قراءات نقدية

يوتوبيا ونساء يحيى السماوي: قراءة في مجموعته: نهر بثلاث ضفاف

صالح الرزوقتحتكر موضوعات الشاعر العراقي “يحيى السماوي” مسألتان، وهما المرأة والوطن. وهذا واضح منذ عناوينه مثل (هذه خيمتي فأين الوطن)، و(قليلك لا كثيرهن) و(أطفئيني بنارك) وسوى ذلك. ولكنه أضاف في فترة وسيطة قصيدة الرثاء التي خص بها أمه. وكتب في هذا الاتجاه مطولات جميلة وحزينة تذكرنا بأهم قصائد الرثاء المعاصرة. وكان في هذه الفترة بالذات يرثي بلاده الجميلة ونفسه ووالدته بآن واحد. غير أنه منذ فترة ليست بالبعيدة بدأت المرأة وحدها تستولي على قصيدته منذ العنوان وحتى المضمون. فقد أبدى اهتماما بجسد القصيدة (الشكل والأسلوب) بمقدار اهتمامه بصفات المرأة وتولعه بها، حتى يمكنك القول إنه تحول لشاعر حسي يتحرش بالنساء بمناسبة وبلا مناسبة. وهذا هو حال آخر مجموعاته (نهر بثلاث ضفاف)*. أهم ميزات المجموعة أنه لا يكرر نفسه، والأهم أنه لا ينسخ سواه. بل على الضد من ذلك اقترب من موضوعه بطريقه الخاصة. وأولها استعمال أسلوب الإنشاد التوراتي كما في (نشيد الإنشاد). بالإضافة لتكنيك الرحلة التي تشكل عمود الشعر العربي منذ فجره وحتى ظهور الرومنسية الجديدة (أو الحداثة المبكرة كما أحب أن أسميها). لكن هذه الإشارة تحتاج لتوضيح.

 بالنسبة للإنشاد.

لم يكن السماوي يحاكي بالضرورة افتتاحية العهد القديم المعروفة، ولكنه استلهم روحها وتراكيبها. فقد كان يعزو للمرأة صفات طبيعية. بمعنى أنه أسقط جماليات الطبيعة على صورة المرأة، وبأسلوب تركيبي غير مباشر. لقد ابتعد ما أمكن عن تكنيك المرايا وعدسة الكاميرا، ولجأ لطريقة الحدس. واحتفظ بمسافة بعيدة بين المشبه والمشبه به حتى تحول المنظور إلى قيمة عاطفية. لقد كان يشعر بجماليات المرأة ولا يراها. وبهذه الطريقة دمج الصورة مع التصور، وأنشأ بينهما علاقة توليد أو قيمة ثالثة. وعمد لتحويل المبني للمجهول ببناء عكوس إلى المبني للمعلوم. بتعبير آخر إن العاطفة الغامضة أصبحت بمساواة المعالم والملامح. وهكذا احتلت الغريزة دورا أكبر من الحب المجرد أو العذري. ولكن لا يجب أن نفهم أنه يوجد أي اتجاه يحض على الحب المدنس. بالعكس كان، في أساس هذه اللعبة الشعرية، الحبل بلا دنس، وبمفهومه التوراتي. وحصل ذلك من خلال التماهي بين رموز أساسية تدل على المرأة بشكل مباشر، وهي الأم والحبيبة والإلهة السومرية إنانا. وبذلك أصبح الحب والاحترام والتقديس أو العبادة بمقام واحد. مع التزام السماوي بالإبدال بين أضلاع هذا المثلث الرمادي هربا من الإحراج وتنظيفا للعاطفة من أخطاء وأوشاب النوايا الشريرة وغير الإنسانية.

ويجدر التنويه أن نساء السماوي لسن من طينة واحدة.

فهن من نسل حواء أحيانا. ولكن في كثير من الحالات تبدو المرأة عاصية ومتمردة. ومن شجرة ليليث التي ورد أيضا ذكرها في العهد القديم، وتحولت مع الزمن إلى رمز أنوثي قضيبي، أو إلى شعار من شعارات تحرير المرأة. وينوه لهذه المشكلة بمجموعة من الصور المبتكرة كقوله: إينانا البعيدة بعد قلبي عن يدي (من هبوط إينانا، ص 19). وقوله: احذر من عقاب لن تطيق لظاه (من تضرع في محرابها، ص57).  أو قوله بلغة مكشوفة تذّكّر المؤنث جريا على عادة العرب في المديح: لئن عاندت أوجاعي فعذري / حبيب لا يمل من العناد (من أخاف على الليل من سهادي، ص 96).

77 samawi600

 وأعتقد أن السماوي بطبعه شخصية حائرة. فهو لم يحسم أمره، وبقي على مفترق الطرق بين مشاغبات ليليث وإغواءات حواء. وانعكس ذلك أيضا على اختياراته الفنية. فمجموعاته لا تخلو من إشكالية التجاور بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة، مع أجواء يخيم عليها القلق وأحيانا التوسل ثم التهديد والوعيد. ومثل هذا الطيش إن دل على شيء فهو دليل على واحد من إثنين.

1- الماشيزمو أو الفحولة الشرقية.

2- الطيش والتهور الرومنسي.

وبهذه الطريقة تتناوب خصائص العقل البدوي الصحراوي مع العاطفة اللاتينية. وبتجاور الطرفين ينشأ مخاض فروسي لا تنقصه العنتريات. وبودي تشبيهه بالسير والملاحم الشعبية مع الاحتفاظ بالفرق الأساسي بين االسيرة النفسية للملحمة والبنية النفسية للقصيدة. فالأولى تصور عشقا تصوفيا يفتح الباب لسلسة من المغامرات التي تصل لحد الجنون. والثانية تخلص لموضوعها العشقي بلا منازع. وعليه يمكن تبرئة السماوي من عقلية السير. فهي من نتاج ثقافة الابن وابنه. في حين أن شعريته من نتاج رجل منقسم على نفسه، ويفكر بالمرأة كموضوع وكذات، وينظر إليها كحبية وكأم. ولذلك يساوي بين النوم في أحضانها طلبا للدفء وطلبا السعادة. وعلى الأغلب هذا هو السبب في تركيزه على الثغور والأخاديد ذات الوظيفة الغذائية كالفم والنهدين والحلمات .

إن نساء السماوي أحفوريات وكذلك عاطفته. وهي تضغط باستمرار لتصوير يوتوبيا تليق بالمرأة النموذجية التي يتخيلها بجوارحه. وهي يوتوبيا تذكر الإنسان بمفاتن الجنة مع فرق واحد. أن السعادة في العالم الآخر دون توتر (بلغة علمية بلا أعصبة ورهابات) . لكن يوتوبيا السماوي موعودة ومنوعة ومفكر بها، فهي ذهنية بشكل واضح وليست رمزية. وأهم عناصرها النهر والشجرة. وإذا كانت الأنهار تخلو من معناها الأزلي الذي يدل على عدم التكرار والتعاقب، باعتبار أنها أنهار متخيلة ومؤجلة أيضا. فالشجرة تأخذ عدة أشكال وصور. النخيل (سيد الشجر كما يسميه - ص 15) مثلا يشير لحضارة ما بين النهرين أو لفلسطين. ولكل حالة حيثياتها. إذا كانت الشجرة مجردة ومفردة فهي دليل على بلاد سومر. وإن كانت متحركة ويلعب بها النسيم وأحيانا تحتها العذراء فهي تدل على فلسطين. ويبدو أن فلسطين هي الغائب الذي لا يزال يتحرك في لا وعي الشاعر. أولا من خلال أسلوب نشيد الإنشاد (ويأخذ شكل مونولوج درامي على طريقة شكسبير وغيره من شعراء الرومنسيات الكبرى والتراجيديات الأساسية). وثانيا من تكرار اسم الصفصاف واللوز**، وكلاهما نباتات توراتية. أساسا كانت الصفصاف هي المسكن الذي تأوي له المرأة المتمردة ليليث. والاسم بالأصل عبري وقد ورد في حزقيال (17:5). ثم تكرر في خمسة مواضع وأشهرها المزمور 137 حيث توجد إشارة واضحة للسبايا الذين أسروا في بابل حوالي عام 600 ق.م. وهذا يربط مأساة اليهود القديمة مع مأساة فلسطين الحالية. ولحينه توجد في الأراضي المحتلة قرية باسم صفصاف وتعود للإمبراطورية الرومانية. وكان اسمها حينذاك صافصوفا safsofa. وقل نفس الشيء عن أشجار اللوز. فهي الشجرة المفضلة عند تميم البرغوثي ومحمود درويش وأدباء المقاومة إجمالا.  وعلى الأغلب الصفصاف تدل على الماضي الدامي بينما اللوز تدل على النزوح المعاصر. ومثل هذه الروح الشعرية ساعدت السماوي على إغناء درامية قصائده. فهي توفر نوعا من التقابل أو التضاد، وبتكنيك يشبه تماما الذاكرة والذاكرة المضادة. ويكفي أن لأوراق الصفصاف لونين.. أخضر رمادي من الأعلى وأبيض من الأسفل. وأن شجرة اللوز لها لون ناري متورد في الربيع وداكن كئيب ورمادي في بقية الفصول. علاوة على أن الزهرة الوردية تعطي ثمرة مرة المذاق. وهكذا يتطور صراع بين عناصر الخير والشر بطريقة تسعف السماوي على تنقية غزلياته من المعاني الأوديبية وتقدم لها إمكانية للتحويل والتصعيد. ولذلك إن شعرية السماوي في ديناميكية دائمة. وتحت غزلياته يمكن أن تعد ثلاث حركات.

الأولى تكنيك الأصوات االذي لجأت إليه أيضا الرواية الحديثة ابتداء من (السفينة) لجبرا وحتى (خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان و(ضباب في الظهيرة) لبرهان الخطيب. وهذا الجانب يوفر لقارئ مجموعاته الأخيرة وحدة عضوية، حتى إنها تبدو أشبه بقصيدة طويلة تتألف من فصول (مثل: طرفة في مدار السرطان لعلي الجندي وفيها يأخذ طرفة المتمرد الوجودي واللاهي والعابث موضع الملك الضليل امرئ القيس. ويحدد لنفسه هدفا سياسيا). أو أنها تبدو مثل حلقة متتالية من الأناشيد (مثل: الدخول في شعب بوان لمحمد عمران. وهي محاولة لترقية المشاعر الوطنية إلى عواطف إنسانية. وتصعيد للنبوءة السياسية إلى مستوى ظاهرة أو حدس بشري). ولكن هذه المطولات تأخذ شكلا دراميا بالبنية، بينما مطولات السماوي يربط وحداتها التصعيد النفسي، أو تنامي الغاية والهدف. مثلا من (هبوط إينانا) إلى (وصايا إينانا) وحتى ثمرة حب إينانا (كما تفضل الدكتور عبدالرضا علي بالشرح وبإسهاب في مقدمته المتميزة للمجموعة- ص 6).

الحركة الثانية الإشارة الواضحة لحضارة وادي الرافدين مع الإشارات الخفية لفلسطين (النخلة والعذراء ثم الصفصاف واللوز). ويمكن القول إن هذا الاتجاه يعبر عن رحلة تاريخية من نكبات الماضي إلى نكبات الحاضر، ويصنع فرصة لحوار داخلي، ومن خلف ستار، بين تهجير اليهود إلى بابل ونزوح الفلسطينيين إلى كافة أرجاء المعمورة.

الحركة الثالثة والأخيرة هي الانتقال بدراما القصيدة من المفرد إلى التثنية. ولا أقصد علاقة الرجل بالمرأة، أو المذكر بالمؤنث فقط، وإنما كذلك ضياع هوية المذكر بين أب وابن أو محب ومحبوب، واختزال الرجولة بصورة طفل. ويبدو لي أن هذا هو سبب الحيرة التي هي الجو الأساسي في المطولات العربية سواء في الشعر أو النثر. ومثل هذه الحركية أوجدت لدراما السماوي إيقاعا داخليا أنقذت القصيدة من الركود والتجمد، وقدمت لها هوية متحركة عابرة للحدود.

وعن ذلك يقول في قصيدة (ألفة - ص 104):

بين أضلاعي شعوب وأمم.

ليضيف لاحقا بكثير من الورع والتجلي:

أنا في قلبي الله. ص 103.

***

صالح الرزوق

.........................

* اصدار مؤسسة المثقف في سيدني - استراليا، ودار تموز، دمشق - سوريا 2019. وأرقام الصفحات المذكورة تشير لهذه الطبعة.

**في هذه المجموعة يذكر اللوز مرتين. أما الصفصاف فقد ورد في أعمال سابقة.

 

في المثقف اليوم