قراءات نقدية

مكان في القمر.. قراءة في رواية عقد التوت للكاتبة مليكة رافع

حدّثوني عن نفسي قليلا،

سامروني بالحكايات عن دجلة والفرات وسيرتا

أفرحوني بأغنية العيد

لا تتركوني وحيدة في العتمة.

....زهرة الثلج....

لكن أحلام الأزهار أكبر من ألا تتفتح، فما أكبر من ألا تتفتح الأزهار؟ العذاب؟" أفضل عذاب هو عذاب الزهرة/ الوردة في الأغاني"

إذاً؟

هذه الرواية أغانٍ. وفيها وردة تتعذّب/ زهرة الثلج

إنها أنين الوردة ويشبه "حديث القمر" للرافعي. كأن ارتباط الاسم بالاسم ليس صدفة.

وإنها الحلم، ويشبه زهرة الأمير الصغير لسانت اكزبيري'Antoine de Saint-Exupéry.

إنها المناجاة، ويمكن للمناجاة أن تكون رواية مثل الاعتراف . فهي قلب مفتوح حتى لو لم يكن ثمّة وجه لوجه.

أدخل الرواية من فصلها الثالث، وإن سألتموني أين كنت أقول يحدث أن. بابلو نيرودا

لذلك، أيضا تقول الكاتبة يحدث أن نحب في اللاشيء ونبني من الحلم كوكبا مبتكرا ونجعل من الغياب حضورا. يحدث أن، ليست عبارة عشوائية، بل مكان وفيه حدث حتى لو كان في الذاكرة. إنه مكان في القمر.

الحدث، شهر الميلاد / فبراير. وعند اليونان هو شهر يتطهرون فيه من الذنوب والخطايا. لعلّ الكاتبة تريد تطهير أفكارها الأولى بهذه الرواية.

في الحقيقة، وجدتني أمام تراكم قصاصات شعرية مذهلة من لدن ملكتها، وأخرى قطف أنيق مختار من أفواه شعراء الكون وأستأنس هنا بقول محمود درويش/ من أين تاتي الشاعرية،،،، من وردة حمراء في الصحراء أو " من زهرة برية تناور الحب في البرد" تضيف زهرة الثلج. هذا اختصار شعري لكلّ الرواية.فإلى التفصيل.

تبدأ الرواية بأسطورة دجلة والفرات كمرجع تأريخي ذكي للولوج إلى سرد ماتع يمزج السياحة بالحكاية فيبرز قسمان كبيران، المدينة والريف. مدينة بحرية أنتجت عناقا وقرية جبلية تعوض العناق بالذكريات.

لكن، السياحة لم تمح رصد الحياة في كلا المحلّين. المعاناة والمتعة على السواء. فمثلا في العاصمة (مدينة بحرية) تغرينا الكاتبة قائلة: التفرج على كورنيش البحر الأبيض المتوسط يبدو مغريا. والمدن الواقعة على البحر تحمل تراكمات أسطورية، يبهرني عناقها الدائم مع الأمواج. وهنا الانعطاف، إسقاط أمواج البحر على الأثير. ويأتي على قول سلمى أيلول إإحدى شخصيات الرواية: لطالما شغلت أمواج الأثير العاشقين .

إنها تمشي بحكايتها الخاصة بين الأماكن والأشخاص تشهد الكل على حب البطلة ميار لأرسلان / الأثير . أو تقحمنا فيها متعاطفين أو مشاركين. فأذكر حينما عرفت الكاتبة كانت باسم ميار، وقد جمعنا هوى الأثير أيضا، فأرجح أن الرواية كتبت أو عاشتها البطلة في ذلك الآوان، فأشعربوجودي أيضا ولو ضامرا فيما حدث. فأحببت البحر وشوارع العاصمة والأثيرورواية أرسلان الثالثة " سيرتا" ودجلة والفرات ومغراوة.

وتغرينا أيضا بالقرية، وتؤكد باشتقاقها الاسم مغراوة من الغواية. وتجمع بينها بألفة طبيعية فتقول: السفر من المدينة إلى الريف يشبه المشي حلما بين جسريين سماويين.

ثمّ تمضي بالسرد رشيقا ذكيا بين المدينة والريف . واصفة مقارنة لا تخلي موضعا لا ترصّع عليه قصّة الحب الأثير، لكن، ورغم هيمنة الحدث الشخصي للبطلة، فإن الرواية تأريخ للمكان.العاصمة ومغراوة. تاريخا، وحياة، وحوادث ونازلات.

ففي العاصمة، تأريخ للقصبة، لقصر رياس البحر، لشوارع العاصمة . وتأريخ للنوازل، بالتحديد اللجوء السوري في الجزائر من خلال سلمى أيلول. واللاجئين الأفارقة والمعاناة في الوطن من خلال وصف المشرّدين على حافة البحر في رمز مؤلم حاذق وهي تصف بقولها: ملابسهم ممزقة لا إبرة سترقعها غير التمرد أو الاستسلام وعلى حافة البحر، لا نداء غير البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فاحرقوا المراكب / احرقوا.

حتى وهي تصف القرية مغراوة مسحورة بالطبيعة، لا تنفك بالرمز تشيرإلى درب ما للحياة أو الموت دونه. بل حتى في عرض الشخصيات / الجدة فاطمة الخالة مسكية العم نوبلي وحسن . خاصة حسن الراعي الشاعر الذي يقول ردّا على بابلو نيرودا:

إني مولع بالضباب، أتوق للبحر والعمر يضيع

أنحت من حجارة الوادي شعرا

أتأهب للشمس أقول لها أطيلي أو لا تطلّي.

أطيلي أو لا تطلي، هاهو الخيار أيضا الحياة أو الموت.

البحر أو لاشيء أيضا . فلم البحر للحد الذي يحدّ فعلا الحياة؟

مليكة رافع من الشجاعة بمكان، لتصحح رؤى سابقة، لا تقبل أن يكون البحر " بح"، فيوجد فيه راء، راء الرفعة، لذلك ترفض مايقال: يوجد في النهر مالا يوجد في البحر . بل ما ينهره النهر يشجعه البحر.

ومن هنا حضر البحر قويا جدا، ويتوق له حسن ابن الأنهار . مليكة رافع من الشجاعة لتقول إنّ الحضارة التي أبدعتها الأنهار، تصونها البحار. فلابد من صيانة وتلميع لكل إبداع. إنها تنقل الأهمية للبحر، لأن دجلة تخجل وفرات فتر. وهكذا تعلّمنا أن الأساطيرمازلنا نحياها بزي عصري.

مليكة رافع من الشجاعة لتغير في مفاهيم العظماء، فلكل إنسانه الخابر بالحياة، حيث تقول معارضة أفلاطون / معرفة الأشياء تؤدي إلى معرفة الأسماء.

وصحيح هذا، فها أنا، عرفت اسم ميار لأني عرفت مكانا على القمر. هل عرفت قبل أن ميار يعني " الضوء الذي يحيط بهالة القمر؟

المغزى / أليس العذاب لذيذا يا وردة؟

كانت البطلة / الوردة، فنانة، رسامة وشاعرة وهنا توافق وشخصية الكاتبة لذلك فاض التداعي وكاد يغرق الرواية لولا أن كان من التداعي استدعاء لما يخدم النص، وهو متعدّد، أحصر منه بعض السحرفيما يأتي.

اختارت الكاتبة الوصف وهو مايلائم السرد . خاصة في وصف العمارة سواء في العاصمة أو في القرية.

اللغة الجزلة المتنوعة الحاضنة لمختلف المشاهد . واعتماد الألفاظ الدلالية للأشياء خاصة فيما تعلق بالقرية مثل المراح، الكُدر، الشموخ الصحين، تغدف، البخنوق.

التناص الجميل مع روائع الأدب مثل حضور ابن الفقير لمولود فرعون وبقوة في الجزء الخاص بالقرية .

وطغيان جبران خليل جبران في الجزء ذاته حين تعانق الطبيعة.

حضور الأسئلة الفلسفية واستحضار ثقافي مهم متنوع من العلوم إلى الفنون وزخرت الرواية بأنواع عديدة

في البلاغة . فقد أظهرت الكاتبة بيانا ساحرا وقدرة على وضع المعنى تماما على ألفاظه. وآخذ لكم مثالا على حسن التقسيم / تقول مليكة: تدللني الشمس وتغدقني بالأمنيات بينما يغمرني المساء في العتمة فأعانقه وأنام.

استدراج المعنى بشكل ملفت للدهشة مثل /

رغبت في المشي على سكة القطار

ربما ماتت خجلا تلك القطارات التي أضاعت طريقها (بابلو نيرودا) هل يخجل حبيبي من غيابه؟

السفر على متن القطارات كأول تجربة سفر في الطفولة

الوقوف قبالة محطة قطار ذكرى

أشدو لمليون ذكرى

هناك مواعيد واللقاء الذي يشبه القطار اصطدم بسكة الوجع.

-حسن تضمين الحدث الشخصي في الجهاز العام للرواية مثل /

رائحة الخبز تتسلل وأغاني الشعبي

شباب توزعوا على الرصيف

المتسولون، اللاجئون، المطر، عون النظافة، بائع الورد

تغيرت لافتات الشوارع التي كانت تحتفظ بذكرياتنا. هذه الصدمة غير المتوقعة هي إقحام حسن للحدث الشخصي في الرواية / ميار وأثير

-ذكاء التعبير وأخلقته مثل: قلت لعون النظافة، ارفع رأسك يا عم

ومثل: التقيت سيدة تحمل قفة مقتنيات . ساعدتها، أمطرتني دعاء وقلت آمين.

- حسن الاستهلال /حديث في الضوء. تمهيدا لربطه بدلالة اسم ميار وبالأثير وبالبطل.

...

بقلمي/ إلهام بورابة

 

في المثقف اليوم