تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

قراءة تحليلية في قصيدة درس في التاريخ للشاعر: خالد علي مصطفى (2-2)

وفي الأخبار على لسان العبسية يتعرف القارئ على إرث يتوارد في أفكار الآخرين، حيث يتأكد أنّ هواجس الخوف من الذي حدث متوارثة، إلاّ أن أحداً لم يعتد بها، وهذا يعود للتجاهل أو للجهل والحماقة، أو للمكابرة على الجرح، ما يرينا الشاعر وقد افتتح نصّه بنص قرآني متكامل البناء، حيث تمت عملية الربط بين الأشياء والواقع وما يربطها عبر الذاكرة الزمنية، إلاّ أنها أخذت الصدارة وبدأت تتعمق أياً كانت المتاعب والمشقّات وحالات العذاب المتعددة، فالصياغة التي تعبر عن الذات الشاعرة أتيح لها أن تعبر عن مأساة وأزمات يعيشها الناس، قبل نيسان وبعده، إلاّ أن الشاعر استطاع الوصول إلى لحظة الكشف عن مكنونات الجرح المتجدد، لذا نجد سمات مختلفة تسمح "بعرض التفاوت والتنافر والتناقض وتعدد أوجه التجربة".(عاشور رضوى111) .

الأخبار التي أوصلها الشاعر على لسان العبسية، ووصفها شكلاً، ذلك الوصف الذي أبان عن هم متجدد قد نال من بنية الراوي والمتحدث والمتلقي والمتيقن وبين حدوث معمعانية نيسان، نرى الإنسان يعيش في التجربة ذاتها والهموم عينها، لا ينفصل عن واقعه، ولا ينفصم عن ذاته فكانت النتيجة حتمية الوصول إلى قناعات مُسلّم بها، أوصلت إلى اللمسة الأخيرة في صنع صورة الحدث، لذا لم يخفت السؤال عن طبيعة الحدث كون المتحدث امرأة، وإنما أخذ الجميع يستطرقون مكونات الحدث موضع التساؤل الذي حملته العبسية، وإن جاء على صيغة القول المروي "قالت" وكأنّا أمام حكاية تُروى، حتى يتجسد لنا أن الحكاية تشكل الارهاصات الأولية لنص مكتوب، فتكون العبسية متحدثة عن الذاكرة التي توضح للآخرين ما كان وما يكون، من أجل إظهار مساحة من الدهشة والاستغراب، وخلق حالة من الاستمرارية في القص على الرغم من مرارة المروي والنتيجة السوداوية التي تجسّدت بعد مجيء نيسان، المحدث، إلاّ أن يستتبع الحالة التفصيلية للحدث المكتنز في أفقه الممتد والذاكرة المليئة بالمكونات، المتراكمة التي تحاول فقدان الترابط، إلاّ أنّ الصيغ الترابطية لم تزل قائمة ولغته لم "تتوقف عن أداء وظيفتها". (كوهن جان199). مهما اختلفت صيغ التعبير المختلفة.

إنّ فكرة الشاعر أخذت حيزاً كبيراً في عملية النظم الشعري، فعلى الرغم من امتداد أسطره الشعرية لم تفقد اللحظات المدهشة منذ دهشات عتبة نصه حتى اخر سطر فيه "هل يستطيع المرء أن يعيد لأم رأسه المقطوع، بالرقبة، ويستدير صاعداً إلى بقايا البيت فوق الهضبة؟!".

فالحكاية أو الحالة الاخبارية التي يقصّها الشاعر نظنها لعبة الإنسان مع الزمان والمكان، فيكون الشاعر قد شاغل نفسه "وكذلك الآخرون بالكلام للابقاء على عقله إزاء العدم والصمت المغلق والمريب الذي ترصّه بعشرات الأقنعة والوجوه" (الموسوي محسن جاسم13). لكن هذا ليس كل شيء... ثمة أمور أخرى يمكننا أن نحسّها في استمرارية التفاعل مع النص.

كذا روى من جاءه علمٌ من الكتاب، / أضاف: غير أنّ جسمها قد استعاد نضرة الشباب/ حين استقام الرمح في قامتها/

على منصّة العذاب/ فأخرجت، في غفلة الجلاّد، منديلاً معطراً/ في غفلة الجلاد. منديلاً معطراً/

 من بين ثدييها وعصّبت به جبينها/ وقبل أن ترتد للجلاد عينه إليها، غابت العبسية الحسناء/

ولم يلح لها أثر، والسوط ذاب لا ذكرى ولا خبر!/ يروى عن الجلاد قال:/ لربما زال الحجاب عنها، /

 وربما كنت أنا الضحية العمياء/ في مسرحية بلا نص ولا ممثلين/ على منصة بلا زمان، / أو مكان/ أو مشاهدين!/...

وجاء في حاشية الخبر: سمعتها تهمس أنّ قطرة من عطرها/ حطّت على المنديل/ طار بها في لمحة البصر، /

إلى حديقة من الحلفاء والبردي في (قرطاج)-/ قيل هناك الليل غير داج/ وليست السماء ذات أبراج/

وقيل أنّ الشمس فيها حارسة، / ولن تغادر الربيئة التي/ تشرف من قنّتها على الطلول الدارسة!/ (مصطفى خالد علي7).

العبسية غدت عرّافة تتداخل وظيفتها، ما جعل هيكلها الخارجي تتفاوت صوره البصرية تبعاً للمتحدث والمتلقي، فنراها استطاعت قراءة الماضي والحاضر والمتوقع، بلغة كسرت جبروت الخوف عند حالات التلقي، حتى يتيقن الآخرون أنّ المستقبل لا يبتعد كثيراً عن هموم وتوقعات العبسية، فنراها قدمت برهاناً على أنّ العلاقات بين الناس غير مرتهنة بحكاية أنثوية تُروى، أو قصة تُحكى، دون النظر عمن يقصّها، وإنما تتحقق بكينونة الخلاص من تبعات الثقل الواقع على كواهل الناس، لذا جاءت صور العبسية عند الشاعر متعددة، فمرة كانت "عجفاء" وأخرى تحرسها الشمس مزدانة، وهذا يمثل انتصاراً لواقعها، ما يعني أن الحدث سوف يتبدّل، وإن كثرت مرتكزات الشاعر أو متكأآته التي تشكل الحالة التلازمية في نصه كما مفردة "نيسان" التي أخذت الحظوة الكبرى، وتليها العبسية بهيأتها المتعددة، وبدون تلك المتلازمات نشعر أنّ النصّ ينهار ويصبح حالة من التكسّر والتشظّي لا يستطيع الشاعر جمعه وامداده بالانطلاقة، إلاّ أن مرتكزاته تميط اللثام والغشاوة وتؤكد حالة التوحد معه والتفاعل البناء، فتعيد حالة الصياغة سيرورة الزمن وانثيالات الواقع، لأن الصياغة تتسع وتتعدد اتساع أفق النص، "فثمة دائماً ما يمكنه أن يقيس حجم وعينا وشكل رؤانا".(جبر مريم63) .

إنّ الرمز أو الصورة الرمزية المتعددين في أوجه شتى، "يهيمنان على البناء العام للقصيدة، إذ يبينان عن طاقة وصفية واضحة، إلاّ أنها مختلفة الظهور من مشهد إلى مشهد، فالرمز يوصل إلى تطوير المساحة الشعرية وتعميق الدلالات تجاه خلق نسق عام مبحوث عنه، وتصبح مسألة الانزياح الشعري نسبية، إلاّ أن هذا الانزياح لا يجعل الانقطاع وعدم التواصل مع النص متحققا، بمعنى نجد نص الشاعر هنا بعيداً عن دائرة الغموض الكامل أو الجزئي، فليس صعباً على الباحث أو المتأمل في النص أن يتواصل مع النص واستقرائه، فلو أمعن الشاعر في الإبهام من خلال التكثيف وخلق حالة الانزياح، لأصبحت حالة التماثل مع النص مفتتة، ويكون التلاقي مع استقرائه عملية صعبة، والحالة الانفعالية هي السائدة، إلاّ أنّ الشاعر حافظ على حالتي التوازن والمواءمة في بنائيته للنص "حيث كل العناصر مكونة له (الدلائل- العلاقات المبنية) لها دور في إنتاج المعنى". (المرتجى أنور63).

لا شكّ في التفاعل القائم بين حالتي التذكر والتخيل لدى الشاعر، الواردة على لسان العبسية، وهذا يتماثل في كيفية التعامل مع المساحة النصّية، التي نستشفها من المادة المنتجة من حالتي التذكر والتخيل معاً، لذا نؤكد أنّ الشاعر عمد على ترهين الذاكرة وتعميدها بألم الراهن وانكسارات وهزائم الواقع، مع الخيبة المسترسلة منذ زمن عميق، وأظهر لنا المنطلقات المركزية التي تنبثق من أعمال الذاكرة، بذا تكونت لديه ذاكرة شعرية لها حظوتها في الزمان والمكان معاً.

لذا لم تعد رموزه وصوره للدعامة والتزيين والزخرفة الدلالية، يمكن الاستغناء عنها، بل غدت تمثيلاً جوهرياً لرؤية الشاعر وتجربته، مصدراً للخلق الدلالي في بنية النص الشعري، فنجد الصور النامية التي تساعد في عملية البناء العفوي، فنرى الصورة التركيبية (الصورة- الرمز) التي تحدث في النفس المتلقية كشفاً عن غوامض الشاعر ورؤاه، وكذلك نجد الصورة الرمز أي التي توصلنا إلى رمز ديني أو صورة تحيلنا إلى مكونات معرفية وثقافية يمتلكها الشاعر، فيكون نصه معبراً لنا حتى تتماثل في عقولنا على هيأتها التكاملية.

إذن صوره ورموزه أوصلانا إلى معرفة أشياء كانت مخبوءة إما في نفسه وفكره أو في التاريخ بعمقه ودلالاته المتعددة، فماحديث العبسية وحالات الاخبار التي جاءت بها، ومن ثمّ اخفائها، ما أدى إلى تعدد مسميات الأماكن التي اختفت فيها فمرة نراها "وراء رأس (يحيى) ومرة في (صور) وأسوار أريحا، وبحر الملح، كلّ ذلك رجماً بالظنون.

تلك المسميات تخلق عاملاً نصياً ينطوي على فضاء كامل من الاحتمالات الدالة على الهدف التفسيري فالرموز التي جاء بها مفهومه في المدلول المتوحد في ذاتها، إلاّ أن رمز "رأس يحيى" يحتاج إلى عمق في التتابع والاستدراك، إذ من حق الإنسان أن يتساءل هنا هل المقصود هنا "يحيى العمدان" عندما أعدمه أحبار اليهود، انتصاراً لشهوة حبرهم الأعظم، عندما طلب منه الافتاء بزواج الرجل من ابنة أخيه، فرفض منتصراً لعقيدته السمحاء، فكان جزاؤه الإعدام، أم أن المقصود برأس يحيى هنا، هو يحيى البرمكي الذي تربى في حجر العرب والبيت العربي والثقافة العربية والعقيدة الإسلامية، إلاّ أنه استأثر بالمال العربي خدمة للفكرة الفارسية وفلسفتها في الحكم، وانتصر للتقاليد الفارسية وقيمها، علماً أنه يحكم باسم الخليفة العربي المسلم، كلّ ذلك وغيره جعلت الخليفة والعنصر غير العربي ضد الخلافة العربية الإسلامية بمقوماتها المختلفة، وامتدت هذه النقمة حتى يومنا هذا، إذ توحدت الإرادة الفارسية الصفوية مع الإرادة الصهيونية والانجلوسكسونية، وربائب الأحلاف المذكورة، ونتاج المدرسة الرباعية، حتى تتوحد الأركان الخمسة، وتمثل ذلك في احتلال العراق، وتدمير البنى كلها.

إذن الذاكرة الشعرية لدى خالد علي مصطفى مليئة بالرموز والصور الرمزية الحاملة للفكرة والهدف معا، ونراها "متماهية مع عمق تاريخيته في الذاكرية البشرية وتجلياتها الابداعية"(عبيد محمد صابر114) . ونرى قصيدته وقد اكتسبت الحضور الأوسع والأكثر قوة في تجلّي الذاكرة التاريخية الرامزة وتفعيلها شعرياً، وجعلها حاضرة في صداها الدّال بإيقاعه وبنائه حتى تستقر في الضمير والوجدان الباحثين عن حقيقة مضمرة في شعره، وهذا يتوكد للقارئ من خلال مفردات رامزة مأخوذة من ثقافة متعددة المشارب ومتسعة الرؤى، فنراها تارة دينية وأخرى تاريخية وأخرى واقعية معاصرة، (خراف موسى، ومئزر المسيح أو خرقة الحلاج، ومواكب الحجاج والملائكة والقذائف المباركة").

إنّ ابنة عبس وما ترويه يرتبط جوهرياً وجدلياً بالزمان والمكان معاً، فنراها إلى جانب نيسان، تشكل عنصراً حيوياً فعالاً يمتد ارثها وعمقها إلى الجذور العميقة في التاريخ القديم والمعاصر، وهي بمثابة المرآة التي تعكس القوى الأسطورية والدينية والجمالية معاً، ما يجعل نص الشاعر ثرياً بالطاقة والحيوية والتجربة، ما يرينا نصاً مكتظاً بلغة تحمل ارثاً ثقافياً متعدد المشارب، إلاّ أنّ النزعة العروبية الصافية تأخذ حيزها الأوسع في عمقه التفكيري ودلالة نصه الفني والإيحائي، حتى تستقيم حكاية العبسية وتتغير ملامحها في الشكل والجوهر، فبدلاً من ارتمائها في أحضان التاريخ "في بلاط ذي يزن"نرى أن محاربيها ورافضيها يتفتتون وتتنصر في نهاية المطاف، فما سقوطها في بلاط ذي يزن إلاّ انتصاراً للفكرة العربية في عملية إعادة البناء بعد معادلة نيسان المعاصرة علماً أن "ذي يزن" من قاد الثورة التحررية ضد الاحتلال الفارسي لليمن قبل الفتح الإسلامي، وكأنّا به يقول: إن التاريخ يعيد نفسه، من أن الاحتلال الفارسي عاد إلى العراق بعد التوحد مع الصهيونية والامبريالية كما توحد الفرس مع اليهود عند حرق بابل عام 539 قبل الميلاد، ومن ثم الصراع الصفوي التركي الذي أوقع جزءاً كبيراً من الأرض العربية في العراق تحت السيطرة الفارسية، بمعنى لم يستطع الفرس تمرير أفكارهم واحتلال بلاد العرب في السابق واللاحق إلا بوجود ركيزتين اثنتين هما: العامل الخارجي متمثلاً بالأطماع الأجنبية والمكائد والدسائس، وأما العامل الثاني فيتمثل في العمق الداخلي، حيث تجد بعض المريدين لإعادة هيكلة الدولة الفارسية الصفوية كي تشمل العراق وبلاد فارس، فيصبح الحلم الفارسي حقيقة، إلاّ أن الشاعر ينتصر للفكرة العربية والثورة العربية من خلال العودة إلى "ذي يزن" حيث المستقر الأخير للعبسية وهي منهكة مغشي عليها، فتكون الإرادة العربية وثورتها هي الحصن الأمين للرافضين للاحتلال الجديد للعراق، كما رفض "ذو يزن" الاحتلال لبلاده منتصراً لعروبته الممتدة في التاريخ ارثاً وفكراً وحضارة، فيكون حلم العبسية قد تحقق ألا وهو حلم الشاعر المتمثل في الخلاص من الاحتلال مهما تعددت مسمياته وتنوعت أعراقه، ومثل ذلك يشكل جزءاً أساسياً "من حياة النفس البشرية، لا مفّر لنا من مواجهته إن نحن أردنا فناً يصف النفس، ويلمس حياتها لمساً دقيقاً". (الملائكة نازك23)، علماً أنّ العبسيّة استنجدت بالآخرين حتى تحقق الحفاظ على ديمومة الرفض والبقاء "تصيح من يبتاع منّى هذه الصحيفة، لقاء ما يخصّب رحمي" إلاّ أنّ صرختها لم تجد آذاناً صاغية، أدى بها إلى حالة الإعياء والإغماء اللا إراديين، وتكون إرادة العروبة النقية غير المؤدلجة هي المنتصرة، لأنّ العروبة أنقى وأعظم من أي فصيل أو فكرة ينتحلانها أو يتشحان بها، فيكون التاريخ النفي للثورة العربية هو من يتصدى للاحتلال ممثلاً بذي يزن.

ظِلٌّ لتمثالٍ وديع من بقايا الآلهة/ يسقي السكارى ما تبقى من دنان قرطبة./

قد رحل التمثالُ في سفينة الأسر مع (الزباء)/ وخلّف الظلّ وديعة/ في حانة المطار/...

قالوا: هي الأشباح، / ومرة قالوا: كلابٌ جائعة، / ومرة: تراءى آخر الهزيع في ثمالة الأقداح!...

نيسان ظل صامتاً/ وفي جيوبه تصلصل الملائكة، / وابنة عبسٍ، وحدها تحرس بئر الحبّ في الكثبان/...

لا ماء في الحدائق الغنّاء!/..../ وابنة عبس لم تقل: كان أبي يقول هذا.../

لقد تفجرت عظامها/ واساقطت على نوافذ القطار/ نيسان ظلّ صامتاً/ يفضّ ختم الليل عن قذائف النهار/

ماذا تقول رقعة العبسية الحسناء؟/ لم يدر أي قارئ عنها سوى نميمة/ قيل اختفت في زورق/

يدور أينما تدور في أفلاكها (عاصفة الصحراء)/ لكنّ لصاً من هذيل فاز بالغنيمة، /

فباع ألف نسخة منها لتجار الرّقاع في السّراي/ لقاء ألاّ يشهدوا على وقائع الجريمة؛/...

والمخبرون عاجزون أن يدّونوا/ أين استقرّت رقعة العبسية الحسناء!/...

جاءت صبا نجدٍ إلى "المجنون"/ ووسوست في قلبه ما جاء في الصحيفة/ فشدّ في ساقيه أشواط الصحارى/

إلى أماسي (مربد الفيحاء)/ وارتفعت أرجوزة مطمورةٌ/ من ظلمة البئر إلى منصة الإلقاء/

(أنا التي تأتيكم في كلّ ليل أليل 

أمرّ بالسادات من عمرو ومن مهلهل       

ولا يراني أحدٌ في موكب أو محفل

ولسوف تأتي غابة أثمارها من حنظلِ      

يغرقكم طوفانها في ظلمة لا تنجلي 

هيهات بعد الآن تزكو وردة في مشتل    

إذا خسرت مرسلاً خسرت كلّ مرسل!.../.../

وكان ما كان.../ وسارت الوجوه تستظلّ قبعاتها/ وتهبط النهر على طوافة مثقوبة/

والماء لا يغمر حتى موضع القدم/ لكم توقفتا!... وليس ثمّ إشارة/ والنهر ظلّ هادئاً. (مصطفى خالد علي، درس في التاريخ).

نرى أن معطيات الحس تختلط بالذهنيات، كي يبين عن حالة تعقل تسيطر على المعطى الشعري والدلالي، فتكون المعايشة قائمة بين الذهنية المتأملة والإحساس النامي تجاه الحدث، فهو من الذين يعرف قيمة الكلمة في توجهه التصويري والرمزي، فنراها أي الكلمة تدلل على المجرّد والحسّي والتأملي والتخيلي والتكرار والمتداول والغامض، فنرى لغته مليئة بالحركة والتخيّل والكشف عن المستور، حتى يصل إلى إذابة الملموس والمحسوس والمألوف في تجريدات ومتخيلات تقرّبه من موضوعه "غير أنه بوصفه شاعرا تصويرياً غالباً ما يعمد إلى تركيب الصورة بطريقة يصعب فهمها لأول وهلة، بل قد يضفي على الصورة الواضحة اليسيرة ما يثير أمامنا الغموض".(زكي أحمد كمال247) . أحياناً ما يستدعي الأمر إلى التأمل في النص والتريث في إصدار الحكم أو التقريب من معطيات الفهم، إلاّ أننا نرى بناءً متشعب الجوانب، ليس من السهل أن يضيع فيه الخط الرئيسي للموضوع أو الفكرة الكلية للحدث، لذا يشعرنا من خلال نصه أننا نمر بتجربة عاشها أو يعيشها، للاقتران مع دفقات الحدث والحس الشعوري تجاه أمله ومنطلقه.

تدخل رؤيا الشاعر في الفضاء المشتبك والمتداخل، ما جعله يحقق انجازاً لافتاً متمثلاً في النص الشعري بين أيدينا، موصلاً إلى أكثر المناطق سخونة على الرغم من أنّ موضوعه قديم متجدد، يحمل صوراً دالة ورموزاً مثقلة بالهموم، كثيفة في المعاني لكنها حيوية تدلل على عمق ثقافي ومعرفي متداخلين وصواب في النوايا.

إنّ طبيعة اللغة المستخدمة في النصّ نراها مؤسسة لملامح خطاب يغلب عليه آلسرد والإخبار والتداعيات وتجسيد الأحداث "والتجارب من حياة الكاتب التي تشكل معه نسقاً متكاملاً" (فراي نورثروب406). كما نراه يتعامل مع المروي والمحدث حتى تتلاحم مع معطى شعري خاص يبين عن مكنونات الداخل والخارج للأشياء على حدّ سواء، ولا شكّ أن محاولة التماهي أو التجاذب مع الطبيعة في أشكال متعددة من أشكالها المختلفة (مرتعش كعشبة، غابة أثمارها من حنظل، وردة في مشتل، والنهر ظلّ هادئاً، ...). بكلّ ما ينطوي عليه من معانٍ ومتغيرات في الدلالات، قد تكشف عن الوضع الحرج أو المأزوم الذي تعيشه الذات الشاعرة التي أخذت السياق السردي التقليدي الوصفي، بمعنى نجد الشاعر يصف ويعيد حالات البناء المتعددة على النحو الذي يسمح بكشف الحقيقة وخلق الدافعية للتفاعل معها.

ولعل واقع النصّ يجعل منطق آلسرد آلإخباري سائداً، علماً أنّ الشاعر استطاع أن ينهض الحواس كلّها ويدعها تتفاعل معه كي يخلق نصاً يستند على المشاهدة البصرية والإيقاعات السمعية والفاعلية الشميّة، والإحساس اللمسي والاتصال التذوقي باللسان، ما يجعل صوره ورموزه تتفاعل بقدر أكبر من الحرية حتى تخلق الحاسة الحدسية الفاعلة التي جسّدها في نصّه، وجعل ما ترويه العبسية حالة حدسية متحققة لا متخيلة فقط، وكأن إخباره آلوصفي يخضع لمنطق الحادثة الواقعة في الإطار الفضائي المحدد والمرسوم، وإن أسهب في عملية السرد ولم يعمد إلى الاختزال في بناء الحدث، بل جعل التكثيف في لغته أحياناً، وينسجم واستراتيحية الكتابة.

في كل ما تقدم من نماذج التصوير والترميز يتضح أنّ الرؤيا الشعرية هي التي تقوم بنتاج الدلالة المزدوجة ذات الطبيعة الخاصّة من خلال اختيار "مسمى العبسية" كتعبير عما يعانيه المجتمع ممثلاً بالمرأة، حيث يظهر الحالة الظاهر والباطن، الحال المتراوح بين المعروف وغير المعروف لدى الناس، أو الذي يجهله الناس ويدركه خاصة الشعراء، وهذا كما نعتقد ما جعل الشاعر يلتفت إلى اسم العبسية بعينه غير متناس الدلالات الهادفة التي يحملها المسمى، ما جعله "يضيف إليه سمات خارجية منتزعة من جوهرة الداخلية". (الهاشمي علوي53).ما جعل استخدام آلإسم كظاهرة تحمل مستويات رمزية تتداخل في رؤية الشاعر الانسانية الشاملة ويبقى المسمى هو السمة الوحيدة لم يمتلك صاحبها من خصائص أخرى في الحياة، على الرغم من تعدد الرموز في النصّ، علماً أن الشاعر بترميز آلإسم ووضع بعض الأشياء في إطارها التقريري التذكري تجاه الماضي، وصورة حيّة نابضة بالمشاعر الإنسانية تجاه ما يحدث للإنسان والوطن والحياة بأشكالها المتعددة في الوقت الراهن.

القراءة النقدية المتمعنة تكشف عن قدرات الشاعر، فلديه ما يستحق الوقوف والإشادة والتفاعل، لأنّ نصّه مليء بلهفة الشعر الصادق غير العصي على الفهم لمن يتثقف بثقافة متقاربة أو مناددة للشاعر، ما يجعل صوره مترعة بعنفوان الشعر وعذوبته، وهذا يجعل قارئ النص مأموراً لجماليات تحمل دلالات متعددة، زيادة على التعددية في الصورة والرمز معاً، أي أن نصه بعيد عن لحظة الاضمحلال التي قد تفتت حالتي التواصل والتفاعل معه، علماً أنه لم يعمد إلى التعابير المباشرة والخطايبة، وإنما نجد شعرية من نوع خاص، فتكون صوره ورموزه مستقاة من الطبيعة بدلاً من الصدور المباشر عن المعنى أو التعبير المباشر.

فما يعانيه الشاعر في نصه ليس بعيداً عما يعانيه الإنسان السوي، إلاّ أن مقدرة الشاعر على التعبير هنا تجعل نصه من صميم الإبداع التعبيري، فهو يدخلنا في فضاء الشعر الأوسع، الذي يرى الشاعر فيه نفسه، وإن لم يغادر نصه الغنائية.

فعلى الرغم من ذلك، نجد أن العبسية تشعر بنوع من الاغتراب لأنها لم تستطع الانسجام مع محيطها بل كانت ترى في ذاتها منعزلة، وإن كانت تهدف إلى أن تكون جزءاً من محيطها، إلاّ أن القائمين على المحيط لم يعطوها أذناً صاغية بالمطلق، علماً أن علاقتها مع المحيط لم تكن نفعية أو اقتصادية ومظاهر الاغتراب نجدها فكرية لا اجتماعية.

وما يميّز نصّه أيضاً أنّ الرمز يدخل ضمن بنيته التكوينية، حتى يتم استغلال الطاقة الايحائية التي يحملها ضمن السياق العام للنص فقد رُحّل التمثال في سفينة الأسر مع (الزباء)، لذا نجد المعادلة واحدة، وإن اختلفت الأزمان، بمعنى نرى أن "تمثال الوركاء" يمثل نتاج حضارة مكتنزة يقيم دلالات عميقة في العمق والأداء، (والزباء) تمثل فلسفة الحكم والإرادة الحرّة الرافضة للاستعمار، وكأنه يقول: إنّ الحضارة نتاج فلسفة وفكر وطنيين حرين، لذا لا بدّ من تفتيت أواصر اللقيا، مما يرينا امتداداً في العداء بين أسرى الزباء وفكرتها، ومن أسر الوركاء بقيمها، فما قامت به الزباء تتصوره فعلاً "حرضت عليه الإرادة الحرّة للإنسان القادرة على الحلم في حالتي اليقظة والنوم، كما أنها فعل إرادة لا تستسلم للواقع كما هو".(حسن جعفر69) .

إن التعاضد بين "الوركاء والزباء" له دلالة خاصة توحي بالانفتاح على فضاء الوحدة الإيجابية والرفض المتكامل لمعطيات الحال والواقع، وكأنه يثير فينا مجموعة من الأحاسيس التي تتوج الزمان والمكان، "نسأل عن آخر الأخبار في جريدتي (الأهرام) و(الزمان) حتى يتحقق الأثر الأخلاقي في الفن بشكل عام وتظهر المصداقية في الصحافة التي تمثل السلطة الرابعة عند الإنسان، لذا نجده يتفاعل مع رموز صحافية معروفة (الأهرام) وهي من نتاج العتبات الأولى للفكر الإنساني العربي، إلاّ أنها لم تعد كما كانت، بسبب فلسفة القائمين عليها الدافعة إلى تدمير الوركاء وأسرها كما أسرت الزباء، وكذلك صحيفة الزمان: التي ولدت مع الإعداد للحرب واحتلال العراق، بتمويل ليس واضح المعالم والدلالات، وإن وضح، فتكون الحقيقة في فم الإعلام المشري لا المستقل.

اللغة وظواهر أخرى

قيمة الفن، لا تكمن في الدلالة العميقة فقط، مع تغييب التقنية أو الأسلوب ، ولا بالأسلوب مع تغييب الدلالة، وإنما المعيار يكمن في علو الاثنين معاً، أو تظافرهما أو توالد أحدهما من الآخر،  وهذا ما يكشفه الفن الرفيع حيثما وجد وبأي لغة يصل إلينا.

لغة الشاعر متشعبة الجوانب، مطواعة إلى حد بعيد، لا يضيع الخط الرئيس الرابط بين الأفكار، علماً أن عواطفه تتداعى وروح الشاعر المعنوية تمر بتجربة ينفعل بها، وتتفاعل معها، ونلاحظ أنه يمتلك لغة قوية يُكثر في تكرار بعض المفردات التي تشكل لازمة إبداعية، أو متكأً خاصاً، لو اسقطت إحدى تلك اللازمات، لأصبح المعنى مختلاً كما هي مفردة "نيسان" أو مفردة "تصلصل" أو مفردة "بني عبس" إلاّ أن لازمته التي بنيت عليها الفكرة هي "نيسان" وهي شبيهة إلى حد بعيد بمفردة "المطر" في أنشودة المطر لبدر شاكر السياب، لذا نجد المفردة تنقلنا إلى المتحقق من تجربته الشعرية.

وبما أنّ الشعر ليس إحساساً يصاغ بمفردات مجتباة، وإنما إحساس وفكر حيان نابضان فهما "متعة للنفس وعلاج للحس، وبلسم للعاطفة من جهة، وفائدة للعقل، ورسالة للحياة من جهة أخرى". (الناعوري عيس241). فيكون نص خالد علي مصطفى من النصوص التي تعجّ بتلك القيم، حتى أنه استوعب قضية عظيمة ألا وهي "احتلال العراق" بل جعلنا نعيش في روحية الماضي وانكسارات الحاضر، والاحساس بالنهضة الآتية، وما النص الذي بين أيدينا إلاّ نتاج تفاعل نفسي وفكري وشعوري من الشاعر تجاه الحدث المعني، علماً أنّ لغته موزعة بين الأمل واليأس والرجاء والقنوط أحياناً، كل ذلك جاء بلغة واصفة أحياناً، سردية أحياناً أخر، تحمل دلالات التداخل والتشابك في اندماج صورة الأشياء، فيها بعض الإزاحة، تحمل رموزاً مثقلة بالفكر وصوراً معبأة بهموم وأثقال الحياة، فمرة يميل إلى المجاز وأخرى إلى المباشرة والتصريح، واستعماله الخيال لم يأت من فراغ، وإنما يحاول بذل غاية الجهد ليظفر بالتعبير الملائم للحاجة النفسية والفكرية المتزايدتين لديه.

ومن يستتبع يجد أن لغة نصه منتقاة بعناية توصل إلى المعنى بدلالة واضحة، فيكون المعنى المراد وليد اللفظ المدون، فمقدرته التصويرية والترميزية فاعلة إلى حد بعيد، مهما كانت طرائق تعبيره اللغوية نجده متمكناً من مراده، إن كانت كلماته مباشرة أو موغلة في التكثيف فهي فاعلة في الحدث لأنّ الشاعر "يصنع من المادّة الحسية بدعاً يغلو من القيمة ويعلو، ويفعل من قلب الجواهر، وتبديل الطبائع". (الجرجاني عبدالقاهر276).

أي أن كل فكرة ترغب في أن تكون كسوتها ملائمة لها، أي لا تقبل المفردات غير الجادّة أو الهادفة، فلا نظّن أنّ الكلمات النادرة أو المتروكة تتلاءم مع نسجها مع المفردات كثيرة الاستخدام إلاّ إذا كان الشاعر بارعاً في بنائه، ما يجعله قادراً على تذليل الصعب وترويض الممتنع كي تتشكل شبكة المعرفة الفكرية النابعة من نصّه أو المكتنزة في النص نفسه، فالكلمة بالنسبة للفكرة "كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسناً في بعض المعارض دون بعض".(العلوي ابن طباطبا21). فالكلمات لا نصيب لها من الجمال والعذوبة إذا كانت منعزلة عن بعضها، غير مستخدمة في بناء جسد القصيدة، لكن نستطيع القول: أن المفردة المعنية سوقية أو وحشية أو راقيقة أو غير ذلك، لا يكون جمالها في ذاتها، او القبح كذلك، وإنما الجمال التكاملي أو الثقل المراد لا يتضحان إلاّ بواسطة النسج المشترك بين المفردات.

أبعد هذا كله؟/ بعد الذهاب والإياب بين حانة ومئذنة؟ بعد انتشار النار في مباريات الأزمنة؟/

بعد انتهاء موسم الحصاد وابتداء موسم الحنظل في الطلول/ أبعد هذا كلهّ؟/

هل يستطيع المرء أن يعيد لأم رأسه المقطوع/ بالرقبة/

ويستدير صاعداً إلى بقايا البيت فوق الهضبة؟!.../(مصطفى علي خالد درس في التاريخ).

إذن اللغة كائن معطى بالنسبة للشاعر، يحاول أن يتعامل معه على وفق مقدرته، حتى تتداخل اللغة في الإبداع، وتكون عنصراً فاعلاً ورؤية حاضنة للإبداع بمكوناته المختلفة، فتكون اللغة تلك الإرادة التي تجلب الفعل من حيز الخيال والتصور إلى البناء المتحقق في بنائية القصيدة، لذا نجد مفرداته مليئة بالدهشة، لأنّ الدهشة ناتج لحالات التأمل أو السمو الإنساني تجاه الفعل ورد الفعل، فبعد الدهشة يبرز الحدث الثاني ألا وهو الوعي تجاه المرئي أو المحسوس أو المتخيل، لذا يكون الاكتشاف ويفجر فعل الدهشة تجاه المألوف، فمن يقرأ القصيدة أكثر من مرة قراءة فاحصة، يتيقن أنها مليئة بالهموم والاخبار وحالات الصراع، إلاّ أنّ نتيجتها تكمن في الضياع وامتلاك الدهشة مما حدث ويحدث وسيحدث: "أبعد هذا كلّه؟ بعد الذهاب والإياب بين حانة ومئذنة..." أي أنّ الصراع المتجدد هو المسيطر على أفق الشاعر، وليس النتيجة الحتمية، فعملية التماوج تجاه الحدث خلفت الصراع وعدم الاستقرار اليقيني، لكنه جسّد مجموعة من الظواهر تتعلق في عملية البناء الابداعي للنص.

ونراه ينجح في تحويل لغته من القيد الزمني إلى قيدها المكاني حتى تتضح معالم الرؤيا وفلسفة الحدث المعني، فالشاعر في نصه يتواصل مع المتلقي عبر مفردات وإيقاعات مختلفة، فهو لم يلغ القافية من نصه، بل نراها وقد تعددت قوافي المفردات، لكنها لم تكن مقصودة كما نحسها، وإنما جاءت عرضية، وهذا لم يخلق هنة في الإيقاع أو إثقالاً في السمع، فقد كرر قافية (الهاء) أو التاء المربوطة خمس مرات في خمسة عشر سطراً شعرياً، وكذلك الألف القائمة مع التنوين مرتين "قاسياً، صامتاً" وحرف الدال مرتين "جسد، مسد"، مما يشعر بالقوة الفاعلة في المفردتين، إلاّ أن قافية التاء المربوطة تأخذ حيزاً أكبر من غيرها في النص، علماً أنّ نصه مليئ بالكنايات والرموز الفاعلة والصور المتعددة في بنائها ومرادة في دلالاتها، فتكون كنايته ورموزه من الماضي والحاضر، لأن الصور مثلاً لا تنبعث عن الألحان في المقام الأول، وإنما تنبعث عن معانيه التي تتصف بالدهشة والحيرة، إلاّ أن هذا الادهاش لم يلغ الإيقاع النغمي للمفردات والبناء المنظوم بشكل عام، فتكون الأنغام التي ترافق تشكل الحروف واقعة لا محالة، ومختلفة من نص إلى آخر، أي أن جرسها الموسيقي يؤثر تباعاً في عملية خلق البحر الشعري حين يتلازم الأمر في البناء، فمهما كانت طبيعة البناء يحتاج النظم إلى هدوء وتؤدة "وفي النظم بخاصة يحتاجان لأن يكون نغم الوزن شيئاً منزوياً يصل إلى الذهن من غير جلبة ولا تشويش وكأنه إطار للكلام الموضوع فيه ". (الطيب عبدالله246).

فمن خلال العنوان والمطلع والعتبة في النص نجد التناغم الفاعل بين المبنى والمعنى، أو بين الإيقاع والدلالة، فالمعنى المقصود من القصيدة كلها ظهر كأحسن ما يكون الإظهار، لذا نرى حسن الأداء ممتزجاً بعمق الدلالة للمفردات والنص بعامة، وهذا شاهد على أن "الأسلوب بالنسبة للأديب وللمصور على السواء ليس مسألة تنفيذ فني، بل هو خاصة من خواص الرؤية". (بارتملي جمال522).

فالعروض أحياناً لا تلبي حاجة الجمال للنص، أو لا نستطيع من خلالها تقدير حالة الجمال في النص، بمعنى أدق ليست الموسيقا الخارجية هي التي تحدد الحالة التفاعلية مع النص، أو قيمته الجمالية، وإنما البناء التكاملي هو من يحدد جماليات النص، تلك الجماليات التي تستشف من المبنى والمعنى معاً، يضاف إليهما الحالة الحدسية أو الاستقرائية كما سيأتي من بعد التفاعل والتناغم مع النص، لأنّ عمل "الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الرجحان أو الضرورة".(أرسطو64) .

إنّ توزيع المفردات على الأسطر الشعرية جاء متناغماً إلى حد كبير مع طموحات الشاعر؛ فقد وازن بين الإيقاع وبنائية النص الجديد، الذي لم يكتب ليلقى من على المنابر، وإنما يستنبطه القارئ استنباطاً خاصاً، لكنّ طبيعة الحدث ومقوماته دفعته كي يجعل نصه على مستويين من الأداء، وكأنه يقر أن الشعر المسطر أو شعر التفعيلة يحتاج إلى تأمل ذهني ونفسي أكثر من غيره، في حين نرى الشعر المشّطر أو المبنى على الصدر والعجز هو الذي يحتاج إلى الالقاء، وهذا أمر واضح في قصيدته عندما قال: "فشدّ في ساقيه في أشواط الصحارى، إلى أماسي (الفيحاء) وإن جاءت القصيدة على بحر شعري واحد، ألا وهو بحر "الرجز" إلاّ أنّ المقام يستوجب طبيعة المقال، وكأنه استجاب مع معطيات "أماسي (مربد الفيحاء) وجاء نصه مبني على وفق الشكل القديم للقصبدة العربية إلى جانب النص الحديث أو شعر التفعيلة:

"وارتفعت ارجوزة مطمورةٌ، من ظلمة البئر إلى منصّة الإلقاء:

أنا التي تأتيكم من كلّ ليل أليل

أمّر بالسادات من عمرو ومن مهلهل

ولا يراني أحد في موكب أو محفل

هذا نذيرٌ للذين سمرّوا بالأرجل

أهدابهم، ولم يروا غير الحصى والجندل

زائغة أبصاركم عن كلّ أمر معضل. مصطفى خالد علي، درس في التاريخ).

وكأنه يقول: إنّ فن القول الشعري متداخل في الحياة العربية منذ فجر التاريخ، وهذا ما تؤكده مسمياته لكبار الشعراء "أمر بالسادات من عمرو ومهلهل" اللذين لهم بصمات في النتاج الشعري وكذلك المواقف الشجاعة لهما، فالمهلهل هو أول من قصد القصيد كما يقول، وهو الرافض للصلح على دم أخيه كليب، مما جعله محارباً لسنوات طوال، وكذلك عمرو بن كلثوم الذي استجاب لنداء الاستغاثة فرفض الذل وقتل ملك الحيرة، لأن أمه حاولت إذلال أم الشاعر، لكنه صاحب مواقف فكرية وأدبية أيضاً، فهما يحملان الأنفة والكبرياء، وكأنه يقول: إنّ كثيراً من أسياد العرب في السابق يزاوجون بين الفن والفكر والمروءة، فلا فرق في ذلك، وهذا نراه استنهاضاً للهمم المعاصرة، أو تعزية للذات على ما آل إليه الوضع العربي من سقوط وتردٍ في المتاهات كلها.

ونصّه هنا يتعامل مع مفردات اللغة لذا نراه يمارس وعياً أشبه بالحلم في لحظات اليقظة، يجسّد قيماً وأفكاراً وثوابت، يدافع عنها حتى النخاح والرمق الأخير، علماً أنّ الشاعر بدأ نصه بالسرد والوصف والاخبار وأنهاه بالتساؤل المريب؟ التساؤل الذي يُبني عن تشظي الواقع والمتأمل إلى حد بعيد، وإن كان عقل الشاعر من خلال نصه فاعلاً ومتحركاً لا مهمشاً، فالعاطفة لها مكانها، والعقل يظلل النص ويخلق الفضاء الرحب في تأمل الآتي.

فالفكر والعاطفة يسيطران على لغته والبناء العام للنص، فجاءت مفرداته تحمل الإرث الدلالي والمعاصرة، وفي قيمها تضمين العقيدة، وتمتاز بالتنوع الصوتي المتجدد، وكذلك نجد المفردة السلسة قريبة من التناول العام، على الرغم من اهتمامه بالتفصيلات، إلاّ أن العمق الدلالي يبقى شاخصاً، إلى جانب اللغة المحملة بالتخيل والخيال، إلاّ أنه يحمل العاطفة الصادقة تجاه فكرته وطموحه.

الخاتمة:

بعد التمعن في نص الشاعر خالد علي مصطفى "درس في التاريخ" واستقراء منطلقاته، تبين للباحث مجموعة من الأفكار والقيم توضح أنّ قصيدة (درس في التاريخ) نصٌّ متجدد في الدّلالات كلّها، فهو يحمل بصيرة خاصة ، حيث لم يكن العنوان منعزلاً عن النص، وإنما يشكلان لحمة واحدة، فالعنوان مع أجزاء النص الأخرى تشي عن فلسفة ورؤى عميقة، تُرينا أنّه أفاد من بُنى جاهزة، على اختلاف مشاربها وانبعاثاتها، إلاّ أنّ بُناه الجاهزة أصبحت جزءاً من النّص، تحمل أهدافها وأفكارها ومراميها.كل ذلك جعل البحث عن المعنى في النّصّ قائماً، فليس من السهل استجماع قيمه ، دون الغوص في العمق الدلالي والمعرفي للنص، فهو غني بأشياء متعددة، قادر على استنطاق الحال، لوضع لبنات المستقبل، بعد تعرية الماضي ونوازعه.فصوره الشعرية ورموزه، تشكل حالة السهل الممتنع، أي للوهلة الأولى ترى أنها ميسرة وسهلة، إلاّ أنّ المتمعن يحتاج إلى استنطاقها للوصول إلى المعنى المقصود، علماً أن صوره ورموزه متعددة المشارب والثقافات، ومتباعدة في الأزمنة والأمكنة كذلك.

أما لغته، فلم تأت على وتيرة واحدة، وإنما نراها وصفية وسردية، تحمل في طياتها الروح التهكمية أحياناً، والمباشرة والوضوح أحياناً أخر، ثم نراها تميل إلى التكثيف، والاخبار عن الماضي وسرد سمات الحاضر، ورسم ملامح المستقبل، كل ذلك بصوت الشاعر أو بطريقة السرد الوصفي أو الحواري إذا جاز التعبير، فكانت لغته موفقة، تحمل رقة المشاعر وقسوة الواقع والخوف من المستقبل العائم أو المشوش، إلاّ أنها تحمل بعضاً من الارث الاستبشاري وترسم فسحة من الأمل في دلالاتها، على الرغم من تعددية البناء أي أنّ مفرداته متعددة الدلالات.

في حين نجد موسيقاه الخارجية سارت على بحر عروضي واحد، ألا وهو بحر الرجز، لكنه لم يستغن عن جرس الألفاظ، أو الموسيقا الداخلية في نصه، بل فعّلها تفعيلاً ايجابياً، وقد كرر قافيته في بعض الأسطر الشعرية، علماً أنه لم يؤكد عليها قاصداً، وإنما جاءت عرضية، ما يرينا أنه بنى قصيدته على نظامين للقصيدة العربية، نظام التفعيلة، ونظام التشطير، وكأنه يوقن أن نظام التفعيلة لا ينفع للخطاب والمنابر، بينما يفي في حالات الهمس والتمعّن المقصودين، بينما نظام التشطير هو الأجدى لمخاطبة الناس في المحافل والمجالس الأدبية والشعرية، لأنّ الذائقة العربية اعتادت ذلك على مرّ آلأزمنة.

 

د. نادي ساري الديك

استاذ الأدب الحديث ونقده - فلسطين

..............................

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - إبراهيم خليل، النص الأدبي- تحليله وبناؤه مُدخل إجرائي، دار الكرمل، ط1، عمان، الأردن، 1995م.

3 - ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي الأحكام.د.ت.

4 ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، 1956م.

5 - ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ج1، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، مصرـ د.ت.

6 - ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان.

7 - أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين تحقيق البيجاوي، القاهرة.

8 - أحمد عمر شاهين، موسوعة كتاب فلسطين في القرن العشرين، منشورات المركز القومي للدراسات والتوثيق، ج1، ط2، غزة، فلسطين، 2000م.

9 - أحمد كمال زكي، دراسات في النقد الأدبي، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط1، القاهرة، 1997م.

10- أرسطو، فن الشعر، ترجمة شكري محمد عيّاد، القاهرة، 1986م.

11- أنور المرتجى، سيمائية النص الأدبي، مطابع إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1987م.

12- جان كوهين، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، ط1، الدار البيضاء، المغرب، 1986م.

13- جعفر حسن، تمنع الغابة الطرية، توغلات في نصوص شعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 2005م.

14- جمال مارتملي، بحث في علم الجمال، ترجمة أنور عبد العزيز، القاهرة، 1970م.

15- خالد علي مصطفى، "درس في التاريخ"، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد -430- شباط 2007م.

16- راضي صدوق، شعراء فلسطين في القرن العشرين، توثيق أنطولوجي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، لبنان، 2000م.

17- رضوى عاشور، في النقد التطبيقي، صيادو الذاكرة، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، المغرب، 2001م.

17- ريتشارد، مبادئ النقد الأدبي، ترجمة مصطفى بدوي، المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، د.ت.

18- سعيد البازعي، أبواب القصيدة، قراءات باتجاه الشعر، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، المغرب، 2004م.

19- سلمى الخضراء الجيوسي، موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الشعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 1997م.

20- سوزان بيرنار، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة د. زهير مغامس، دار المأمون، بغداد، 1993م.

21- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، ط1، القاهرة.

22- سي، دي، لويس، الصورة الشعرية، ترجمة أحمد نصيف الجنابي وآخرون، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1982م.

23- صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، عالم المعرفة، العدد 164، أغسطس، الكويت، 1992م.

24- عبد الرحمن محمد القعود، الابهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة، العدد 279، الكويت، 2002م.

25- عاطف جودة نصر، الخيال مفهوماته ووظائفه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984م.

26- عبد الله ابراهيم، التفكيك، الأصول، والمقولات، عيون المقالات، الدار البيضاء، المغرب، 1990م.

27- عبد الله الطيب، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، بيروت، 1970م.

28- عبد الله عساف، الصورة الفنية في قصيدة الرؤيا، دار دجلة، ط1، سوريا، 1996م.

29- عبد الفتاح الجمري، عتبات النص، ط1، شركة الرابطة، الدار البيضاء، 1996م.

30- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، استنبول، 1959م.

31- علوي الهاشمي، ظاهرة التعالق النصي في الشعر السعودي الحديث، كتاب الرياض، العدد (52-53) إبريل مايو، 1998م.

32- عيسى الناعوري، النثر، ثقافتنا في خمسين عاماً، الناشر، دائرة الثقافة والفنون، عمان، الأردن، 1972م.

33- فيصل دراج، معنى الابداع وصورته عند عبد الله ونوس، مجلة جرش الثقافية، جامعة جرش الأهلية، العدد الثاني، شتاء، 2005م.

34- قادة عقاق، دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر، دراسة في إشكالية التلقي الجمالي للمكان، اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق، 2001م.

35- لطيفة الزيات، الكاتب والحرية، مجلة فصول، خريف، 1992م.

36- محسن جاسم الموسوي، ثارات شهرزاد، دار الآداب، بيروت، 1993م.

37- محمد صابر عبيد، مرايا التخييل الشعري، عالم الكتب الحديثة، ط1، إربد، الأردن، 2006م.

38- محمد الواسطي، عتبة النص الشعري بين المبدع والمتلقي، مجلة جذور، العدد 13، السنة السابعة، جدة، السعودية، 2003م.

39- محمود عبد الوهاب، بنية العنوان في قصيدة السياب، الموقع والتحولات، مجلة الأقلام، العدد السادس، بغداد، 1999م.

40- محمود غنايم، تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة، بيروت، 1992م.

41- مريم جبر، مالم تقله شهرزاد، جرش الثقافية، جامعة جرش الأهلية، العدد الثاني، شتاء، 2005م.

42- نازك الملائكة، مقدمة ديوان شظايا ورماد، ج2، ط2، دار العودة بيروت، لبنان، 1979م.

43- نورتروب فراي، ترجمة محمد عصفور، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، 1991م.

44- وجيه فانوس، محاولات في الشعري والجمالي، اتحاد الكتاب اللبنانيين، بيروت، لبنان، 1995م.

45- باكبسون، آراء وأفكار حول اللسانيات، ترجمة فالح الإمارة، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد، 1990م.

46- يوسف الخال، الحداثة في الشعر العربي، ، دار الطليعة، ط1، بيروت، 1978م.

 

 

 

في المثقف اليوم