قراءات نقدية

عن رواية خان الشابندر.. تأليف محمد حياوي

حسين السكافمحمد حياوي.. من رحم الخراب.. صورة آخرى للحب

"إليك الحقيقة، لقد خُلقنا في هذا العالم، لنشهد سلسلة من المسرّات الطويلة والآلام المتناسخة." إنها العبارة الأولى التي يفتتح فيها الروائي محمد حياوي روايته "خان الشابندر"، ورغم ورود المسرات قبل الآلام، إلا أن القارئ لا يتلمس المسرات إلا في الحبّ المتخيل، البعيد عن الحياة اليومية المعاشة.. الأوجاع وفوضى الآلام المتلاطمة بين ثنايا الرواية تعزز حالة هستيريا الواقع، التي تمنح الخيال شحنة أكبر بغية الهروب نحو عالم أقل قسوة، عالم الحب المقاوم لهجمات القبح والتخريب المستمرة بعنف جارف.

"إن أحببتنا، ولو لبعض الوقت، لن نتركك تغادر سالماً.. لكننا سننقذ روحكَ من الغرق والتحطّم.. الغرق في الحياة الفاسدة حيث يَلتَهِم عقلكَ روحك.. لكن مع ذلك سنحبّكَ كما لم يفعل أحد من قبل.. وسنحدّثكَ عن القِصص والحكايا.. القِصص التي لم يسمع بها أحد من قبل، أو لم يرغب أحد بسماعها.. سنفتح لكَ كنوز صدورنا الحانية، ونأخذكَ إلى بحر الخيال.." عبارة يتسيدها الخيال، وتختفي عنها صورة الواقع رغم الاعتراف بفساد الحياة وشراسة الإدراك الذي لا بد وأن يرشد العقل إلى إلتهام الروح وتحطيمها..

"علي" بطل الرواية، صحفي عاش خارج العراق لأكثر خمسة وعشرين سنة، يعود بعد سقوط الديكتاتور، ليعمل صحفياً في جريدة محلية، يصطحبه أحد أصدقائه لزيارة بيت دعارة بغرض الاشتغال على تفرير صحفي أو "بحث اجتماعي" كما جاء على لسانه، عن وضع الفتيات في تلك الدور والسبب وراء انخراطهنّ في ذلك النوع من العمل، فيدخل بيت "أم صبيح" لتبدأ قصته مع اضطرابات الشخصية العراقية التي لعبت بها الكوارث المتلاحقة لتمسخها وتحولها إلى أموات يتنفسون ويمكنهم الحركة.. هناك في بيت الدعارة وتحت أصوات الرصاص والقذائف تنشأ علاقة حب بين بطل الرواية و"هند" إحدى نساء الدار.. علاقة لا ينقصها الوعي ومعرفة مرارة الواقع عن قرب.. "ما أن استعدتُ وعيي بعدَ القُبلة الطويلة، حتّى قالت هند ضاحكة: "الآن.. امتزجت روحكَ الهائمة بروحي المحترقة.. ما الذي ورَّطَكَ معي؟.. سأنتشلكَ وأحلّق بك في سمائي وأنا أخفق بأجنحتي الجبّارة.. حتى ترى ما لم تره من قبل!""

يشعر القارئ لرواية "خان الشابندر" أن أغلب الشخصيات وهمية لا علاقة لها بالواقع، بل هي شخصيات تعيش في ذهن بطل الرواية، يستحضرها أحياناً ليحدّثها، ويعيش معها لحظات يختارها هو، وأحياناً تأتي بها مناماته وكوابيسه المتلاحقة، لذا نجد أن أغلب الشخصيات هي في حقيقتها أفكار جاءت لتفصح عن مكنوناتها وإن ظهرت معقدة أو ضبابية بعض الأحيان.. ويمكننا الإشارة إلى شخصية "مجر عمارة".. العارف بخبايا الأمور والحكيم "أحياناً"، الذي ظهر مثل روح هائمة فارقت جسدها منذ عدة قرون.. فهوس الشخصيات التي تزخر بها الرواية وتناقضاتها، تشير إلى أنها لا تنتمي إلى الواقع بشكله الصريح، بل هي خلاصة يقدمها لنا مؤلف الرواية لتشير إلى تفاصيل الواقع المعاش.. فهم إما أن يظهروا على شكل أموات أحياء، أو أحياء أموات.. وهذا ما يؤكده لنا سائق التاكسي.. "أنا شخصياً استشهدتُ في (معركة) القادسية، ثم تبين أنَّني فُقدتُ في (معركة) "الشيب" وبعد ذلك، اُسِرتُ في إيران. وبعد سنين وجدتُ نفسي في مَصحّة عقليّة.. هذه السيارة الثانية التي أقتنيها بعد أن احترقت الأولى في انفجار (منطقة) الصدرية. خرجتُ منها محترقاً، وتعجَّبَ الناس كيف نجوت من الحادث! أنا ميت يا أستاذ من زمان.. فهل يخاف الميّت من الموت؟.. وفي مكان آخر يعزز المؤلف تلك الفكرة بوضوح حين يلتقي بطل روايته بأحد أصدقائه القدامى "سالم" الذي أُعدِمَ منذ قرابة الربع قرن، بسبب رفضه المشاركة في حرب الثمان سنوات.. "سالم" الذي أعيد إلى الحياة بعد ربع قرن من مقتله، بقرار من مخيلة بطل الرواية، نجده مواكباً وعارفاً بتفاصيل الخراب الذي يعيشه البلد وأبنائه، فحين يلتجأ إلى الحب ويتذكر زميلته في الجامعة وحبيبته "غدير" يحدّث صديقه القديم "بطل الرواية" الذي قابله صدفة متصوراً حالها في تلك اللحظة.. "ربما تزوجت، ولفّت فوطة كبيرة (حجاب) حول رأسها.. أغلب النساء من جيلنا يبدين كذلك الآن.. حزينات بوجوه شاحبة، ويلففن الفوط السود حول رؤوسهنّ بعد أن نسين شبابهنّ وأيّام الجامعة الملتهبة بالأحلام.. إنهنّ الآن أمهات يندبن أبناءهنّ الذين يموتون باستمرار في انفجارات الشوارع.".

"مالذي يجري لنا؟.. لِمَ الزمن ضاع إلى هذا الحد؟.. الزمن يكون أكثر وطأة وعدوانية في الحروب يا صديقي.." عبارة قد تختصر حجم اللوعة داخل النفس البشرية التي تعيش الخراب وتتنفسه، فالحياة داخل الرواية تقترب من الوهم، بينما الخراب هو الحقيقة الدامغة.. حيث حاول المؤلف تعزيز حالة الوهم المعاشة، بحركات وأصوات لها دلالاتها.. طيور ضخمة تطير، لا يرها، بل يسمع خفق أجنحتها العظيمة.. أصوات تدله على شيء ما يحتاجه، لا يرى مصدرها، يسمعها فقط.. تلك هي الحياة في بلد الكوارث، يأمرك المخفي أو الغائب أو حتى الميت منذ زمنٍ بعيد فتجيب صاغراً إثر حاجة في نفسك..

أغلب نساء الرواية أحببن بطلها "علي" الصحفي.. ضويّة، هند، أخلاص "لوصة"، حتى الصغيرة زينب بائعة الكعك، التي وجدت فيه أباً مشتهات، بدلاً عن أبيها الذي لا تتذكره حيث أكلته الحرب حين كانت طفلة، ونيفين، زميلة علي في الجريدة التي يمكن للقاري أن يتلمس صدق شخصيتها داخل الرواية، حيث تكاد أن تكون الشخصية الأكثر قرباً للواقع، والتي كلما حدثها بطل الرواية عن ما يجري معه من قصص ومشاهدات وأحداث، كانت تحاول أن تعيده إلى وعيه، معتمدة تذكيره بأن كل ما يقوله مجرد أوهام. وتلك اشارة مهمة على سيطرة المتخيل لأغلب أحداث الرواية، باستثاء الخراب الذي ظل ماثلاً أمام الحقيقة بكل وضوح، رغم الخراب يظل نهر دجلة محتفظاً بقدسيّته.. هناك يذهب الناس عن إيمان وقناعة، يغطسون بالنهر كي يتطهروا.. وهم يعرفون أن ماء النهر قد حمل العديد من جثث الأبرياء الذي قتلتهم رصاصات مؤدلجة.. "ضويّة" ذهبت للنهر مع "علي"، كي تتعمد هناك على الطريقة المندائية.. وحين عادت، مرّت على أم غايب التي تحتضن العديد من الأطفال المشردين، لنعرف أن ضويّة تشتغل عند "أم صبيح" لتعيل أولئك الأطفال وهناك غيرها أيضاً..

"أم غايب امرأة صالحة، تسللت ذات ليلة من مقبرة باب المعظّم وسكنت هذا البيت.. كانت تعمل ممرضة في مدينة الطب القريبة من المقبرة، قبل أن يقصفها الأمريكان ويقتلوا من فيها.. هي الآن تعيل مجموعة من الصبية والفتيات المُشردات.. تلتقطهم من الشوارع، أو يلجأون إلى بيتها.. ونحن نساعدها بما نقدر عليه بين الحين والآخر.. دوى انفجار هائل في مكان ما قريب أثار موجة من الهباب والدخان، تلته رشقات متقطّة من الرصاص ثم انفجار آخر أقرب من سابقه.." هكذا هي الرواية، كلما تتلمس إحدى الشخصيات إنسانيتها وتحاول مزجها تحت دافع الحب بإنسانية شخصية أخرى، تلاحقها الانفجارات وأصوات الرصاص، متلازمة تحتفل بها الرواية وكأنها تشير إلى عنوانها الحقيقي.. الحب من رحم الكارثة.. 

وأخيراً يمكننا استعارة ما جاءت بها الرواية لتشير إلى حجم الدمار الروحي التي صارت عليه الروح العراقية، التي ما زالت ترى الحب منبثقاً من وسط الخراب:

"كان نهاراً رائقاً من نهارات بغداد المكتوية في العادة.".. "ما تزال بغداد تدهشني بسحرها المُمزق بالقنابل.."

 

حسين السكاف – ناقد وروائي عراقي

 

 

في المثقف اليوم