يناديني :حياة حياة" 60

ولئن كانت ذاكرتها قد تشوشت بفعل الواقع المرير، فإن الكتابة ستكون المحفز لعدم الإعاقة " انا حياة وهذه كراساتي التي شرعت بكتابتها منذ سنوات ودونت فيها حكاياتنا حكاية عشقنا الصاعق ..عار الخصاء وبتر اللسان خزي اغتصاب البنات.." 17

وتنتعش ذاكرتها فتأخذ باسترجاع إحداث ماضية ممارسة دورا مركزيا في جعل الشخصيات النسوية( راوية وهيلين ومريم خانم ولمى وبرسكا برنار وست فريدة ومس بيل وامل ابنة الحاج ياسين الخضيري وهنادي عبد المسيح وبهيجة التميمي) فاعلات وقد وزعت عليهن أدوارا مركزية معطية لهن فرصة البوح ليكن ساردات بضمير الأنا والنحن إفرادا وجمعا" أردنا أن نثبت للناس قدرة النساء على العيش دون رجال في بلاد الحروب التي تلتهم ابناءها أردنا أن ننشيء حياة متوازنة وحنونا ومحمية بالفن" 33 وكان استعمال الساردة لتقانة الرسائل قد حقق لها مساحات من الاستبطان الذاتي بالكشف والاستغوار.

وما كان للبطلة رد الاعتبار للأنوثة لولا هذه الملامح الغالبة للإعاقة التي بها استطاعت الصمود بالمواجهة، مناوئةً التشدد ومقاومةً التضييق ورافضةً المنع لعلها تعثر على الرجولة فتنتشلها من الضياع والفقدان..

لكن المفارقة أن الذكورة في ظل الحرب هي نفسها في ظل الإرهاب كونها تظل معيقة للأنثى وسالبة لإمكانياتها مع تغيير طفيف" بعض الرجال بهائم وبعض النساء حمائم "ص141 و" معظم الرجال بهائم وكثير من النساء غنائم وغمائم" 142

 ومثلما جعلت البطلة التاريخ أنثويا، فكذلك أحالت المكان مؤنثا وقد صار الشارع يسمى شارع النساء وبغداد غدت امرأة تهرأت غارقة في مياه تكونها وقد اجتاحها الاختطاف والاغتصاب والاتجار بالأعضاء والتعذيب والاخصاء والمافيا والتجسس والخيانة.

ويظل انتظار الرجولة وأمل اللقاء الملتبس والحلمي بها شكلا آخر لتمثيل اللااعاقة لعل اللقاء المرتقب بين حياة وناجي يتحقق ... دلالة على أن الحياة ستستمر وستنجو الرجولة من الموت بحتمية بحث الأنوثة عنها.

وهو ما سيسفر عنه انفراج الحبكة في ختام الرواية بطريقة رمزية وقد اجتمع فيه الاثنان الرجولة والأنوثة لا كضدين متحاربين فيه الأول استغلالي والآخر استباحي بل كشريكين نقيين يعاضد احدهما الآخر ليصنعا مصيرهما معا متصفين بالنقاء الروحي والصفاء الوجداني وهذا ما مثله الظهور المفاجئ للشيخ قيدار ومعه القس جبرائيل.

والشيخ هو واحد من الرجال الذين بحثت عنهم حياة البابلي وهو عمها الذي كانت تراه مثالا وأنموذجا وقد عاد يطالبها بمخطوطات كان قد أودعها في السرداب ناصحا لها بالرحيل الذي به ستجد الرجل المبحوث عنه" تعالي معنا يا حياة ناجي سيعرف السبيل إليك أينما تكونين  طالما أنت مؤمنة به وهو منقطع الى حبك" 313 لكن قرارها يظل غير معروف.

 ولا خلاف أن في عدم الإفصاح عنه قصدية ثقافبة.. لتغدو حياة رمزا لا للأنوثة المحتجبة والناقمة وإنما لاستمرار الآخر وبقائه.

 وما إصرارها على اللقاء بناجي إلا توكيد لحقيقة أن في بقائها نجاة الآخر وكإلماح خفي أيضا مفاده أن في استهانة المذكر بالمؤنث اندحارا له مثلما أن في اعتراف المذكر بالمؤنث انتصارا له وبذلك تتحقق الإجابة عن تساؤلات البطلة التي شرعت توجهها لنفسها على طول الرواية وعرضها..

 وما مقصدية الإصرار على المجابهة بدل الاستسلام ورفض الهجرة والاغتراب بالبحث والبقاء إلا توكيد لمركزية الأنثوية مقابل ضياع الذكورية وهامشيتها ..

ولا مناص من القول إن ترك خاتمة الرواية مفتوحة تصحيح لعلائقية المركز بالهامش كونه عكس حقيقة هذه العلاقة التي هي تصالحية لا نبذ فيها ولا ثأر ولا تهميش كما ليس فيها غلبة أو إقصاء ولا مصادرة ولا إلغاء.

بعبارة أخرى أن غلبة المركز هي غلبة للهامش.. لتكون المعادلة في صورتها النهائية ليست المراهنة على الأنثوية وحدها وإنما المراهنة على الذكورية أيضا بطريقة تشاركية فيها البطلة هي الأمل الذي سيستعيد الرجولة من الفقد ويستردها من الضياع.

هذا الأمل يجعل المؤنث في موقع المانح للآخر فرصة الاستحواذ مجددا على كينونته، فهل سيعيد التاريخ نفسه وينفرد المذكر مستغلا تسامح المؤنث أم أن التاريخ لا يعيد نفسه ليكون للمذكر وجه آخر تصالحي وتفاعلي ليس فيه استحواذ ولا انتهاك ..؟ ذلك ما تتركه الرواية طي الكتمان برؤية أنثوية متجهة بتفاؤل نحو عالم ذكوري قادم. 

 

د. نادية هناوي

 

في المثقف اليوم