قراءات نقدية

البُعد الوطنيُّ في شعر: عبد الإله الياسري

وليد العرفي تُحيل قصيدة حنين للشاعر: عبد الإله الياسري متلقيها على العاطفة التي جاءت في استهلال عنوانها بكلمة مفردة جمعت، ومنعت في الآن ذاته ما بين اتّصال معنوي بموطن، وانفصال بجغرافية محققة حسياً باغتراب الشاعر، وهو يُكابد ذلك التغيير الحاصل ليس على الصعيد النفسي وحسب، وإنما على مستوى الطبيعة والمناخ المُتبدّل؛ ما بين مناخ العراق وشمسه التي كانت لافحة، وما وجد الشاعر نفسه  أمامه، وهو في أتون برد وشتاء مختلف في منفاه عمّأ عهده:

أصدُّ الثلجَ مُغترباً بكفٍّ          وبالأخرى أصدُّ لظى اشتياقي

إنه تجسيد للحالة التي  يجد الشاعر نفسه أسير جانبيها في إطار المعاناة  ما بين واقع موجود مرفوض، وآخر مغيب مرغوب؛ وهذه الثنائية في الأضداد ستشكل لدى الشاعر رؤية جديدة، وهو يتحسس مرارة الموقف، وقسوة الحالة التي يكابد معاناتها ما بين حضور وغياب وإظهار وإضمار تلك الثنائيات التي لا تقتصر على الجانب الذاتي، وإنما تتعداه إلى الموضوعات المتصلة بالذات من إنسان، و مشهدية ما تزال صورتها تعبر على شريط الذاكرة  فلا يجد مؤنساً له من أبناء وطنه، ولا لحظة تجمعه بأصدقائه ممن كانوا ندماءه في  الوطن  يقول:

فلا للكأسِ في كندا نديمٌ                  ولا للكأسِ في بغدادَ ساق

إنها الغربة التي أجبر عليها؛فكانت محاولة تخلص وفرار من واقع مأساوي، ولكنها لم تكن في الوقت ذاته خلاصاً من معاناة عاطفية وحنين دائم يستدر مشاعر الشاعر، ويستهلك عاطفته  حيث تبدو الغربة باعثاً على انعدام توازن الإنسان، وعدم قدرته على التلاؤم مع واقعه؛ فتتساوى الأشياء في تماثلها النفسي، وإن اختلفت قيمتها على مستوى العاطفة والمشاعر التي تظل متعلقة بالوطن:

أُعاني في المكانينِ اغْتراباً             تساوى البينُ عندي والفراق

وبهذا الاستحواذ العاطفي جاءت انتقائية الشاعر لعنوان قصيدته الذي اختاره بكلمة مفردة (حنين) الذي وسم به  قصيدته  بما تشير إليه من دلالات رامزة إلى العاطفة؛ لتكون ليس مجرد علامة سيميائية على النص وحسب، بل لتحقّق ارتباطأ وثيقاً بالحالة النفسية التي تنثال منها اللفظة عبر القصيدة كلها بمرادفات جاءت صيغاً تعبيرية تتعالق معها في الدلالة، وإن اختلفت معها في اللفظ، والصيغة، وهو ما يكشف عنه الحقل الدلالي المشكل للنص؛

فقد وردت مفردة الحب، وما يتصل بها من ألفاظ مثل هوى، حبيبة، (13 ) مرة، هذا ما يجعل من مفردة الحب مقولة ًفي القصيدة التي  لم تفارق بحمولاتها الدلالية مفردة  الحنين وانثيالاتها الدالة عليها، والحنين إنما يتولد لمحبوب مفتقد عزيز، ومتخٍّف عن العين الباصرة لكنه مشاهد بالعين البصيرة، إنه العراق بلد الشاعر الذي يخاطبه مصوراً  حالته قائلاً:

تعِبْتُ ولمْ يتعَبْ بأَعماقيَ الحُبُّ

وشبْتُ ولم يبلغْ صباباتيَ الشَّيبُ

وأَشغلَ جنحيَّ الزمانُ بغربةٍ

ولمْ ينشغلْ عمّنْ أُحبُّ بيَ القلبُ

تتبدى ثنائية المطلع عبر اتكاء الشاعر على مقولة الزمن الذي يستدعيه بدلالات الفعل الماضي تعبت، وشبت المسندين إلى ضمير المتكلم ( التاء) الشاعر نفسه،والحاضر في الفعلين المضارعين يبلغ وينشغل، وعبر هذين الزمنين يبدو مشهد التحول ما بين حدث حاصل بفعل قوة الآخر ( الزمن)، وثبات بفعل ردع وتحدٍّ بفعل قوة ( الذات) وهو  ما يُعلّل استخدام الشاعر أسلوب النفي؛ ليفيد بقلب الحاضر إلى الماضي محاولةً منه في إيقاف دولاب الزمن، وحركته المستعجلة عبر تلك الثنائيات:

تعبت ــــــــــــــــــــــــــــــــ لم يتعب

شبت ـــــــــــــــــــــــــــــــ لم يبلغ

أشغل ــــــــــــــــــــــــــــ لم ينشغل

 

لينقل إلى تعميق تلك الرغبة بتجذير حقيقة وجوده؛ فينتقل من ثنائيات التضاد بين الأفعال التي تعني الحركة والتغيير المستمر إلى ثنائية السكون و الثبات برمزية الأسماء؛ فنجد الثنائية الضدية تقع بين الاسم: (حضوري) الذي أراد منه الإشارة إلى الثبات الذي يسعى إلى تأكيده،والفعل: (غيَّبني ) رمز الحركة والتغيير الذي يرفضه وفق هذه الثنائية:

غيَّبني ــــــــــــــــــــــــــــــــ حضوري

لئنْ غيَّبتْني عن بلادي عصابةٌ

ففي كلِّ ليلٍ من حضوري بها شهبُ

وسنلاحظ سيطرة الأسماء في في بقية الأبيات على حساب  حضور الأفعال، وهو ما يتساوق مع ما أشرنا إليه من رغبة تأكيد المواطنة، وانغراس الشاعر في عراقه، وقد تبدَّتْ تلك النزعة عبر دوال: " جذري، مائي، طيني "، وهي تكشف بما لا يحتاج إلى تأويل عن حالة العشق التي تسكن الشاعر، وتأخذ عليه كل مشاعره،إذ جاءت تلك الألفاظ بما تحمله من معان مستقلة بمفردها مسندة إلى ضمير الشاعر (الياء) التي تعني الملكية واستحواذ تلك الدلالات على كيان الشاعر ووجدانه، وهو ما يجعله يعيش ألم بلاده وأملها، كما يشاركها البسمة والدمعة  في توحد عاطفة،  والتصاق كيان روحي / جسدي:

بلادي بها جذري ومائي وطينتي

وضوئي وإنّي من قطافٍ بها اللبُّ

إنْ ابتسمتْ بِشراً فإنِّي شفاهُها

وإنْ دمِعتْ حزناً فإنِّي لها هدبُ

وإنْ أَصبُ في شعري لوصلِ حبيبةٍ

فإنّيَ أَعنيها، وإنِّي لها أَصبو

وتتجلى هذه الوحدة وذلك الاتحاد بين الوطن والشاعر بما في بلاده من ملامح في الطبيعة من نبات  وطير مُتَّخذاً منه رمزيات دالَّة مُوحية بإحالاتها، ومقاصدها الرامية إلى تدعيم مقولته المحورية التي لم يبتعد عنها إلا بالمفردة (حنين)؛ لكنها بقيت مُسيطرةً على النص في توجّهه معنىً ومبنىً :

يَسيرُ معي النخلُ الجميلُ وظلُّه

ويَجثو معي النَّهرانِ والطينُ والعشبُ

وللسعفةِ الجرداءِ منِّيَ خضرةٌ

وللطائرِ الظمآنِ من أَدمعي شربُ

وما كان بُعدي بُعدَ من نَسيَ الهوَى

ولكنَّه بُعدٌ يَزيدُ به القربُ

ـ وغير خاف أن استخدام الشاعر لرمزية النخيل، إنما جاء للتعبير عن دلالة تعيين تُفيد بحقيقة اـشتهار العراق بالنخيل من جهة، ومن جهة أخرى إرادة تأكيد تجذُّر الشاعر في وطنه على الرغم من بعده،إذْ يُمثّل النخيل بهذا المنحى  مُعادلاً موضوعياً لذات الشاعر التائقة للتجذُّر بأرض وطنها، بينما يبدو الطير مُعادلاً آخر لمعاناة الشاعر الذي وجد نفسه مُهاجراً برغمه عن موطنه الذي مهما نأى، فإنه يحمله و يُحلَّق به بعيداً بجناحيه؛ ليبقى في روحه ومشاعره يستحق منه بذل الغالي افتداءً وتضحيةً في سبيله، وهو بذلك الفعل يكشف عن عمق المأساة التي يعيشها بين عشقه وإخلاصه لوطنه، وما كان من  مُتسلّطي الوطن من إساءة له، وإلحاق أذى به، غير أن النفس الأبية لا ترضى إلا أن تُواجه الإساءة بالإحسان، وقد أحال على مرجعية الشاعر الذي قال قديماً:

بلادي وإن جارت علي عزيزة                وأهلي وإن شحوا علي كرام

فيقيم بناء نصه على تقابل الثنائيات الضدية بين:

أحلام  الشاعر وأمنياته ـــــــــــــــــــــــــــــ وواقع  البلاد وحقائقه

الافتداء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإهانة

فَديتُ بنفسي بلدةً لم تُعزَّني

ولم يتّسعْ فيها لعاشقِها الدربُ

شرب الماء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أكواب دم

أمن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رعب

أُريدُ بها شرباً وأَكوابُها دمٌ

وأَبغي بها أَمْناً وأَحلامُها رعبُ

وأَنسَى لها سمّاً وإنّي صريعُه

وأَهوَى لها وصلاً وما بيننا حربُ

التسامح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرب

صُلبتُ بها أَلفاً ومازالَ في دمي

حنينٌ لعينيها يَطيبُ به الصَّلبُ

وتبلغ المأساة ذروتها لدى الشاعر، وهو  يُقدّم  نفسه القربان في سبيل ذلك الحب؛ ليكون المسيح الذي يُضحّي بنفسه في سبيل خلاص الآخرين، وما ذاك الإيثار إلا بدافع الحبّ الذي تملَّك على الشاعر كيانه، وسيطر على أحاسيسه، وتغلغل شرايينه حتى صار مدعاة لتوجيه اللوم :

وكمْ من مسيحٍ هامَ قبلي بحبِّها

وسَارَ لأَعوادِ الصَّليبِ به الحُبُّ!

وإنّي لسكرانٌ هوَىً بخيالِها

وقد لامَني من فَرطِ سُكْرٍ بها الصَّحبُ

وينقل ليؤكد حميمية العلاقة الرابطة، ووشائج الصلة الجامعة بينهما، مُمثّلاً  لها بأكثر الصلات نُبلاً وقداسة ونقاءً إنها رابطة الأم بطفلها:

وماهيَ إلّا الأّمُّ فاضَ نزيفُها

وما أنا إلا الطفلُ من حولِها يَحبو

حبيبةُ قلبي لا حبيبةَ بَعدَها

فِدَى حَبّةٍ من رملِها الشرقُ والغربُ

تلك العلاقة التي تجعل قيمة حبة التراب الوطني أغلى من كل الأرض الأخرى .

وفي  المقطع الأخير يُنوّع  الشاعر في أسلوبه التعبيري؛ فينتقل من الكلام الخبري إلى الكلام الإنشائي  بصيغة النداء الخارج إلى الدعاء بهدف الكشف والمعرفة والاستفهام الذي جاء تعبيراُ عن توق الوصول،  وتجاوز الواقع؛ لتحقيق تلك الرغبات المكبوتة والأحلام المؤجلة؛  فجاءت (متى) المرتبطة بدلاتها على السؤال عن الزمن ترسيخاً لتلك الإرادة، وتجسيداً لحصولها بالرغبة في تحديد الزمن:

أَلَا أَيُّها السرُّ الإلهيُّ دُلَّني

عليكَ وأَنبئْني بما خَبَّأَ الغيبُ

متَى يَصفِق الدّيكُ العراقيُّ جنحَه

وينجابُ عن فجرٍ شفيفِ السَّنَى حَجْبُ؟

وتَرجِعُ أَطيارٌ نأتْ عن سمائِها،

ويَلتمُّ من بَعدِ الشَتاتِ لنا سِربُ؟

وتَطلَعُ من عمقِ المقابرِ بذرةٌ

وتُمطرُها من غَضْبةٍ حُرَّةٍ سحبُ؟

وأُلقي لجامَ الصَّمتِ عنِّيَ صارخاً:

لقد زالتِ الأَكفانُ وانتفضَ الشعبُ؟

 

سلاماً على البركان مادام ثائراً

وأَهلاً بفيضِ النَّارِ غايتُه الخصبُ

وسقياً ورعياً للرعودِ وراءَها

ربيعٌ لإنسانٍ يحاصرُه الجَدبُ

لتنتهي القصيدة بالدعاء وتحقيق الغاية التي ينشد، والهدف المأمول الذي يتمنَّى اقتراب تحقيقه، علَّه يرى فيه بداية جديدة لوطن حلم مُتمنَّى، وتجسيداً لآمال مُضمّرة .

 

د. وليد العرفي

.................

للاطلاع على القصيدة في صحيفة المثقف

نزيف الشمس / عبد الاله الياسري

 

 

في المثقف اليوم