قراءات نقدية

ماذا أراد الشريف الرضي من غزله بالحجازيات..؟

عدنان البلداوياستطاع وميض قلم الشريف الرضي بجدارة ان ينفذ بلا تصنع ولا إكراه الى كل القلوب المحبة للخير والحقيقة والنقاء. نفذ الى قلوب العباقرة لأنهم وجدوا في عبقريته اوسع مدى واكثر شمولا . ونفذ الى قلوب الفلاسفة لانهم وجدوا في احلامه وتأملاته ومُـثله العُليا ماينبغي للفلسفة ان تكون .. ولأنهم كلما قرأوا صفحة من حياته وجدوه فيها رجلا خبيرا بصراع الطبائع البشرية ، ويكفي الرضي فخرا بإرادته التي تحكمت في تلك الطبائع لتقدم ما يُرضي الله وما ينفع الناس وما يحافظ على سلامة الأصالة والعفة والنزاهة ..

ونفذ الى قلوب العلماء والفقهاء والمفسرين لانهم وجدوا فيه إماما في النحو واللغة والتفسير، قدم لهم في علوم اللغة والنحو والبلاغة في كتابيه (تلخيص البيان في مجازات القرآن) (والمجازات النبوية) وقدم للمفسرين كتابه الكبير (حقائق التأويل في متشابه التنزيل) وكتابه (معاني القرآن) وكتابه (الجيد في شعر ابي تمام) وغيرها ..

وتملك قلوب رجال التربية والتعليم لانهم قرأوه مدرسا ناجحا مخلصا لتلاميذه عاكفا على رعايتهم في اروقة مدرسته المسماة (دار العلم) .

ونفذ الى قلوب الطامحين وعشاق العلا والمعالى لانهم استأنسوا بدفء الوهج المنبعث من هالة مجده ومن ثقته العالية بسمو نفسه الطامحة صوب المعالي:

رمت المعالي فامتنعن ولم يزل      ابدا يمانع عاشقا معشوق

ونفذ الى قلوب الفرسان ليشحن جوها بحماسة ما بعدها حماسة ..

انها الاقدام دون تردد والطعان دون ملل او كلل:

اذا ما جررت الرمح لم يثنني اب      يليح ولا ام تصيح ورائي

ونفذ الى قلوب الاباة لانهم وجدوا في ادبه الجم مثال العزة والاباء والترفع.

ونفذ الى قلوب المؤمنين بمجد امتهم التليد ملهما اياهم حماسته المتميزة ليذكرهم بملحمة ذلك المجد وليبعث فيهم الهمة لاستعادة ماضي الامة :

نبهتهم مثل عوالي الرماح     الى الوغى قبل نموم الصباح

يانفس مـــــن هم الى همة   فليس من عبء الاذى مستراح

اما فتى نال العلا  فاشتفى     او بــطل ذاق الردى فاستراح

ونفذ الى قلوب كل العرب المخلصين لانهم وجدوا فيه النزعة العربية الاصيلة ، ولأنهم وجدوا فيه ناصحا امينا مخلصا بروحه العربية التي ابت الضيم في عهد ارتفعت فيه اصوات ارادت ان تطمس النقاء العربي وتحيل الاصالة العربية رسوما :

اذا عربي لم يكن مثل سيفه      مضاء على الاعداء انكره الجد

واستأنست بصبره القلوب الموجعة لانها وجدت فيه رجلا شرب كؤوس العلقم من يد الزمان .. رأى من البلايا ما انطقه بالشعر وهو في سن العاشرة ، ورماه بالشيب وهو في سن العشرين ، فما كان ذلك الوميض الا دواءً تلتئم به جراحاتهم :

ودهر لا يصح به سقيم      وكيــف يصح والايام داء

فلا تحزن على الايام فينا   اذا غدرت وشيمتنا الوفاء

فإن السيف يحبسه نجاد   ويطلقه على القمم المضاء

حتى الذين اساءوا اليه قد نفذت الى قلوبهم حكمه ومواعظه لانهم كانوا يتوقعون منه هجاء ، فاذا بمثله العليا تحيل الهجاء الى عتاب والى شكوى يلفها الالم والحسرة وتشرق في مضمونها الحكمة والرشاد :

وكم صاحب كالرمح زاغت كعوبه     أبى بـعد طول الغمز ان يتـقوما

تـقبـلــت مـــنه ظـاهــرا مـتـبلـجا       وادمـج دونـي بــاطـنا مُـتجـهما

صبرت على إيلامه خوف نقصه     ومن لام من لايرعوي كان ألوما

هي الكف مضٌّ تركها بعد دائها     وان قطعت شانت ذراعا ومعصما

حملتك حمل العين لجّ بها القذى     ولا تـنجلي يــوما ولا تـبلغ العمى

اذا العضو لـم يـؤلمك الا قطعته     على مضض لم تبق لحما ولا دما

وبعد :

ماذا عن الاجواء الاخرى التي نفذ اليها سنا الشريف؟

هل للشعراء نصيب ونصيب للنقاد؟

الشعر تحت قبة الشعراء مطبوع ومصنوع ولاشك في انه نفذ الى قلوب المطبوعين منهم لانهم وجدوا فيه شاعرا مطبوعا يترجم ما في صدورهم بلغة الشاعر للشاعر وبارعا يحترم النص لفظا ومعنى .

يقول بعض من كتب عن الرضي انه كان يلتمس من نظمه الغزل بالحجازيات ليهرب من الضيق الذي كان يلقاه في بيئته الرسمية ذات المسؤوليات العظام والاخطار الجسام ..

اقول : ان هذا وارد من الناحية النفسية ولكن لماذا اكثر الرضي من قصائد الغزل لاسيما الحجازيات التي بلغت نحو اربعين قصيدة ، وان كان ذلك واردا ايضا فلماذا سمح بإشاعتها وهو محسوب على الفقهاء وعلماء الدين والمراجع وكانت مسندة اليه نقابة الطالبيين

لقد ادرك الشريف الرضي بحكم مركزه الاجتماعي والديني خطورة شيوع اشعار الخلاعة والمجون في عصره وما لها من اثر بالغ في تصدع الجوانب الاخلاقية ، فرأى ان ايقاف المد الشعري الماجن لايمكن تحقيقه الا بمد شعري مضاد ، لان المسألة تتعلق بالمشاعر والاحاسيس ومخاطبة النفس ، فرأى ا ن يقدم لمجتمعه شعرا عفيفا نظيفا عبّر من خلاله بان هناك ماهو اسمى وانقى ، فقادته شاعريته الفذة الى ان يحارب المجون بالعفة فكان تحصيل حاصله قصائد وجدانية بدأت تهذب العواطف الجامحة صوب الجنس وتجعل النفس امام خيار جديد هو السمو بها عن الوضاعة وسفاسف القول ، لذلك اقتصر في نسيبه على تصوير الجوانب الحسية من الجمال تصويرا لارفث فيه ولافسوق وهذا مايقتضيه الحب القائم على صلة الروح بالروح لا صلة الجسد بالجسد .

اما ايمانه العميق في اداء رسالته هذه فمرده الى انه شاعر قد وعى فلسفة الجمال ، لذلك اباح لخياله الانطلاق في ذلك العالم الساحر انطلاقا لم يكن بدافع اللهو او اللعب انما هو التسبيح لخالق الجمال والشكر له على ما انعم وابدع من صور ومحاسن يستوجب على مؤمن مثل الرضي ان يتحدث بها ويسمح بإشاعتها املا في ان يتحقق مفهوم الاقتداء في مجتمع يحتاج اليه .

وكان الرضي موفقا في تحقيق اهدافه المثالية هذه ، اذ لم يتحدث احد الى الآن انه قرأ شعر الرضي في الغزل والنسيب فدعته نفسه الى مراجعة المباغي وسبل الضلال، بل تحدث كل الذين قرأوا شعره انه حبب اليهم الحب النزيه العفيف النبيل الذي يمكن اعتباره اللبنة الاساس في بناء الاسرة الطاهرة الصالحة لانه لم ينبعث الا من التفكير في شريف المصاهرات :

يميل بي الهوى طربا وانأى       ويجذبني الصبا غزلا فآبى

ويمنعني العفاف كــأن بيني        وبين مآربي مــنه هضابا

وهكذا شاعت قصائد الرضي الغزلية المسماة بالحجازيات مزدانة بالذوق الرفيع والوجدان الصادق حتى اصبح الناس في مجتمعه بعد اشاعتها يستمعون الى لونين من الشعر: شعر الغزل الخليع الذي هو اقرب الى الابتذال والخفة وجرأة الكشف عن المحظورات الجنسية وكان يمثله رهط ماجن من الشعراء، أما شعر الغزل العفيف الذي هو اقرب الى الرزانة واحترام مشاعر المرأة المسلمة فكان الرضي من رواده وهذا يعني انه استطاع ان يزاحم المد الشعري الماجن وان يجعل ذوق المستمع المعاصر امام اختبار جاد يكاد يُفصح عن حقيقة سريرته في قبوله احد اللونين..

 

عدنان عبد النبي البلداوي

 

في المثقف اليوم