قراءات نقدية

أشكال السرد في: فرن الخواجة لمحمد الأحمد

1225 محمد الاحمد يصنف محمد الأحمد كتابه "فرن الخواجة" تحت عنوان سرديات. كما ورد على الغلاف. لكن يمكن أن ترى إنه 13 قصة قصيرة، يخالف بها نفسه. والاختلاف هو القانون رقم 1 في كل نتاج محمد الأحمد. فهو ينأى في الكتاب التالي عن السابق. وإذا اعتمد في روايته (دمه) على الخطاب التاريخي من زاوية تعارض كل أشكال وأساليب المدونة، أو الذاكرة الثابتة للكتابة عند العرب، فقد اتبع في "متاهة أخيرهم" أسلوب المذكرات البسيطة. وجعل الحياة بمستوى النص. وركز بكل الفصول على خارج الشخصيات وليس على داخلها. بمعنى أنه حول روايته إلى مشاهد مألوفة وتدخل في عداد ما يسميه فوكو "نثر العالم". وهذا بعكس ما فعل في روايته "ورد الحب وداعا"، فقد عمل النص على تجزئة الحياة وتحويلها إلى صور في مرايا. ولم يعد بمقدورالشخصيات أن تجد لنفسها أشكالا ثابتة بمعزل عن الطبيعة. كانت كل شخصية موزعة على عدة أمكنة وفي وقت واحد لتساهم، في صياغة غير مفهومة لعالم بسيط ومفهوم. ويتابع محمد الأحمد هذه المغامرة في “فرن الخواجة”*، ولا يحاكي بقصصه الواقع وإنما يساهم للتعريف به. لذلك وزع النصوص على محاور مختلفة تعبر عن تعدد الواقع الذهني والاجتماعي لإنسان هذه المرحلة. أو ما يسميه زيجمونت باومان بـ “الحدود السائلة".

يقدم المحور الأول قصصا تأملية، منها "الحديقة الافتراضية”، ”العقل المريض بجماله”، وغيرها. وهي تسبر أعماق الشخصيات التي تبدو لنا بلا ملامح. كأنها مربع تلعب فيه الأفكار والتخيلات. وبعضها أوهام يعسرعلى الإنسان تحقيقها لكنه يأمل أن تتحول في المستقبل القريب إلى واقع. أو أقله لمنفذ خلاص من المشكلة الوجودية التي تحولت لدينا إلى سياسة. وتقترب هذه النصوص من تجربة هيرمان هيسة، فهي رواقية، وقليلة الحركة، كثيرة الثبات والجلوس. ومسرح الأحداث محدود بغرفة أو بحقل أو بشارع طويل في طريق غامض يخيم عليه الضباب والظلام. ويمكنك سماع صوت الطبيعة أيضا. فهي تشارك الشخصيات بالتفكير والكلام، كأنها مؤنسنة كما فعل هيسة بالضبط في (سيدهارتا) ثم في (لعبة الكريات الزجاجية). ويمكن أن تجد عناصر من رواية غارودي اليتيمة (من أكون باعتقادكم). فالأفكار لا تخلو أحيانا من إحالات لمصدر القيمة في الواقع. ولكن لا يمكنني القول إنها قصص فلسفية بمعنى الكلمة. فالأفكار شاركت بقية العناصر في بلورة البنية، وربما كانت تقابل دور الأشياء في قصص بوتور ورعيله. لقد حل تسلسل الأفكار محل الشخصيات، ودخل إلى الحبكة كعنصر نفعي. بتعبير آخر وضع القصة على رأسها إذا استعملنا نقد ماركس لهيغل. وعلى وجه الإجمال تميزت هذه القصص بميزتين.

1- تداخل بطل القصة والكاتب. حتى أن بطل أول قصة ومنذ أول سطريقول:"في البدء كانت حاجتي الماسة إلى إيجاد اسم أتخفى خلفه، لأكتب ما أريد كتابته تخلصا من أية ملاحقات آنية، أو ملامة". ويردف بعد عدة سطور: "فأنا أريد.. أن أطلق الصوت الذي حبس في داخلي طويلا وخاصة بعد أن زادت الرقابات وصار المرء منا لا يحسن الاختباء وراء اسمه" ص10..

2- استعمال شكل الميتا سرد أو الكتابة داخل الكتابة. وإذا كانت هذه حيلة فنية في نهايات عصر النهضة للتهرب من تهمة التخيل أو المراوغة والاختلاق وتشويه الحقيقة (كما دأب كتاب العصر الفكتوري المتأخر)، فهي هنا أداة لتقريب الكاتب من نفسه، وللتأكيد على التساوي بين المكتوب والمعاش، أو الافتراض والواقع. وهو ما يؤكده بطل قصة ” الحديقة الافتراضية “حين يرى أن أفكاره تتجسد كلما وقف أمام المرآة ص .21.

المحور الثاني قوامه افتراضات مبنية على خبرات الكاتب. ومنها آخر نص في المجموعة وهو "أين تكمن القيمة". وفيه كلام عن الانطباعات التي تركتها الأعمال العظيمة في ذهنه، مثل أعمال دستويفسكي وتولستوي وكافكا وآخرين. وتبدو القصة في هذا السياق كأنها خاطرة أو مونولوج أو على الأقل اعترافات ذاتية. ويمكن تشبيهها بأسلوب طه حسين في كتابه المعروف (نقد وخصام). فالأفكار إما أنها مع أو ضد. بمعنى أن تيار الانطباعات لم يكن محايدا، ولكنه يعمد لتعرية نفسه ومواقفه. وباعتقادي أن مثل هذه القصص ليست ذهنية، ولكنها انعكاس تجريدي، لأوهام الكاتب، ولأثر علاقاته مع بيئته. وربما كانت تحمل قيمة تصويرية للعالم النفسي، من خلال الإسقاط والتحويل. وإذا كان بطل قصة "ليست بشيء يذكر" يعتقد أن التاريخ تصنعه الأفعال وليس الخيال (ص 141) ، فهو سرعان ما يناقض نفسه ويردف: إن ما نعرفه عن الماضي هو من بنات مخيلة الأفاقين والمحتالين، والمدونة خاضعة لإرادة الملوك، وأن المكتوب ناقص والباقي وهم وخرافة .ص141. .

ويبقى محور أخير وهوقصص قصيرة جدا، تخبرنا عن أفكار كثيرة بسطور قليلة. وكما ورد في تقديم مجلة "سرديات" للقصة الومضة: إنها تقدم لنا العالم بمساحة صغيرة تكون بمتناول أيدينا.

ويضيف محمد الأحمد لما سبق 3 أسباب.

1- أنها أسلوب للدفاع عن الذاكرة من النسيان والسكون.

2- وأنها أفضل أداة للتعبير عن الخوف من الكتابة. أو كما قال في قصة "المعرفة": هي إقرار بتناهي المخيلة أمام التاريخ. ص 132.

3- ثم أخيرا هي محاولة لرسم بورتريه واقعي لحياتنا بكل ما فيها من فراغات ومساحات بيض (كما ورد في قصة "دوغمائيون"). ص 131.

لا تشبه هذه المجموعة تجربة محمد الأحمد السابقة. فهي تبني على القطيعة مع ماضيه. ويبدو لي هنا أنه أكثر استطرادا، وتهمه التفاصيل وصوت الإنسان من الداخل. وبلغة أوضح: كان، في هذه القصص، يفكر أكثر مما يرى، ويحلل الكون الداخلي للتجربة الإنسانية أكثر مما يسرد. ويعتمد على كثير من التأمل والقليل من الكلام. بتعبير آخر هذه المجموعة ينقصها "االسرد" إذا استعملنا مصطلحات الناقد الأدبي حمزة عليوي في كلامه عن “إثم سارة” لنجم والي.

ومنعا لسوء الفهم. المجموعة لا تختلف مع عنوانها. فهي فرن يعيد صهر وإنتاج المعنى الفني للقصة من خلال تشذيبه من نفسه. حيث أن الحبكة معقمة من الحكاية، ولكن تحمل الكثير من المعاني الحكائية. وهو ما أرى أنه منعطف جديد في مسيرة الكاتب وفن القصة العراقية على وجه العموم.

 

صالح الرزوق

.......................

* صدرت عن دار الورشة الثقافية ببغداد. 2019.

 

 

في المثقف اليوم