قراءات نقدية

شِعريّةُ الاغتراب في (لا عكاز للحياة)

ثامر سعيدالكتابةُ الملساء تفقدكَ محفزات التشبث بها ومتعة البحث والاستنطاق فلا تجد زوايا أو خدوشاً تجذب وجهة تشوفكَ أو حتى أخاديد لتتبع خطوط الماء الجاري فيها، حتى الهواء تراه ينزلق عليها بيسرٍ دون أن يحرك خصلةً في رأسِكَ، ناهيك عن فقدانِ المفاجآتِ التي تمنحك سلطة التأمل والمحاكاة . يقول أرسطو : (النقدُ أمرٌ نستطيع تفاديه بسهولة بألا نقولُ شيئاً، وألا نفعلُ شيئاً، وأن نكون لا شيء) . وهذه المقولة تنفع الكتابة الخالية من ثيمات تستحق التوقف عندها، لكن هناك كتابات لا يمكنك أن تمرّ بها دون أن تأخذ فسحةً للتفرس . النصُ الذي يتأرجحُ برتابةٍ مملةٍ بلا توترات وانفلاتات وشطحات لا يتعدى جلسةً على كرسيّ هزاز مهما تحركَ لا يتقدم بك خطوة واحدة.

في كتابها (لا عكاز للحياة) للشاعرة أسماء الرومي أول ما تستوقفكَ هي الثريا التي تشي بطاقةٍ كبيرةٍ للهم الإنساني الذي يفتح أمامك الكثير من الأسئلة، أسئلة الماضي والآني والقابل، الحياة بكل ما أعلنتْ وما تخفي، وهي أسئلة لا تنتهي حتى توهمكَ في لحظةٍ ما أنكَ بلا أسئلة وهو وهمٌ بصيغةِ حقيقةٍ، كالجائع الذي وجد نفسه بغتةً أمامَ مائدة بشتى أصناف الطعام فأحتارَ بأي صنفٍ يبدأ حتى أخذه النعاس ونام : (ذات مرّةٍ اصطحبتني أمي إلى جارتِنا \ التي بيتها من طين \ فطرحتُ الكثيرَ من الأسئلة \ ولم تجبني \ فقط كانت تضحك \ أنا الآن بلا أسئلة) . هذا المقطع في نص يحمل ثريا الكتاب ذاتها يحيلكَ إلى أسئلةٍ أخرى حرصت الشاعرة إلى الإشارة إليها دون أن تأخذ بصيغة سؤال لكننا نكتشف أنها أرادتْ أن تقول : هل الحياة قاربٌ قديمٌ لم نختره، قاربٌ بلا شراع ؟ هل الحياة تمرُّ خلسةً بالجوار فلا نملك إلا أن نوزع أبصارنا على الغرباء ونلثم ابتساماتنا لنحفظ للحزنِ هيبته ؟ هل الحقيقة محض وهمٍ والوهمُ كلُّ الحقيقة ؟ .... وفي لجّةٍ هذه الأسئلة المتلاطمة باليأس والخذلان تغلق الشاعرة نصها هذا بجملةٍ صادمة (أعشقُ الحياة \ وأمارسُ الموتَ طقساً لأنجو) فنجدها هنا تتضامن تماماً مع الشاعر محمود درويش حين قال: (كل الذين ماتوا، نجوا من الحياة بأعجوبةٍ) .

إذا عرفنا أن العكاز هو مرادفٌ للعجزِ والوهن حينها سنفهمُ إن حياتنا في هذا الراهن المأزوم والمكتظ بضروب القهر والإقصاء والمكائدِ لم تعدْ صالحةً للحياة، الحياة التي يرنو إليها الشاعرُ ليمارسَ حياته وفقاً لأخيلتهِ الشاهقة وحقه المشروع في البقاء فلا تصبحُ أيامه محضَ صدإٍ يتكدسُ فيُفقدُها بريقَها ويتركها تصرُّ كبابٍ عتيق (حين يأكلُ الصدأ ما تبقى \ من أيامنا \ ويتركنا نَصرُّ \ كبابٍ حديديًّ قديم) .

تتعاملُ الرومي مع الأمكنةِ في نصوص (لا عكاز للحياة) بطريقة الحفر الوجداني وتؤثثها بلقطاتٍ مستلّةٍ من الواقعِ تارةً أو مبتدعةٍ من المخيالِ تارةً أخرى . يقول جاستون باشلار :(إن كلَّ أماكنِ لحظاتِ عزلتنا الماضية، والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة، والتي استمتعنا بها ورغبنا فيها وتآلفنا مع الوحدة فيها تظلُ راسخةً في داخلنا، لأننا نرغبُ أن تبقى كذلك) . لذا نجد الشاعرة تتشبث وبقوة بأماكنها القديمة، أماكن الطفولةِ والصِبا، الأماكن التي شكلتْ بواكير رؤيتَها إلى الحياة ودهشتها البِكر، تلك التي تذكي في البعض جذوة البوح بأيّ شكلٍ من أشكاله، وأقصدُ بالبعض أولئك الذين قبضوا على ملَكَة التعبير بعد أن استوطنتْ جيناتهم فصرنا نسميهم بذوي المواهبِ، والشاعرُ مخلوقٌ يقبضُ على موهبتهِ ويعضدها بثقافة وتجربة ومخيال لينتج نصوصاً لائقة، وحين تترسخُ أماكننا الأليفة في دواخلنا نجدنا نعاني من خسارةِ أُلفتِها تلك ووداعتها، هي (وأقصد الشاعرة) ترى راهنَ المكان قد تشوّه كثيراً وإن ما يحيطُها من فضاءاتٍ هي غريبة عنها وتخشى أن تضيعَ في هذه الأماكن المشوهة الغريبة (أشعرُ بعوَقِ المدينةِ \ وهي تترجلُ \ بثيابها الغريبة \ نحو الأضواءِ \ أخشى أن تتعثر \ بثيابها الغريبةِ \ ونسقطُ جميعاً \ في مهبِّ الضياع .) يحيلنا هذا القول إلى أن المدينة الأولى كانت تمتطي صهوة المدنيّة والانفتاح والتجانس المعيشي والتحضر وها هي اليوم تترجل بعوَقٍ وبثيابٍ وأضواءٍ غريبةٍ قد تسقطُ فنضيعُ جميعاً . وهذه هي محنةُ الكثير من الشعراء الذين عاشوا في مدينةٍ، أمسُها كان أفضلَ من يومِها وغدها في عهدة المجهول .

رغم بساطة المكان الأول ومحدوديته لكنه كان فسحةً شاسعةً للطمأنينة والأحلام، قالت العربُ قديماً: (المكانُ بالمكينِ) وفي روما القديمة كانوا يرون الأمكنةَ بناسِها، فنرى هنا تماهي ذات الشاعرة مع ذلك المكان وهي تستحضر مفرداته الأليفة من ألفةِ من فيهِ (الأبوين، الجدة، الأهل، المجتمع) هؤلاء هم من يجعلون حياتك الأولى بلا تجاعيد من خلال الهيمنة والاحتواء فيتشكل الإدراك المبكر للذات فيه وفقاً لذلك، وهذا لا ينفي اختلاف الإحساس بالمكان من ذاتٍ لأخرى وفقاً لاختلاف تلك الهيمنة وذلك الاحتواء : (بيتنا الذي بناهُ أبي \ من خشبٍ وبردي \ كان واسعاً بغرفةٍ واحدةٍ \ وفناءٍ ضيقٍ لا غير \ واللحافُ الذي يغطينا \ يحلقُ كلّما اتسعت \ حكاياتُ جدتي)، البيتُ الواسعُ بغرفةٍ وحيدةٍ، ولحافُ الطفولةِ الذي كلّما ضاقَ علينا زادَ دفؤهُ فيحلّقُ في سماوات الأحلام حين تتسعُ وتطولُ حكاياتُ الجدةِ . هذا الجو قد يأخذ بعض القرّاء إلى طقسٍ صوفيٍّ فيسحبهم بجاذبيةٍ خاصة صوبَ عشقٍ طفوليّ عاشوه في الكيفية ذاتها، المقطعُ هذا تشكّلَ من انزياحٍ متقنٍ لمقولةِ النفري المعروفة (كلّما اتسعتْ الرؤية ضاقتْ العبارة) وخلقَ صورةً شعريةً طازجةً وذكية أغنتِ النصَّ جمالاً في المبنى وغنىً في المعنى .

وباختلاف الزمن تختلف معطياتُ المكان الجمالية حين تتحولُ الألفةُ إلى ضياع والدفء إلى عطشٍ بعد متوالية الحروبِ والتشوهاتِ التي تكالبتْ عليه فنقفُ إزاءه وقفة الباكي على طللٍ مندرسٍ يندبُ أيامهُ الرائقة (أسألُ المدينةُ عن أنهارِها \ فتجيبني بشفاهٍ شققها العطشُ \ لا تعقدي الرهان) و (أنا إبنةُ الماءِ \ وربيبةُ النخلِ \ فلا تتعجبوا لكلِّ هذا الحزنِ) . ربما يسألُ سائلٌ : ما علاقة الماءِ والنخيلِ بالحزن ؟ نعم قد يكونُ السؤالُ غريباً أو غيرَ منطقي لكننا حين نتحدثُ عن بلادٍ عُرفتْ بأرضِ السّوادِ، والسّوادُ في هذا التعريف كان دليلاً لشدّةِ الخضرةِ، والخضرةُ الطاغية هي رديفةٌ للماء العذب الكثير، ذكرَ الأصطخرائي أن أنهارَ البصرةِ عُدّتْ في القرن الأول الهجري فزادتْ على مائة وعشرين ألفَ نهرٍ، والرقمُ غير مبالغٍ فيه إذا شملَ القنوات والسواقي والترع والنُهيرات الممتدةَ في القطائعِ والأراضي المستصلحة وفي أزمنةٍ متقدمةٍ من القرن العشرين الميلادي أطلقَ عليها مسمى (فينيسيا الشرق) وربما تجاوزت بندقية الطليان بكثرة بساتينها وجمال خريفها المذهل . لذا يحضر الجواب المنطقي من خلال المشهد الجديد لشاشة المدينة الأخرى، أو ما يسمى باللقطاتِ الايماجية Imagism (التصويرية) حيث الانهيار الصادم للأشياء والمرئيات والمحسوسات بكل تفاصيلها، الزلال إلى أجاج والخضرة إلى يباب والسلوك الإنساني السلس الدمث الوديع إلى نقيضهِ والهواء القادم من بهجة العشبِ والأنهار إلى مزيج من الملوثات المنفوثة بلا تحسب، وسيدات الشجرِ إلى جذوعٍ بلا رؤوس، من خلال كلِّ هذا تتبنى الشاعرة موقفاً وترسمُ رؤاها الشعرية الجازمة حيال ذلك، وهو الحزنُ وعدم عقد الرهان من أجلِ غبطةٍ مرتجاة أو تفاؤلٍ في الأفق . وفي موقعٍ آخر يتصاعد النسقُ التراجيدي لأماكن الشاعرة فتصبحُ لغتها أشدَّ حدّةٍ وموارٍ وهي تستعيدُ طرقاتِ الأمسِ ولياليها الوادعة بحشدٍ من العواطفِ المجرّحةِ والمخذولة فيغدو بوحها شبيهاً بعواءِ ذئبٍ فقدَ أخاه (لم تكنْ الطرقاتُ هي الطرقات \ ولا الليلُ هو الليل \ إلا القلب فهو ذاته \ كان يعوي كذئبٍ \ فقدَ أخاه) .

لقد عمدتْ الشاعرة إلى تشخيص سيرة المكان من خلال شعور العزلة والاغتراب وصولاً إلى شعور القهر والاختناق، فصارَ التوجسُ والقلقُ هاجسينِ مخيفينِ مما سيؤولُ إليه الواقع الزمكاني المنتظر، وهذا انهيارٌ آخرُ لصورةِ المكان، بلغَ ذروته من خلال التعبير عنه بأنه (لا شيء)، فراغٌ كبيرٌ يتسعُ كبالونٍ كبيرٍ ننتظرُ انفجارَهُ، وهو كناية رمزية مؤلمة لفكرة عدم الإحساس بما يدور حولنا، أو الرغبة بعدم الإحساس بذلك، حيث أن كلّ ما نمرُّ به من أدوار حياتية في هذه الصورة لا يتعدى كونه فَقدٌ كبيرٌ مَهّدهُ غيرنا لنا (لا تستغربْ حين أقولُ \ إنني أعيشُ فراغاً كبيراً \ فراغاً يتسعُ كلّ يومٍ \ وكأنني داخل بالونٍ كبيرٍ \ وثمة من يقصد نفخه كلّ حين \ أخشى ما أخشاه أن ينفجر) .

تطفحُ مفردةُ الحربِ في أكثر من نصٍّ من نصوصِ هذا الكتاب، لتعبّر عن مفهومين للخراب العبثي، هذا الخرابُ الذي وصفه الكاتب الأميركي جون ستاينيك بأنه عرَضٌ من أعراضِ فشلِ الإنسان كحيوانٍ مفكرٍ، فتارةً نقرأ الحربَ كمفهومٍ حسيٍّ واقعي بما خلفته من مآسٍ في حياتنا لم يستطع أن يتجاوزها الزمنُ فظلتْ عالقة في ذاكرةِ الشاعرة وهي تعيشها في عمرٍ مبكرٍ (ماذا يعني أن تكون الحرب \ أولى الكلمات التي تتعلمُ نطقها \ ماذا يعني \ أن لا تتذكر من جيرانكَ \ سوى لحمِهم المعلّقِ بسعفِ النخيلِ \ وحبل غسيلهم الدامي) . ففي مدينةٍ مثل البصرة تعيش الحربَ بتفاصيلها الفتاكة، حربٌ في الجبهات وأخرى في قلبِ المدينة، من خلال ما كان يسمى حينها بقصفِ المدنِ، حيث كانت تلك الصورة التي رسمتها الشاعرة تتكرر دائماً في الأحياء والساحاتِ والشوارعِ، قذائفُ موتٍ تهطلُ بلا سابقِ إنذار، شظايا توشم الأرصفةَ والجدران، لحمٌ بشري متناثر، حبلُ غسيلٍ تنضحُ أشياؤه بالدماء، خواءٌ ورعبٌ وانتظارُ موتٍ لا نعرفُ متى يأتي . وتظلُ الشاعرة تحملُ الحرب في رأسها وهي تتجولُ في أماكنها الأولى، أماكنها الجميلة الأليفة الرائقة (أحملُ الحربَ في رأسي \ في المدنِ التي تطفو بالجمال \ أسيرُ احترازاً \ أبحثُ عما أقايضُ به رأسي \ ولو كان \ نصف تفاحة) تبحثُ عن سببٍ يحملها إلى تفريغ تلك الحرب من ذاكرتها، ومثلما أخرجتْ تفاحةٌ آدمَ من الجنّةِ عسى أن تخرجها نصفُ تفاحةٍ من الجحيم .

وتارةً أخرى نقرأها (الحرب) بمفهومها التلميحي الإشاري، من خلال توظيف كنايات دالة لكنها ربما تدلُّ أيضاً على حربٍ مختلفة وقد نفهم منها إنها حرب السلطة المستبدة مع الشعب، (مخالفة السلطة أو عدم القبول بالدوران مع عجلتها = جثث كثيرة) :(ثمة جثثٌ كثيرةٌ ملقاةٌ على الأرضِ \ تمنعني من العبور إلى الجانب الآخر \ حيث الشمس خضراء) .

الكتابةُ بالمحوِ هي دعوة للتكثيف والاكتناز تخلق صوراً شعرية خالية من الترهل والترف الكلامي غير المحبب، سيما أنها ذكرتْ في نصها (قصاصات) أن قصيدة النثر رقيقة جداً ولا يمكن لجسدِها الشفيف سوى التحليق، حيث تتقاطع مع رأي والدها الذي لا يعجبه هذا الجنس من الكتابة الشعرية فهو لا يؤمن بشعرٍ بلا عمود (كافٍ وكفكافٍ وكفي بكفها ...) لذا على هذه القصيدة أن تتخلى عن أيةِ حمولةٍ فائضة لتحلق بلا حشو أو تراتبية مملة، أنا لست ضد قصيدة العمود أبداً فقد تربينا على روائع هذا العمود الذي شكّل شِعريتنا المبكرة لكن علماء العروض هم من وصفوا البيت الشعري بالوصف المعروف (حشو \ عروض .. حشو \ ضرب) . فحين يصبحُ الحشو إقحاماً قسريّاً في بنية القصيدة يتحول الشعرُ إلى نَظمٍ وكلامٍ خالٍ من الإمتاعِ والعمقِ والدهشة حاله حال قصيدة النثر حين تفقد طاقتها الشعرية فتكون خاطرة لا ترتفع عن القول الدارج بمستوىً ما .

في نص (حفظنا الوصايا ونسينا الطريق) تقول الرومي: (أنا النصّ الذي كلّما كتبته بدا ناقصاً \ وكلّما محوته اشتعلَ وضوحاً)، فهي بذلك تعترف وتؤكد بأن الشعر إشارات مقتضبة بمحمولات دلالية وجمالية واضحة ومشتعلة، لذا أتمنى عليها أن تجنح دائماً في قصائدها القابلة إلى المحو والاكتناز الذي وجدته في الكثير من نصوص هذا الكتاب لكنها فقدته في أماكنَ قليلة جداً حين أخذها السرد أبعد من الشعر .

 

ثامر سعيد

 

 

في المثقف اليوم