قراءات نقدية

قراءة في رواية: مينا للروائية زينب صالح الركابي

حميد الحريزي(يبدو أن هذه المدينة منذ الأزل تعشق الموتى) ص 60

الرواية بعنوان احد اهم شخصياتها وهي الفتاة (مينا) ابنة الحاج (قاسم) رب عائلة نجفية محافظة متمسكة بالقيم والتقاليد السائدة في مجتمعهم وبيئتهم، عائلة مكونة من الاب وثلاث بنات (مينا) و(مريم) و(سارة).

(قاسم أمين) طالب في الكلية الطبية، يسجن ويحرم من الدراسة ويتعرض لابشع اساليب التعذيب، لثباته وصموده وعدم افشائه اسرار تنظيمه ورفاقه السجن المؤبد (لتوزيعه بعض المنشورات الساسية والدينية والمشاركة في المظاهرات التي كان يقوم بها طلاب المدارس والجامعات تدعو فيها الى اسقاط البعث) ص19 فيحكم بالاعدام، ومن ثم يخفف الحكم الى السجن المؤبد ثم ينفى الى ايران لكونه من التبعية الايرانية .

نتيجة للظروف المعيشية الصعبة في ايران تقرر العائلة الانتقال الى سوريا للسكن قرب السيدة زينب حيث تجمع العراقيين بكثافة هناك من المسفرين ومن الهاربين من النظام البعثي الديكتاتوري في العراق آنذاك. خصوصا بعد اندلاع الحرب العراقية الايراني واعدام السلطات لمحمد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى والعشرات من اعضاء واصدقاء حزب الدعوة، وقبلهم اعضاء واصدقاء الحزب الشيوعي العراقي لينفرد البعث بقيادة صدام حسين وتنحيته للبكر من رئاسة الجمهورية والاعدام الجماعي لرفاقه ممن يشك في ولائهم لسلطته .

هناك وصف وتوصيف وتعريف لطيبة السوريين وتعاملهم الانساني مع اشقائهم من العراقيين وجمال المدن السورية . في ظل هذه البيئة وحنان الوالد ورعاية الجدة والوالدة الطيبة الحسناء الحنونة تترعرع (مينا) وتدخل المدرسة للتعلم، حينما تصبح صبية تلبس الحجاب وتنقل الى مدرسة للبنات فقط وليست مدرسة مشتركة بنات وذكور كما كانت، هناك توصيف لطبيعة التعليم وقساوة بعض المعلمات في التعامل مع الطالبات بالضرب والتجريح والتعنيف.كما حصل مع صديقة (مينا) الطالبة (غادة) اليتيمة المهملة من قبل والدهاالمنحرف سيء الطباع مما ادى بها الى الانحراف ورفقة شاب ضعيف الشخصية وعائلة قاسية .

توصيف للحياة الحميمة لعائلة (قاسم) وولادة ام (مينا) لطفلتين توأم يدخلان السرور والفرح والالفة داخل العائلة .

تتزوج (مينا) من شاب نجفي الاصل من العراق مهاجر الى لندن بناءا الى رغبة والدته حيث انبهر الجميع بجمال وأدب (مينا) وطيبة عائلتها، وقد تعرفت العائلتين على بعضهما بالصدفة حين ابتاعت عائلة جبار من محل (قاسم) فدعاهم الى داره تماشيا مع الكرم والطيبة العراقية المعروفة وعلى وجه الخصوص لدى (قاسم) وعائلته المضيافة .

بعد حياة حب عذب وعشق وانسجام كبير بين غادة وزوجها جبار في لندن، تكتشف بأن جبار يتناول المخدرات ويعاشر النساء الشقراوات ويعيش حياة المجون واللاالتزام حيث جرفته القيم والعادات السائدة في المجتمع الغربي ورفقة زمرة من اصدقاء السوء من الشواذ والمنحرفين (كما تلقف الدين لقمة واحدة . هاهو يتقيئوه على جرعات) ص 121. وهو القائل (اخذت نجفي المقدسة تبتعد وتبتعد بشوارعها الضيقة وصيفها اللاهب وشتائها المميز بطينه الوسخ. التعذيب في ززاناتها ومديرية الامن ومجالس العزاء والنواح على الاقارب والاباعد، بهوائها القيل والخوف الجاثم فوق الصدور، بأفراحها الملغاة وأحلامها المهدمة) ص119.

الانبهار بلندن الحرية المطلقة والشقراوات الحسان والانفتاح على كل مباهج الحياة دون اية قيود، بعد الكبت والحرمان والاذلال ولانكسار والخوف، مما يفقد الانسان توازنه ويجرف تيار نهر التايمز الجارف بقيمه من لايعرف العوم ولم يمتلك المناعة لمقاومة التيارات الضارة والمهلكة حيث كان جبار احد ضحاياها ... فتصاب (مينا) بالصدمة الكبيرة وتعاني معاناة قاسية لتبدل احوال حبيبها جبار الذي وصل به الحد نزع حجابها وسحقه بقدميه لانه يعتبره عار عليه في المجتمع اللندني المتحضر، تصاب بانتكاسة صحية وتتعرض لنزف دموي حاد مما يستدعي نقلها للمستشفى فتتمكن من انقاذها الطبيبة عراقية الاصل (قمر) وتخبرها بأنها حامل، فتصاب بالصدمة الكبيرة مما يحول دون قرارها بترك لندن والعودة الى عائلتها، تقر ر ان تنقذ زوجها وحبيبها واب طفلها المرتقب من المنزلق الخطير الذي يعيشه( أخت استعيد الوعي شيئا فشيئا، وانفتحت الرؤية عندي ها أنا امسك بوجه جبار، بين اصابعي المرتعشة) ص 168. ولكن كانت المحاولة متأخرة حيثوصل جبار الى نهايته المحتومة بين يدي غادة وهو يطلب منها الصفح والمغفرة .

2196 زينب صالح الركابي

النجف في ظل النظام البعثي الديكتاتوري:

تسرد الكاتبة الوضع المأساوي للعراقيين في ظل نظام البعث وممارسات القمع الدموي الاجرامي ضد كل من يعارض النظام او يشتبه بمعرضته للنظام ومنها قصة سجن ونفي والد غادة، التسفير القسري للتبعية الايرانية وماتعرضوا له من الاذلال والقتل والاغتصاب والموت المحتم وسط الالغام المزورعة على الحدود العراقية الايرانية، سجن وتغييب (جعفر) الشقيق الاكبر ل(جبار) واذابة جسد خاله في احواض التيزاب من قبل سلطات النظام مما دفع جبار للهرب الى ايران ومن ثم الى الاردن والحصول على اللجوء في لندن، طبعا هذه معاناة الكثير من العوائل سواء كانت اسلامية او شيوعية او غير منتمية للسلطة وحزبها الفاشي القابض على السلطة بالحديد والنار، والهلاك والدمار الذي عانى منه الشعب العراقي من الحروب العبثية المجنونة التي خاضها النظام ضد ايران وضد الكويت ومصير القتل والاعدام لمن لايلتحق بجيشه وجيشه الشعبي ليتعرض الى محرقة الموت المحقق.

تتحدث الروائية عن طبيعة المجتمع النجفي قائلة رغم الطابع العام المحافظ والمتدين للمدينة، فهناك تعدد في الافكار والانتماءات في المدينة كالفكر الشيوعي حيث كان (عبد الحسين المحامي صاحب جريدة الاستقلال النجفية اولى الشخصيات التي حملت الفكر الشيوعي الى مدينة النجف عام 1920) رص78 والبعثيين والمتدينين المسيسين حتى ضمن العائلة الواحدة .

طبعا المدينة مشبعة بالشعائر الدينية طوال العام فلا سينما ولا مسرح ولا متنزهات ف (المظر العام للمدينة واهلها رسم بلون التدين الظاهري للغالبية العظمى ) ص74، ولكن النجف لم تخلوا من المتديينين المزيفين والمنافقين، كذلك هناك ممن يعيشون المتع المختلفة وشرب الخمور ويمارسون الجنس واللبس الحديث في مجالسهم الخاصة وان كان بالسر .

تشير اشارة هامة الى حالة تفكك العلاقات الاجتماعية وهيمنة الفكر العقائدي المتزمت على البعض وخصوصا من قبل البعثيين المتشددين حيث كان (كاظم) البعثي عم (جعفر) هو من اخبر ن ابن اخيه كونه من حزب الدعوة وادى به الى الموت على ايدي اجهزة الامن البعثية . (اخبرنا عنه عمه الرفيق كاظم) ص86 هذا ما اخبر به الامن عائلة جعفر والذي عثر عليه رقما في احد المقابر الجماعية بعد سقوط النظام .

تحمل الروائية الكثير من الاشارات الى ضرورة الاهتمام بالتربية الصحيحة للنات والاولاد في العوائل والكشف عن العديد من الظواهر البيولوجية والاجتماعية التي يواجهونها في حياتهم كالدورة الشهرية للبنت ومعنى مفهوم المراهقة والاجابة العلمية الواقعية حول بعض الاسئلة التي تبدو مخجلة ومحرجة للامهات والاباء . وغلق كل ابواب التفكر والتساؤل بل الانقياد الاعمى الى كل ما موجود ويسير عليه المجتمع من افكار وتقاليد وعادات (يجب ان تكون متدينا حتى تستطيع أن تكون مقبولا بين هؤلاء الذين لايتسرب الشك الى قلوبهم أبدا) ص81.

وكيف ضربه جده بالعصا على رأسه بقسوة وزجره بشدة عندما سأله جبار (شلون بينه جدو اذا طلع ماكو رب ولاجنه ولا نار؟) ص81. فمثل هذه الاسئلة من التابوات المحرمة تماما، فالعقيدة تفرض بالقوة وحكم العرف والعادة وليس بالتفكر والقناعة وبالدليل والبرهان مما يجعلها هشة وعرضة للكسر والتشظي عندما تتعرض لاضعف ضربة وهزة فكرية معاكسة .

اغلب السرد الروائي كان باسلوب الانا المتكلم، كما ان السرد الروائي جاء متقطعا منتقلا من شخصية الى اخرى ومن زمان ومكان الى آخر دون ان تختلط الاحداث او يضيع تماسك السرد بالنسبة للروائة فجائت الحبكة متماسكة ومتقنة ومقنعة للمتلقي .

كما ان السرد يحمل الكثير من الشاعرية وجمالية المفردة ورشاقة الاسلوب، ونقل القاريء بين مختلف الاجواء والمناخات واساليب العيش، وتحفيز ذاكرته بالكثير من المشاهد والمارسات الشعبية والفلكلورية بالاضافة الى بعض الاحداث الطريفة والضريفة بالنسبة للاطفال والصبايا تجذب القاريء ولا تشعرع بالملل وتدفعه للمتابعة والقراءة، كما ان الروائية اهتمت بتأثيث الشخصيات وتظهير اهم مميزاتها من حيث الشكل والسلوك والمظهر والعادات مما رسم صورة واضحة للشخصية في مخيلة القاريء بعد الانتهاء من القراءة، وهذه ميزة مهمة للروائية والرواية النجفية التي تفتقر لها اغلب الروايات النجفية حسب اطلاعنا .

طعمت الروائية روايتها باللغة الشعبية العراقية في العديد من الحورات فاضافت للرواية المزيد من الواقعية والتشويق والملاحة واقتراب القاريء من بيئته الحقيقية المعاشة .

لا نرى ضرورة للاكثار من ذكر العديد من الاغاني وتضمين كامل النص ضمن النص الروائي، فاغلب القراء يعرفون هذه الاغاني وربما يحفضونها على ظهر قلب .

الرواية تصنف ضمن الروايةالواقعية الاجتماعية الانتقادية الهادفة، والرواية التي تقترب كثيرا من السرد الروائي الحديث رغم انها لم تفارق تقليديتها .

 

حميد الحريزي

 

 

في المثقف اليوم