قراءات نقدية

المحرم.. رواية: متاهة ادام، بصقة في وجه الحياة، زنابق بين الألغام أنموذجاً

نهض المتن السردي الروائي بفكر ووعي خاص بذاته، ولم يتكأ على تجربة ادبية قديمة، لذا نهضت النصوص الروائية بمستوى يليق بفكر كاتبها.

لنجد الروايات أغلبها، تنهض من استفاقة مميتة، رافضة لما هو موجود، وتقليدي رجعي، ليسجل اعمال الذهن الحاضر الأول في الكتابة السردية، لنجد ذاتنا امام نتاج ادبي متقن، ومستوعب لما يحيط به، فارضاً ذاته على الآخر، ولايجعل الآخر هو المسيطر عليه.

ولكي لاتكون قراءتنا اعادة تكوين للنص، أنما قراءة مضيفة لذاتنا معلومات جديدة، وبهذا اسست الرواية لذاتها مرتكزاً ادبياً يليق بها، ولتصطف في المراكز الأولى، وتتفوق على الكثير من الفنون الأدبية الاخرى.

وعن طريق انفتاح النص الروائي العراقي وابتعاده عن الأنغلاق منذ مرحلة التأسيس- للرواية العراقية – وإلى اليوم نجد أنفسنا امام تجاذب تاريخي وصراع في القراءات التي تتعدد فيها الخلفيات النصية على صعيد الكتابة أو القراءة ؛ لأن النص اداء وظيفي بوساطة اللغة يقدم رسالة من روائي، ويقوم القارىء، والناقد، والباحث، بفك جملها، التي نشأت من سلسلة عمليات التشفير، لتؤلف شفرة ادبية خاصة بها، وهذه الشفرة هي مهمة القارىء، لا الكاتب، وهذا مادلت عليه بنية الرواية العراقية خاصة، والعربية عامة.

فالنص الروائي هو المستودع الكبير، والأب الجامع لكل ابناء فروعه، وهو هوية الإنسان لحظة فقدان الذات.

اتقن الشاعر والروائي (برهان شاوي) صياغة متنه الكتابي، بتقنية عالية، وبميتافيزيقيا، وميتاقصية ترتقي بمستوى كاتبها.

انتج جملة مسميات متداخلة، ومترابطة فيما بينها، وسلسلة متاهات متشعبة، على الرغم من الحجم الكتابي الكبير لها، إلا أنها نتاجات سردية لاتمل؛ لأنها لم تصدر من فراغ، أنما من ثقافة واعية، ومن قلم روائي يحدد هدفه بفوهة قناص.

خرق الممنوع هو الأساس الأول في المتاهات جميعها؛ لتخرج الروايات من كنف المحرم وحضنه، ولتعلن رفضها لهذه القيود المكبلة على النص الأدبي عامة.

وخرقت نتاجاته اقدم مجموعة قوانين،وهذه القوانين أقدم من الألهة واسبق من الأديان‘ على وفق (فرويد)، فالتابو أو المحرم: وجود طقوسي شعائري، أقوى من القانون الوضعي أو المقدس الذي تفرضه الألهة والبشر.

في (متاهة آدم)، نجد نسيج الحياة الاجتماعية، والحياة اليومية المعاشة، والسياسة،  والحروب، والموت، والاستبداد ...الخ، وسجلت الرواية هذه الزوايا جُلها، وهي الاخرى سجلت نقداً للمحرم، عندما تُقيم (حواء المؤمن) زوجة (آدم التائه) علاقة محرمة مع والد (آدم التائه) والذي لا يعترف به (اباً)، إذ طالما جسد الكره بإزاء هذا الوالد.

̏ هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها العم إلى غرفة نومي.. ǃ .. ومن دون إيما كلام جلس على حافة سريري، بالقرب مني...كنتُ مستلقية وفي وضع النهوض.. فجأة جلس على الأرض أمامي ..خفت منه.. فقد كان يملك سطوة على الجميع ..الكل يهابونه في البيت.. أردت أن ابعد يده عني، ولم أفكر إلا في شيء واحد هو: ماذا لو إنَّ زوجي يدخل الآن ويرى هذا المشهد الحرام..؟̋

شكلت بنية النص سردية صريحة ومعلنة للفعل المحرم، وما نهت عنه النصوص الدينية في القرآن الكريم لمرات عدّة.

فـ (حواء المؤمن) كانت قد أقامت علاقة محرمة أيضاً مع (آدم اللبناني)، لتنتهي علاقتها المحرمة باكتشاف (آدم التائه) لهما، ثم ينهي علاقته-آدم التائه- مع زوجته الخائنة (حواء المؤمن)، التي سعت الى خيانته بالفعل المحرم.

هذه هي المحرمات المذكورة داخل الرواية، وكانت رواية (بصقة في وجه الحياة)، لـ (فؤاد التكرلي) قد جسدتها، وهذا يدلّ على وعي الرواية العراقية المتقدم لكل ما هو مغلق، والسعي الجاد لطرق المحرمات وفتح أبوابها من منافذ عدّة.

ونجحت الرواية في نقل الحالة النفسية التي كان يعيشها (الأب)، بالقول:

"ثلاث دقات رهيبة تعلن اقتراب الصباح وانا، ذلك الاب المسكين، لا ازال جالساً  في غرفتي منكمشاً على نفسي، أحاول جهدي أن اتبين هذه الساعة من الليل، الساعة التي تسبق انبثاق الفجر.. انبثاق النهار ..انبثاق الحقيقة .. واعجب من هذا السكون ذلك الهدوء النفسي الغريب الذي يوقد في داخلي دون حراك.. دون اضطراب كالماء الآسن الأخضر في المستنقعات العميقة لم يمض وقت طويل منذ أن اقبلت فاطمة، منذ أن تركتها نزلت من سيارة التكسي، منذ أن ارسلت ضحكة مكتومة قصيرة قبل أن تفتح الباب وتودع الزبون"(1).

في مثل هذه السردية، يمكن أنَّ نرى الأفصاح المباشر، إذ ارتبط الحب بـ (عشق الاب لبنته)، ليفاجئنا الروائي في نصه هذا بتوظيف (ذلك الاب المسكين)، متوارية ومتداخلة مع الفعل الإيروتيكي.

إذ تظهر قدرة الروائي في السيطرة على فضاء المعنى، وفي القدرة على توظيف الفعل، وذلك حين يقول: (ذلك الهدوء النفسي الغريب الذي يوقد في داخلي دون حراك)، إذ كسر الحاجز بمعادلة رياضية، وهي معادلة تشي بالاستمرار أمام صورة تشي بالقسوة، في تصويره لعشق ابنته، والافعال الواردة في النص (تسبق، يوقد، يمض، تركنها، تفتح، تودع) دلالة للحدوث والتجدد والاستمرار، فالنص السردي أمام مخاتلة لنفسية الاب، إذ تبدأ الذات السارة في احتلال موقعها داخل المتن السردي بعيداً عن المخاتلة، فالسارد يهدف إلى الكشف عن المسوغات الداخلية، ولعل هذا الكشف بدوره يكشف حقيقة تجاوز النص لحدود التابو؛ لأن الحب والعشق في النص، جاء ليبين هوس الاب بـ (فاطمة/ابنته)، وهو بهذا يخالف وينقد الفكرة الدينية، ويخرج الروائي في صياغته عن حدود المقدس.

ويستمر (الاب)في سرد ما بداخله من لذة وعشق وهيام، وفي كل مرة نجد عرضاً يختلف عن الآخر، فيقول: "كان الموقف يبدو لمن يتطلع إلينا هادئاً تسوده السكينة وتخيم عليه الطمأنينة غير أنَّ ما كان يجري في داخلنا كان اشد وهلاً وأروع قسوة من أكبر الحروب وافظع المجازر...كان الليل كأنه يقبض على الدنيا بيدين سوداوين فيخفي عنها وجه السماء ولم تكن الدنيا في تلك الثواني المحرقة غير شخص منفرد كالثعبان المتجمد...هو انا. وكنت أكاد ألمس أيادي الظلام تقبض على انفاسي وتوشك تقطيعها إرباً إرباً، فتسارعت دقات قلبي وركضت الدماء في عروقي كالسجين الهارب وبلغ تواتر أعصابي حد التمزق".

فـ (يبدو، يتطلع، تسوده، تخيم، يجري، يقبض، يخفي، تقبض، توشك، تقطيعها، تواتر، تمزق)، جُلها أفعال دالة على استمرارية الحدث لدى الأب العاشق، ليشكل بنية النص ومضمونه الفكري خرقاً معلناً بإزاء المقدس.

وهذا ما وظفته رواية (زنابق بين الألغام) لـ (علي الشوك)، لتبني عن طريق شخصية (سلمى) أنموذجاً للعلاقات المحرمة و ̏ كانت فاقدة عذريتها، مع انها لم تنم (...)، في أثناء

وصالها (...) مع بنات جنسها ̋ (2).

فالمتن السردي يمثل صورة درامية، إذ يجعل الروائي من لذة الإنسان والفعل المحرم (غاية)، ليبدأ بعدها الدخول في عالم الأسرار وتصوير لأَدق التفاصيل، ليظهر المشهد أمامنا مُتشكلاً من مجموعة من العناصر الحسية (تنم، عذريتها)، الأمر الذي يساعد على تنسيق المشاعر عن طريق الإشارات المتنوعة للصورة السردية، ثم تنكشف الرموز المغلقة كلها في فضاء مليء بالوضوح والمباشرة، لنقد فكرة الدين، عن طريق توظيف ما نهت النصوص الدينية عنه .

أضيف، أن انفتاح الوعي الثقافي هو الأساس في أنتاج مثل هذه المتون السردية، التي خرجت عن كل ماهو ممنوع، ومحرم، وعمدت وبقصدية عالية إلى خرقه، وتجاوزه.

 

د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم