قراءات نقدية

مرثية الشاعر جواد غلوم: أستأذنكم بهنيهة حزن

وليد العرفي يُشكّل غرض الرثاء أحد أهمّ الموضوعات الشعرية ؛ لما له من لصوق بالنفس الإنسانية كونه يشتغل على موضوعة الفقد، والفقد بوصفه عرضاً حياتيّاً يستحوذ على مشاعر الإنسان كلها، لما يعنيه ذلك المفتقد من مكانة لا يُمكن أن يملأ فراغَها، أو يُعوّض عنها آخر، ولذلك يتصف الرثاء بأنه أصدق أغراض الشعر؛ لتنزّهه عن الغائية، كما أنه يستثير العاطفة في سمو مشاعرها، ونبل أحاسيسها، وقد شغل الرثاء حيزاً في شعرنا العربي الذي تعدّدت فيه المراثي باختلاف الأشخاص وعلاقاتهم بالشاعر الراثي ما بين رثاء الحكام والملوك إلى رثاء الأقارب من ابن أو بنت أو زوج، وهذا ما تشغله قصيدة الشاعر د. جواد غلوم الموسومة بعنوان:

"أستأذنكم بهنيهة حزن" وللعنوان دلالته من حيث البنية والنمط والتوجه ؛ فقد قامت بنيته اللغوية على: فعل مضارع + ضمير كاف الخطاب + ظرف زمان + مضاف إليه، ولهذه البنية التي، وإن جاءت عفوية في سياقها إلا أنها على مستوى الدلالة السيميائية تُحيل على أن الحزن موقف مضاف إلى الزمن، وهذه الإضافة للحزن تستوجب حيزاً من الزمن، وهو الزمن المقتطع من سيرورة الحياة المُتعاقبة التي لا تتوقف في لحظة ما لحدث طارىء، أو لموقف عابر، وهو زمنٌ بحاجة إلى مساندة جمعية ؛ لما يشعر به الحزين من حاجة للمساندة والوقوف إلى جانبه، وعلى هذا يكون العنوان نداء استنجاد، وإظهار حالة بحاجة إلى الدعم والمساندة التي جاءت بالزمن المضارع ما يُفيد باستمرار الحزن المؤقّت الذي أعلنت عنه دلالة الظرفية "هنيهة  من الزمن "، وهو ما يبدأ به القصيدة التي تتوالى فيها أفعال: " أنادي، أعاتب "، وهي أفعال مُعبّرة عن القول والحوار الذي يُشخصن الجماد والحواس  في إشارة رامزة إلى حالة الوحدة التي آلت إليها حال الشاعر بعد رحيل فقيدته يقول:  

أنادي عيوني

أعاتب دمعي:

كفى نظراً للمرايا التي ألِفتْ وجهَها

كلّ هذي السنين الطوال

أقول لكَـفّي وأرجف:

كفى عبَـثاً في الخزانةْ

فمازال عطر المليسيا

يحنّ إليها حنين الغريب الى ألفةٍ

الى وجهها الذي فرّ  كالطيرِ حين يأنس طلعتها

كالجناحِ من الخوف حين يأمن في عشّهِ

حين قالت وداعاً وفرّتْ

كأحلامنا الضَّائعةْ

وخيباتنا الشَّائعةْ

وذاك الشَّمعدان يذوي بلا شمعةٍ تحتويهْ

وتلك مخدّتها لا تنام

معبأةً أرَقاً مستدام

تلك أثوابها فقدتْ لونها

أنهكتني أزاهيرها في القماشْ

تريد رحيقاً شميماً

وعطراً يشذّبُ أحزانَها

يا لشمسي التي رحلتْ غيلةً

وهل تهرمُ الشَّمسُ عند المماتْ ؟

وذا خيطها الضوء يبزغ رغم السباتْ

يُجدّد فيَّ الحياة الزؤام .

تبدو جزئيات الحضور للفقيدة من خلال أثاث المنزل الذي يتحوّل  كل قطعة فيه إلى ذكرى، وغصّة حرّى تبعث على مزيدٍ من الألم، وتزداد حميمية العلقة بين الأشياء الجامدة، وذكريات الشاعر عبر تراكم صور تعبّر، ولا تُصوّر؛ وهو ما يكشف سبب ندرة الصور في القصيدة التي تغيت البوح والتعبير، لا إرادة التمثيل والتصوير، فلا نجد إلا صورة التشبيه التي قاربت بين رحيل الزوجة والأحلام الضائعة في إطار المشهد الكلي الذي جاء مؤطراُ ضمن لوحة الحزن الأكبر فافتقاد الزوجة التي غيّبها الموت تتماهى بالأحلام الضائعة، ولنلاحظ أن موت الزوجة يُعادل كلَّ الأحلام الضائعة، وهو ما يُبيّن مكانة المفتقدة في نفس الشاعر، ومدى الأسى الذي خلَّفه في نفسه ذلك الفقد:

 " ضاع السوارُ وفصّ عقدي

وبـقـيـتُ فـي بغـداد وحْــدي

كــانــَتْ صديــقـةَ خافِــقِــي

أدراج مُــرتَــفَـعي ومجدي

ولقد لجأ الشاعر للتعبير عن تلك الحالة بتنويع الإيقاع ما بين الشعر الحديث الذي جاء على إيقاع بحر المتقارب في بداية القصيدة  وصولاً إلى الختام الذي وجد في الشعر العمودي الوعاء الذي يسكب فيه دفقته الأخيرة ؛ فجاءت نهاية مُعبّرةً، بدفقةً شعورية سكبت جرعة أحزانها جرعةً واحدة، فها هو يبقى غريباً مفرداً في بغداد، وقد غادرته منْ كانت له السند والدعامة والملاذ والحب يقول:

 ما ضـرَّ لـو مُـتْــنـا مَـعـــاً

إلْـفانِ واشْـتَـركـا بِــلِـحْـــدِ

وحدي أيؤنسني الأسـى؟

عمرٌ بفقدكِ كيفَ يجدي"

وقد اعتمد إيقاع البحر الكامل الذي جاء على شكل تنويعٍ يندب فيه حالة الفقد عبر تكرار أسئلة أرادت أن تؤكّد وتُظهر  أكثر من أن تسأل وتستفسّر.

 

د. وليد العرفي

...................

للاطلاع على قصيدة الشاعر في المثقف

أستأذنكم بهنيهةِ حزن / جواد غلوم

 

في المثقف اليوم