قراءات نقدية

تأملات سريعة في التجربة الشعرية ليحيى السماوي

صالح الرزوقالجائزة الأخيرة التي كسبها الشاعر يحيى السماوي من إحدى الحلقات الأدبية في مصر فتحت الباب على تأملات في هذه التجربة الشعرية. وغني عن القول أن مشروع السماوي دخل في انعطافة مفاجئة بعد أن انتقل من الإحساس بواقع الأمة المؤلم إلى الإحساس بالفجوة النفسية لتي تتوسع بداخله على مدار الساعة. ويبدو ظاهريا أن الفصاحة والبلاغة هي أبرز صفات عالم السماوي، فهو مغرم بالتراكيب الجزلة والمفردات الأصيلة. ونادرا ما يكابر مع الصور لأنه يتبع القاعدة المعروفة في التصوير.. أن تكون هناك علاقة مجازية بين المشبه والمشبه به، أو بين الفكرة وأدوات التعبير. ولا أعتقد أن ضمن برنامجه أية خطة لاغتيال أو خيانة ما تعارفنا عليه.  وأقصد بذلك تقديم الإدراك على النظر.

لكن شعريته تجريبية أيضا. وتبدأ من فكرة يمكن تصورها ثم تنتقل لصورة يمكن إدراكها. مع ذلك هو يبقى  بعيدا كل البعد عن قصيدة الثمانينات العربية والتي كسرت التوازن بين طرفي المعادلة ووضعت الشعر بجانب النثر، بحيث أصبح للقصيدة فكرة نثرية. فقصيدة الثمانينات لم تتوقف عند حدود إلغاء البحور والأوزان والموسيقا (المسموعة أو الداخلية - كما يحب الأكاديميون أن يقولوا باستمرار)، وإنما اقتربت بنا من فوضى المشاعر التي نمر بها في حياتنا، وبنفس الجرأة التي اعتدت بها الرواية الحديثة على ترتيب الأحداث (والإشارة هنا لتيار الشعورومبدأ السببية).

لقد كان السماوي حريصا كل الحرص أن لا يورط نفسه في هذا المجال، وأبقى في قصائده “حتى النثرية” على توزيع خاص للكلمات بالتناوب مع التراكيب. ولمزيد من التوضيح: كانت الصورة عنده تفرض عليه اختيار مفرداته، ليكون هناك انسجام في البنية والمعنى- فبنية الوحدة الشعرية عند السماوي بناء دال، وتجد علاقة متينة بين حجم المعنى وحجم التراكيب. ويمكن أن تقول الجملة الطويلة لديه تعبر عن أحاسيس راسخة أو دائمة، بينما الجمل القصيرة تعبر عن فكرة عابرة.بعكس ما هو الحال عند جاك بريفير.. فعباراته وصوره سهلة وسريعة، ولكن معاناته مع المشاعر والأحاسيس دائمة.

لا شك أن تجربة السماوي تنتمي لشعر الحداثة. مع ذلك هو برأيي أقرب للكلاسيكية الجديدة. وأعتقد أنه يكرر ظاهرة الشاعر البولندي جيسواف ميوش بعدة نقاط. فهو مثله يعيد للشعرية علاقتها مع الطقوس والعبادات إنما بسياق غير لاهوتي. بمعنى أنه شاعر ذاكرة وتجربة لها علاقة بالواقع وليس شاعر إلهيات. وإذا كانت أولى مجموعاته ذات موسيقا مجلجلة وإيقاع وطني واضح، ويغلب عليها الصدامية والمشاحنة والهجاء، فهو في سنواته العشرة الأخيرة (ورفد بها رصيده بعدة مجموعات) يميل لاستعمال مفردات إسلامية بسياق غرامي. فقد توسع باستعمال كلمات مثل الصلاة والزكاة والخمس والصيام والجنة والنار، وللتعبير عن حالة هيام أو عشق. وهذا يعني أنه فرغ الكلمة من معناها المعروف وحقنها بمعنى بديل.

كما في قوله:

قبل أن تومئ لي

ادخل الفردوس إينانا

وتسقيني

شرابا من هديل (ص 85).

أو قوله:

كل يوم ألتقي

فوق بساط الصلوات

بحبيبي خمس مرات (ص 76).

وسرعان ما يوضح من هو هذا الحبيب المجهول فيقول:

أعرف الله

ولكن

لم أكن أعرف ديني (ص 86).

وقد استغل السماوي الفجوة المعرفية بين الفكرة (اللامتناهي)  وأساليب التعبير عنها (المتناهي) ليلعب لعبته مع اللغة في التقديم والتأخير حتى تصبح القصيدة بعيدة عن ما هو مكرر ومألوف.

ختاما إن هذه الجائزة هي اعتراف بشعرية الشاعر، ولكنها أيضا مناسبة لإعادة تفسير قصائده بكل ما تزخر به من مهارات. وأولها استعمال تقنية المرآة ليس لتشاهد بها نفسك، وإنما لتشاهد ما وراءك. بمعنى أن مرآة لاكان أصبحت سطحا عاكسا لمعاناة عامة وليس لإدراكات خاصة. وهذه فكرة جديدة يمكن أن نبدأ منها لتفكيك لغة الأعماق وإعادة ترتيب ما تحمله من مفهومات وتراكيب مبتكرة. مثلا كيف ولماذا عكس اتجاه سهم التطورمن النهاية إلى البداية، أو من الدين إلى الأسطورة والعاطفة.

 

صالح الرزوق

...............

* الشواهد من مجموعته الأخيرة: (نهر بثلاث ضفاف) الصادرة عن دار تموزبدمشق. 2019.

 

 

في المثقف اليوم