قراءات نقدية

زهرة خصخوصي: رواية الرّبيع يأتي متأخّرا.. فتنة تعدّد الأصوات وسلطة الهمّ واحد

زهرة خصخوصيللكاتب منذر فالح الغزالي

 تصدير:

[قالت:"هذا اليراع أَسِلْ دمه سحرا وإبداعا ووجعا يسع الرّداءة جميعا..."]

فرج الحوار (البحر والموت والجرذ)

مدخل:

يظلّ الفنّ الرّوائيّ الخطابَ السّرديّ المهيمن على المشهد الأدبيّ الحديث إنشاء وتلقّيا رغم تعدّد الأجناس الأدبيّة الأخرى ووفرتها. فالإصدارات الروائيّة العربيّة الحديثة غزيرة، وهي في حركة تنوّع دؤوب لا تتوقّف، كأنّها حركة تُساوق الدّفق المتسارع للزّمن، المتجدّد، المجدّد مذاقاتِ الحلم في الحياة الإنسانيّة رغم محارق الألم التي لايني العالم العربي يغرق فيها أكثر فأكثر.

وإنّه لمن زخم هذا الدّفق الرّوائيّ انبجست الرّواية التي ينكبّ هذا المبحث على الزّاوية الحواريّة فيها بالدّراسة، رواية "الرّبيع يأتي متأخرا" للكاتب السّوريّ منذر فالح الغزالي، الصّادرة أواخر عام 2018 عن دار المختار للنشر والتوزيع بمصر، وهي رواية ارتأى لها كاتبها أن تتّخذ من السّرديّة الكلاسيكية أسسها الفنّيّة، فوهبها  المسار الخطّيّ المتأرجح بين المسايرة الزّمنية والاسترجاع والاستباق، وجذّر الأمكنة والأسماء والأزمنة في خارطة الواقع التّاريخي العربيّ عامّة والسّوري خاصة، واشتغل اشتغالا جليّا على تقنية الوصف، ذلك الاشتغال التقليديّ الذي عليه انبنت الرواية الغربية الأمّ، المنسلّة من "معطف غوغول"، حيث يمثّل الوصف آلية من آليات التّنامي السّرديّ فيها ويدًا من أيدي الرّاوي الإله العليم بما ظهر وما خفي من تقلّبات الزّمكان والشّخصيّات في العمليّة السّرديّة. كما بدا فيها حريصا إلى حدّ كبير على الالتزام باللّغة الفصيحة وهو ينتسج الحوارات مجافيا اللّهجات المتداولة التي رفعت الحداثةُ لواء الدعوة إليها حتّى اعتبارها أسّا ثابتا من أسس تحقّقها في العمليّة الإبداعيّة الأدبيّة، لولا خضوعٍ لسلطانها هذا في بعض المواضع التي أفسح فيها الرّاوي المجال لوالدي الشّخصيّة الرّئيسيّة، رياض، الرّيفيّين أن يتلفّظا، ف"خجل" من أن يُلوّن لسانيهما بغير ما به لوّنتهما الجذور القرويّة الشّاميّة، فحضرت اللّهجة المحلّيّة.

لكنّ القارئ، رغم ذلك كلّه، يلفي نفسه وهو يلج عالم هذه الرواية ـــ الرّبيع يأتي متأخّراـــ  مسحوبا نحو زاوية فنّيّة مازت عن هذا الزّخم الفنّيّ الكلاسيكيّ بمعانقتها مبدأ استنفار ملكة التّسآل لدى المتلقّي ليمارس شراكته في العمليّة الإبداعيّة، محدثة فيه دهشة أمام الغموض الكامن في ظاهرة تعدّد الأصوات، داحرة مبدأ المونولوجيّة القديمة، مفضية به إلى شعاب التّساؤل: من المتلفّظ؟ أهو الشّخصيّة الفرد أم الشّخصيّة الجمع القابعة خلفها؟ أم هو الرّاوي متواريا في جلباب الشّخصية؟ أم هو المؤلّف التاريخي منذر فالح الغزالي؟ أهو صوت الذّات المتكلّمة في حدودها الزّمكانيّة السّرديّة الضّيّقة؟ أم هو صوت الإنسان في وجوده القوميّ والكونيّ؟

2613 منذر فالح

هي أسئلة حارقة تقذف بالقارئ نحو أقاصي مفهوم القارئ الشّريك كما نجده في مبدإ الحواريّة الذي برز مع ميخائيل باختين ( M. Bakhtine (، شأنه شأن مبدإ التّعدّد الصّوتيّ الذي اعتبره في كتابه "علم جمال الرّواية ونظريتها"،(esthetique et theorie du roman)،  أحد المقوّمات الأساسيّة لمسألة الحواريّة في الرّواية.

الحواريّة مصطلح  يعبّر عن الصّلات التي يعقدها أيّ ملفوظ مقول في سياق تداوليّ   مع غيره من الملافيظ السّابقة له واللّاحقة به. فلا يوجد أيّ ملفوظ ــ حسب باختين ــ معزولا عمّا سبقه وعمّا لحق به من ملافيظ.  وفيه تقول منيرة الشرقي(باحثة بجامعة تبسة/ الجزائر) في مقال نشر بالعدد الثالث من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية تحت عنوان "المبدأ الحواري عند ميخائيل باختين" في الصفحة الواحدة والثمانين:[يبدو أن الحواريّة النّابعة من تصوّر باختين، مبدأ مبنيّ على فكر حضاريّ، هو احترام الرّأي الآخر وتركه يمارس وجوده، ويعني أيضا عدم فرض الرّأي على الآخر، فالرّوائي يدرج في نصّه الآراء المختلفة وإن كانت متناقضة، ولا يبدي رأيه ولا يفرضه على القارئ (...) الرّواية عند باختين جزء من ثقافة المجتمع، والثّقافة مثل الرّواية مكوّنة من خطابات تعيها الذّاكرة الجماعيّة، وعلى كلّ واحد في المجتمع أن يحدّد موقعه وموقفه من تلك الخطابات؛ وهذا ما يفسّر حواريّة الثّقافة وحواريّة الرّواية القائمة على تعدّد الملفوظات واللّغات... فتعدّد اللغات من مقوّمات المبدإ الحواريّ لدى باختين، إذ به تتصارع الإيديولوجيّات في الرّواية(...) قال باختين: "إنّ الرّواية هي التّنوّع الاجتماعيّ للّغات، وأحيانا للّغات والأصوات الفرديّة، تنوّعا منظّما أدبيّا ".

ويؤكّد ميخائيل باختين أنّ الملفوظ هو حجر الزّاوية في تدبّر مسألة الحواريّة في الرّواية، فالملفوظ عنده رديف المستعمل من القول. ولمّا كان ذلك كذلك فالبعد التّداوليّ للقول بين المتخاطبين ينفي الطّابع الفرديّ لأيّ قول(....) حتى وإن وجدنا قائلا واحدا في ظاهر الملفوظ فإنّه يحتوي على أصوات أخرى غائبة (.....) ويتجلّى هذا التعدّد الصّوتيّ في مستوى اللّفظ والتّركيب والأسلوب ..." ففي كلّ ملفوظ تجتمع أصوات يكشفها المقام، وأنواع الجمل وأعمالها اللّغوية في الخطاب من تعجّب واستفهام وتقرير وأمر ونهي، والتّراكيب المختلفة من تقديم وتأخير وتفضيل وتشبيه... واشتقاقات صرفيّة من مبالغة وفاعلية ومفعولية... وهي تمثّل مؤشّرات دالّة على استبطان الملفوظ لأصوات مختلفة قد يبلغ بها التّعدّد حدّ أن تكون صوت الشّخصية وصوت الرّاوي وصوت المؤلّف التّاريخي وصوت المجتمع وصوت القارئ في آن، بما يحمله ذلك الملفوظ في جراباته من إيديولوجيّات، حسب باختين الذي نجده يقول:"من الواضح أن الإنسان الذي يتكلّم ليس مشخّصا وحده وليس فقط بوصفه متكلّما. ففي الرّواية يستطيع أن يكون فاعلا على نحو لا يقلّ عن قدرته على الفعل في الدّراما أو الملحمة، إلّا أنّ لفعله دائما إضاءة إيديولوجيّة. إنه باستمرار فعل مرتبط بخطاب، وبلازمة إيديولوجيّة، كما أنّه يحتلّ موقعا إيديولوجيّا محدّدا. إنّ فعل الشّخصيّة وسلوكها في الرّواية لازمان، سواء لكشف وضعها الإيديولوجيّ وكلامها، أو لاختبارهما".

ولا يخفى على قارئ رواية " الربيع يأتي متأخرا" تعدّد مكامن الحواريّة الثّاوية في هذا النّصّ الإبداعيّ والتي تبين للقارئ منذ عتباته حتّى ولوج متنه العميق.

1ــ تعدد الأصوات في عتبة العنوان:

ارتأى الكاتب منذر فالح الغزالي أن يسم روايته هذه بعنوان "الربيع يأتي متأخرا" وهي عنونة ترد في شكلها النّحويّ ونوعها البيانيّ جملة إسمية إخبارية تقريرية مثبتة، تحمل أطروحة معروضة تتّخذ من الربيع موقفا لا يكون من خلاله إلّا ربيعا يتأخّر قدومه. فبأي ربيع يتعلّق هذا الموقف؟ هل هو الرّبيع المادّيّ، ذاك الفصل البديع من فصول السّنة الاربعة؟ أم هو الشّباب، ربيع العمر البشريّ؟ أم هو الفرح، هذا الرّبيع المجازيّ؟ أم هو ذاك الحراك الثّوريّ العربيّ المسمّى بالرّبيع العربيّ؟ ومَن المتلفّظ بهذا الموقف الجازم بتأخّر قدوم الرّبيع؟ أهو المؤلّف التّاريخيّ منذر فالح الغزالي؟ أم هو الرّاوي؟ أم هو ملفوظ لإحدى شخصيّات الرّواية (جنان وقد أزهرت خميلة عشقها رياضا فكان الوصال العذب بعد سنين جفاء وانقطاع مريرين، أم رياض وقد حملت جرابات فرح الوصال المرتجى والسّعادة الحلم، بعد لظى القهر واليأس، جحيما أكبر تنذر به حماسة ثوريّة جامحة تسكن ليلى ابنة جنان الحبيبة فيمسي عشق الأمّ أبوّة والتّضحية القديمة بالعشق صونا للحبيبة تضحية بالنّفس حماية لابنتها، أم هو صوت زياد المنتصب في ذاكرة رياض كصخرة سيزيف لاهو دفعها فتخلّص منها وبلغ المنى ولا هي سحقته فانتهى الحلم والوجع انتهى) ؟ أم هو صوت الرّوائي الرّوسيّ تورغينيف صاحب "فيوض الرّبيع" ؟ أم تراه صوت الشّعوب التي خابت انتظاراتها لربيع الحريّة يخصب أرض حياتها البور وينعش غصون أحلامها العجاف؟ أم هو كلّ هذه الأصوات مجتمعة في صوت واحد مجهول الهويّة على مستوى بنيته السّطحيّة، متعدّد الهويّات في عمق تلك البنية؟

إنّ عنونة هذه الرّواية مخاتِلة موغلة في الغموض، مجافية لسنن العتبات القاضي بأن تكون نبراسا هاديا إلى ردهات النصّ الرّوائيّ وثناياه المتشعّبة. وهي مخاتَلةٌ حقّقها هذا اللّبس في تحديد المصدر الرّاجع إليه الصّوت الكامن في الملفوظ " الرّبيع يأتي متأخّرا" المثقل إيماء بإيديولوجيّة تسكنها أو لعلّها مجموعة إيديولوجيّات مختلفة متباينة متقاطعة متباعدة في آن، وهو لَبس شاء الكاتب أن يقذف القارئ في متاهته ليحقّق عبر ذاك التّيه شراكته النصّية، هذا المفهوم الذي برز مع ميخائيل باختين وهو يصطنع مفهوم الحواريّة وتعدّد الأصوات.

2ـــ تعدد الأصوات في نص الإهداء:

استهلّ المؤلّف إهداءه النّصّ في فاتحة روايته بهذه الجملة: " هذه رواية في العشق، وعن العشق". وهي جملة واصفة الرّواية مختزلة مسارها الممتدّ على ما يقارب السّبع مائة صفحة في حديث في العشق وعنه، وصفا مكثّفا غامضا معتما ملغزا مخاتلا، يوهم القارئ بأنّه يكشف له أسرار الرّواية، وهو لا يزيد مغاليقها إلّا إحكاما، استفزازا واستنفارا لعزمه على فكّ ما يبدو عصيّا.

وتزداد هذه المخاتلة حدّة والإهداء يتحوّل إلى نصّ سرديّ يُحيّن زمن كتابة الرّواية وظروف مخاضها ورحلة اغترابها، ليلتفت الخطاب بعد ذلك من أسلوب السّرد إلى أسلوب الإهداء وكأنّ الحرف ضاق بحديث الوجع فانكفأ إلى حديث الوجدان " إلى المرأة الأمّ... إلى المرأة الوطن... إلى المرأة الحبيبة... إلى شباب الوطن، كلّ شبابه، إلى نسائه، كل نسائه...".

والقارئ يلاحظ هذا الحضور اللّافت للمرأة في الإهداء وكأنّ الرّواية رواية المراة، او هي كما ورد في البداية رواية في العشق، وهل المرأة إلّا العشق مفهوما ومذاقات؟ ! فهي نبع العشق ومجراه ومحضنته وخميلته وفردوسه وجحيمه في آن...

وكم يبدو هذا الإهداء غامضا يتوارى فيه صوت المتلفظ خلف أصوات شتّى، فلا نتبيّن هل هو خطاب الكاتب أم خطاب الرّاوي أم هو خطاب الشّخصيّة الرّوائيّة أم هو خطاب المواطن السّوري؟ وهل هو خطاب واحد أم جمع خطابات: خطاب العاشق وخطاب الثّائر وخطاب الكاتب، وفي كل خطاب منها تتعدّد الاصوات؟ من المتلفّظ بهذا النصّ المخاتل؟ أهو العاشق المتخيّل المكابد أوجاع الحبّ زمن الحرب ينوب عنه الكاتب؟ أم هو حقّا صوت المؤلّف التّاريخيّ أي الكاتب كما حملت نهاية الإهداء، وقد شاء، مكلوما في الأحبّة والمنزل والوطن، أن يسخر من القارئ الغريب عن محارق سوريا الوطن، وهو يوهمه بأنه ييسّر له درب العبور إلى خدر ابنة قريحته البكر؟ أم هو صوت النّاقد المتمعّن في مسار الرّواية الواقف على جوهرها المدرك وعورة تحقّق ذلك لغيره من " القرّاء العابرين"؟ أم تراه صوت المؤرّخ الململم شتات المأساة في سوريا بعد صرخة حرة"ارحل ارحل يا بشار"؟ هل هو صوت المفكّر الثّائر بالقلم على خطى المقهور نحو العدم؟ أم إنّه صوت القارئ وقد سكن النصّ مثقّفا يتقفّى الحكاية ومعاصرا يسترجع أحداث مأساة جيل كابد الشّتات الرّوحيّ والفكريّ والسياسيّ، ومازال يكابده، حتّى بات يرى في التّلذّذ بحكايات العشق المتخيّل أدبيّا ملاذا من محارق الالم المكابد يوميّا؟

هذه متاهة أخرى من التسآل يرسمها تعدّد الأصوات في هذه الرّواية ليدفع بالقارئ إلى مزيد خطو نحو ردهاتها عساه يظفر ببرد يقين، لكنّ الأصوات تعانق التّعدد من جديد ونحن نلج متن صفحة ارتأى المؤلّف أن يعنونها ب"توطئة".

3ـــ التّعدّد الصّوتي في التّوطئة:

شاء الكاتب منذر فالح الغزالي أن يسم المتن الموالي للإهداء ب"توطئة"، وجعل المتن مجموعة من المقاطع القوليّة أسند خمسة منها لشخصيّات روايته وأورد السّادس في مستهلّ التّوطئة مجهول الإسناد. وقد جعل هذه الخطابات الستّ مستقلّة عن بعضها البعض من حيث مواضيعها فلا تعالق معنويّا بينها، بل كل ملفوظ منغلق على تيمته التي كانت عشقا في القول الأوّل، وتضحية في ملفوظ زياد، وعذريّة في ملفوظ ضحى، ثم قيمة الجمال في مقول رياض، و الهرم والشّباب في ملفوظ جنان، فالحريّة الشّخصيّة مفهوما ذاتيّا يبينه ملفوظ ليلى.

إنّ التّعدّد الصّوتيّ ساكن هذه التّوطئة، يبينه انتقاء اللّفظ وانتقاء تلك الخطابات، وتجلوه سربلةُ أوّلها بالغموض إذ سقط الإسناد عنه سهوا او عمدا، في مخاتلة نصّيّة عجيبة. هذه المخاتلة التي، من خلالها، تقذف ذي الرّواية بقارئها في متاهات الحيرة والتّسآل، منذ هذه العتبات الثّلاث الأولى عنونةً وإهداءً وتوطئةً، تستنفر فينا ملكة البحث في زاوية التّعدّد الصّوتيّ في متن هذا الهيكل السّرديّ الذي يومئ بالارباك وينذر بإجهاد جدّ شديد.

4 ـــــ تعدد الأصوات في المتن الرّوائيّ:

الرّواية هي محضن فنّ الحوارات بامتياز، إذ يشكّل الحوار عمودا أسّا في بنائها به يتنامى السّرد، وتتشكّل سيم الشّخصيات تشاكلا وتباينا، وتتحدّد عوالمها النّفسيّة والفكريّة والعقائديّة والاجتماعيّة الموجودة منها والمنشودة، وتنشأ صلات التّعالق بينها تآلفا أو تنافرا، تساعدا أو تصارعا... لذلك رأى ميخائيل باختين أنّها ـ أي الرواية ـ قائمة على مفهوم الحواريّة.

والرّواية باعتبارها ظاهرة لغويّة بالأساس، يقتضي البحث في خطابها تخطّي الجملة إلى الملفوظ، أو لنقل بمعنى أدقّ تخطّي ماهو كيان لغويّ مجرّد إلى ماهو كيان لغويّ واقع في مقام لذلك نلفي أنفسنا ونحن نقبل على رواية " الرّبيع يأتي متأخّرا" ننشدّ إلى مسألة الحواريّة البارزة فيها. فقد أنطق مؤلّفها التّاريخيّ، عبر الرّاوي، شخصيّاتها بخطابات جافت الخطابات المستهلكة العابرة الخُلو من عبق الفكر، لتعانق الطّرح الحجاجيّ للمواقف والآراء والمبادئ وحتى الأهواء، حتّى لتبدو لنا رواية إيديولوجيا، في انصياع لمصطنِع الحواريّة باختين وهو يربط الرّواية، كلّ رواية، بالإيديولوجيا.

إنّ النّاظر في خطابات الشّخصيات يعثر على الخطاب الشّيوعيّ الماركسيّ والخطاب الدّينيّ السّلفيّ المتطرّف والخطاب الفكريّ المعتدل الرّصين والخطاب الصوفيّ الروحيّ المغرق في التّجريد، والخطاب الوجدانيّ الرّهيف العذب وإن أثقلته دنان المرارة، والخطاب السّياسيّ الفاسد والخطاب الوصوليّ العفن والخطاب الأنثويّ المثقّف المشبع نهلا من مفهوم الحرّيّة والوجود....

ونحن نلج الحكاية في الرّواية يستقبلنا خطاب زياد تنقله ذاكرة صديقه رياض وهو يقول:" أنا عاشق يا صديقي... نسيت أن أخبرك أنها جنان"(ص2)، خطاب تنتفي فيه الحدود النّصّيّة بين الأزمنة( الماضي المتذكَّر والماضي الذي يسكن الذّاكرة)، وتنتفي فيه الحدود بين الأصوات، فلا نحن نجزم بأنّه صوت رياض ولا نحن نقنع بأنّه صوت زياد، انتفاءً تلتبس فيه الأصوات فلا يبين لنا أهو صوت رياض العاشق جنان عشقا ممتدّا حتّى الحرف الاخير من الرّواية؟أم هو صوت زياد العاشق جنان منذ عشرين عاما خلت عشقا سكنه توق إلى الجنس وظلّ الحرمان متأجّجا يغذّي شعورا بالحنق ورغبة في الانتقام منها ومن رياض لعدم التفاف الطّوق حول الحبيبة بإشباع توق الغريزة العمياء؟ أم هو الرّاوي محرّك الشّخصيّات حسب مشيئته إلها تقليديّا ينشئ العمليّة السّرديّة في هذه الرّواية ويدير أقدارها؟ أم تراه القارئ المتلقّي الذي يسكن النّصّ، شريكا فيه، والخطابَ قادحا لتشكله لدى المتكلم؟

هذا الخطاب وإن بدا وجدانيا إلّا أنّه مثّل المدخل الذي من خلاله نعبر إلى العلائق بين الشّخصيات، وهي علائق حكمها التّباين والتّصارع منذ بداية الرّواية حتّى نهايتها، تباين ينبجس من اختلاف الرّؤى الفكريّة والأطروحات الإيديولوجيّة والمنطلقات القيميّة، هذه المحدّدات التي سنعتمدها في دراسة التّعدّد الصّوتيّ بانتقاء بعض الخطابات كأمثلة لما تعجّ به الرّواية من تباين.

اتّكاءً على الامتداد الورقيّ الكبير لرواية "الرّبيع ياتي متأخّرا"، تقوم بعض الأمثلة من الخطابات والمشاهد السّردية فيها، إلى جانب الاسترفاد القرآني، بوظيفة الإبانة عن سمة تعدّد الأصوات فيها، التي تعدّ زاوية أسّا من زوايا الرّؤية الإبداعيّة لكاتبها منذر فالح الغزالي.

فالوجود المبثوث في مواضع متعدّدة منها لأغاني فيروز في بعض المشاهد السّرديّة لا يمثّل مجرّد توشية فنّيّة للحكاية تكسر نسق السّرد وتذبّ شبح ثقله عن القارئ وتروّح عن نفسه، بل إنّنا نلفيها تنهض بوظيفة الخطاب المتعدّدة منابعه. ففي الصفحة 329 مثلا حين يردّد رياض كلمات أغنيتها "حبّيتك بالصيف، حبيتك بالشتي، نطرتك بالصيف، نطرتك بالشتي..." يلتبس صوته بصوت فيروز وبصوت جنان التي تكابد حرائق العشق والشّوق مثله، بل إنّه يلتبس بصوت كلّ عاشق، هذا العاشق الذي قد يكون الرّاوي والمؤلّف التّاريخي والقارئ والإنسان في بعده الكونيّ الشموليّ.

أما حين تتسرب الآية القرآنية إلى خطاب الشّيخ " النّورانيّ"، كما يصفه الرّاوي، مثلا في الصفحة93 وفي الصفحة 95 ( الآية 115 من سورة المؤمنون "أفحسبتم أنّا خلقناكم عبثا"/ والآية الثّانية من سورة الرّعد " ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب") فإنّنا نقف أمام اجتماع صوت الشّيخ وصوت الوحي وصوت المؤلّف التّاريخيّ الذي اهتمّ بتذييلٍ يحدّد الآية والسّورة من النصّ القرآني، إلى جانب صوت الإنسان الفرد في ذاته المفرد وذاته الجمع العالق في متاهة البحث عن كنه الوجود وهو يكابد حيرة السّؤال والتباس الدرب عليه.

ولعلّه لا يخفى على القارئ أنّ الحوارات المتعدّدة بين شخوص الحكاية في روايتنا هذه تعجّ بأصوات المتلفّظين فيها وأصوات المنابع الإيديولوجيّة والثّقافية التي عنها يعبّرون من شيوعية ودينية وسياسية وعلمية مستقلة عن التجاذبات المختلفة، فلا خطاب زياد خلو من خطاب ماركس وأتباعه من العرب، ولا صوت خليل مفرغ من الفكر الوهّابيّ أو الإخوانيّ، ولا صوت عبير يستطيع ان يكتم صوت نوال السعداوي الصارخ فيه... إنّه التّعدّد الذي به تكتمل اللّوحة التي يرسمها الخطاب تماما كلوحة الفسيفساء التي لا تكون رسما واحدا مكتملا إن لم تتزاحم فيها تلك الجزيئات المتعدّدة!

بل إنّنا في هذه الرّواية نجد الملفوظ يتجاوز الإيماء إلى التّعدّد الصّوتيّ الذي يسكنه، ليعلن عن ذلك، كأنْ نجد رياضا، وهو الشّخصيّة الرئيسيّة في الرّواية يقول في موضع منها:" أنت الثّابت الوحيد في حياتي وكلّ شيء غيرك متحوّل" (ص622) فيعلو في ملفوظه صوت أدونيس الحاضر من خلال عباراته وإن لم يذكر اسمه، صادحا بفكره التّحديثيّ راسما مسار الاختلاف والتّفرّد، فكأنّنا بتفرّد شخصيّة رياض، بقيمها السّامية وتفكيرها المعتدل وعشقها المفارق كلّ وصف ورهافتها الصّامدة في وجه الابتذال والتّدنيّ والصّلف المادّيّ، ليس إلّا وجها من وجوه الحداثة الإنسانيّة الحقّ التي فاضت عن الأدب والعلم لتطال البنى النّفسيّة والفكريّة والوجدانيّة في الإنسان الفرد...

وفي موضع آخر نلفي ذات الشّخصيّة تردّد:" الأوقات السّعيدة مثل أمطار الرّبيع فيضها شديد لكنّ غيضها سريع" (ص392) فيحمل خطابه هذا صوتَه وصوت شخصيّة رواية "فيوض الربيع" للكاتب الرّوسي تورغينيف وصوت المؤلّف التّاريخي لروايتنا هذه، منذر فالح الغزالي، الذي أرجع من خلال التّذييل هذه العبارات إلى أصلها النّصّي الرّوسي في وفاء أدبيّ منه وفي إشارةٍ إلى صوتين آخرين يسكنان خطاب شخصيّته، إلى جانب كلّ هذه الأصوات، هما صوت المثقّف العربي الناهل من الأدب الغربيّ وصوت القارئ المتسائل في ذهن المؤلّف، وهو يسترفد هذا القول "التّورغينيفيّ"، عن مرجعيّة هذه الحكمة البليغة.     إنّ هذه الأمثلة ومثيلاتها كثيرة في رواية " الرّبيع يأتي متأخرا". وهي أمثلة لحواريّة باختينيّة تحمل في جراباتها أبعادا دلاليّة سنسعى ونحن نتّكئ على مرجعيّة تداوليّة تأوليّة إلى استنباط ما شاءت أن تومئ إليه منها في خضمّ هذا الزّخم الصّوتيّ البيّن.

التّعدّد الصّوتيّ والخبايا الدّلاليّة:

إنّ الكتابة الأدبيّة هي نبض الحرف في قريحة مؤلّفها وجدانا وفكرا، واقعا أو متخيّلا والحكاية في النّصّ السّرديّ، وإن انبجست من الخيال وعالقت أجنحته، تظلّ بالمؤثّرات الحافّة بلحظة تشكّلها الأولى في رحم القريحة أعلق.

ومن هذا المنطلق لا يمكن النّظر إلى تعدّد الأصوات في الرّواية بمعزل عن المثيرات الخارجيّة للنّصّ، ولا يمكن طرح وجودها فيه دون البحث في ما تحمله من تلك العوامل التّاريخيّة اجتماعيّا ونفسيّا وفكريّا ووجدانيّا...

ومسالة هذا التعدّد الصّوتيّ في رواية "الرّبيع يأتي متأخّرا" لا تعدو إلّا أن تكون كذلك، صارخة بالعقم السّياسيّ في الوطن العربيّ الغارق في للفساد والغطرسة والضّلال، صادحة بالثّراء الفكريّ والتّنوّع الإيديولوجيّ للطّبقة المثقّفة من المجتمع، ثراء عقيما كسياسته، دَيْدنه التّناحر ودأبه سلطة الرّأي الواحد والإيديولوجيا الواحدة، شاديا باختلاجات الرّوح المرفرفة حبّا في زمن يكابد الإنسان فيه حربا فحربا...

إنّ الحواريّة في هذه الرّواية وليدة أواخر العقد الثّاني من القرن الواحد والعشرين ترسم لنا صورة الإنسان العربيّ التي انبثقت سِيم تشكّلها منذ بداية نهايات القرن العشرين، منذ صدمة حرب الخليج الأولى وانهيار حلم النّزعة القوميّة وانحسار النّقاب عن وجوه الذّئاب من بني الأمّة الواحدة، هو الإنسان المتشظّي بين مادّيّة عفنة تُحكم القبضة عليه، وتطرّف دينيّ هروبا من "غول" الحداثة إلى أتون الانغلاق على الذّات وجلدها بما لم يأت الدّين بسلطان، وبين معانقة الوجدان والمُثل حدّ مجافاة الواقع والجور على الذّات معانقةً للتّضحية والوفاء والإيثار في زمن الانهيار والتّيه، واستفياءً بظلال الأدب، مصنّفات يقرؤها رياض، وشعرا يكتبه وجنان تقرؤه، وكتبا تُقبل عليها عبير قراءة وتلخيصا كمن يخاف هجرة الحرف العذب من القراطيس المنسيّة إلى سماوات اللّاعودة فرارا من مرارة هذا الوجود الإنسانيّ.

لعلّ هذه الرّواية حمّالة لأصوات كلّ الرّوائيّين والقصّاصين والشّعراء المثقلين بهموم الإنسان فردا ووطنا وأمّة، هموم لخّصها الرّوائي التّونسي فرج الحوار في قوله:"قلت أحكي لعلّ البحر تخبو جذوة ضجره، لعلّ الطّفل النّائم في جفن الحرف القاتم تتفتح ابتسامته، لعلّ البعد الموغل في كبد الأفق يتهاوى نجمه والمدينة الحبلى بكوارث الغد تجهض غولها."

وبما أنّ الكتابة الأدبيّة " حفر في كيان اللغة واشتغال عليها وسعي متواصل إلى التّفرّد والتّميّز باللّفظ الجيّد والمعنى الشّريف (...) وسعي إلى خرق المألوف السّائد من الكلام وإنشاء كون إبداعيّ رحب جديد" حسب عبارة النّاقد الباشا العيّادي في دراسته "خصائص الكتابة القصصية عند الدكتور محمود بالعيد: أغنية ميادة نموذجا"، فإنّنا نقف على اشتغال رصين بديع من طرف الكاتب منذر فالح الغزالي في روايته " الرّبيع يأتي متأخّرا" على لغة التّلفظ في الخطابات المتعدّدة، فهو لئن التزم التزاما جليّا كاد أن يكون تامّا بفصاحة اللّغة معرضا عن اللّهجات المختلفة المتداولة في تنكّر لأحد أسس الحداثة الأدبية الداعي إلى الكتابة بلغة الواقع "العامية المحلية" الخاصة بكل شخصية، فإنه حرص على أن تكون لغة كل شخصيّة لصيقة بإيديولوجيّتها وثقافتها ومبادئها لتكون مرآتها في التّعبير عن قضايا الفئة التي إليها تنتمي أو عنها تنطق، وصوتا صادحا في زخم الأصوات التي تسكن خطاباتها لتتعاضد جميعا في انتساج أبراد القضايا التي ترزح هذه الرّواية تحت ثقلها.

"الرّبيع يأتي متأخّرا" نصّ روائيّ شاء له مؤلّفه التّاريخيّ منذر فالح الغزالي أن تمتدّ صفحاته امتدادا يجزع له قلب القارئ المقبل عليه في هذا الزمن، زمن النفور من الكتاب ومآدبه، لكنّه ما أن يلامس عتبته وينحدر شيئا فشيئا نحو متاهات الغموض والمخاتلة فيه حتى تأسره "أوبرا الأصوات" المتزاحمة فيه لتحقيق اكتمال المعزوفة الرّوائيّة بهاءً ومعاني ودلالات، فيلفي نفسه غارقا في بحر الحكاية تجرفه الحوارات المختلفة ووجهات النظر المتعدّدة التي استأثر فيها الراوي العليم/ الراوي الإله بالنّصيب الأوفر منها، هذا إلى جانب تعدّد الأعوان السّرديّة في ذاك التّبئير، وكأنّنا بالرّاوي ينهكه ثقل جرابات السّرد فيستعين طورا برياض المتوسّل بذاكرته، وتارة بمذكّرات رياض المشحونة سردا ووجدانا، وطورا آخر نلفيه يتّكئ على كتف ضحى ليسلمها دفةّ الكشف عمّا خفي من تفاصيل انتقام زياد لحلم وصال أرّق مضجعه كثيرا.

إنّنا نلفي أنفسنا أمام رواية "في العشق وعن العشق" كما ورد في التّوطئة، هي رواية الإنسان العربيّ المثخن خيبات، المنهك تيها خلف تمزّق فكره بين الاغتراب والانغلاق، الموجع جورا سياسيّا واستلابا دينيّا وانهيارا قيميّا في زمن صار فيه الرّبيع يتعثّر وهو يسوس الخطى نحونا، فيتأخّر كثيرا، يتأخّر حتّى تتحجّر أزهار الأحلام في براعمها وتشيخ بلابل الأمل في أعشاشها وتمدّ حُور الصّبر ضفائرها لأجنّة الشّمس عساها تهتدي إلى درب الفجر...

هكذا أسرّت لنا هذه الرّواية الوليدة ونحن نكاشفها، أو خلنا ذلك، ونحن نتقفّى الأصوات المتعدّدة فيها تقفّيا نهلنا خارطته من حواريّة عجيبة فيها.

خاتمة:

لعلّه لا يخفى على قارئ هذه الرّواية أن يلاحظ أنّها إحدى مرايا المشهد الرّوائيّ الحديث، هذا المشهد الموسوم بسعي الرّوائيّين المعاصرين إلى معانقة سِيم التّفرّد في خضمّ العمليّة الإبداعيّة السّرديّة مسكونين بوعي إبداعيّ عميق بمركزيّة الحدث الرّوائيّ في مسار التّجديد الأدبيّ والتّأصيل الإنسانيّ للقضايا المطروحة والمشاغل المعروضة التي تنوء بحملها الشّخصيّات وتَفيض على علاقاتها وحواراتها، إلى حدّ لا يُعجز الواقفَ على الحراك الرّوائيّ المعاصر تبيّنُ التّمايز الجليّ بين اختلاف المسارات الإبداعيّة من رواية إلى أخرى، ومن تجربة روائيّة إلى أخرى باختلاف الخيارات والرّؤى الإبداعيّة من روائيّ إلى آخر في إطار ما يسمّى بالتّجريب الرّوائيّ.

ولئن ألفنا التّحديث الأدبيّ الرّوائيّ التّجريبيّ بعثا لحياة نصّيّة جديدة مختلفة عن السّائد متمرّدة عليه، ينشئ فيها الكاتب هندسة فنيّة مغايرة تنأى ببناء النصّ عن الهيكل السّائد وتخرجه من جبّة السّرد النّمطيّ الكلاسيكيّ، فإنّ ذلك لم يحُل دون بروز رؤى إبداعيّة روائية تجافي هذا المسار التّحديثي الهيكليّ لترسم هندستها الجديدة الخاصّة داخل المعمار الرّوائي التقليديّ ولتوشّي جبّة السّرد الكلاسيكيّ بزبرجدها الإبداعيّ الخاصّ فتحدث المخاتلة الإبداعيّة التي تشدّك إلى النصّ/ الرّواية شدّا آسرا لا تنعتق منه إلّا وقد أنهيت النصّ وما فرغت منه، أنهيت درب تقفّي الحكاية فيه وما فرغت من سيل الأسئلة الحارقة التي زرعتها فيك مذاقات أمشاج تلك الحكاية، أمشاجٍ غايرت من حيث شاكلت وخالفت أينما آلفت، فكأنّك وأنت تنحدر بالقراءة نحو النهاية، تصّعّد بالتّسآل نحو ذرى البدء الحقّ في تفعيل شراكتك النّصّيّة مع المؤلّف.

وما رواية " الرّبيع يأتي متأخّرا" للكاتب السّوري منذر فالح الغزالي، كما كاشفتنا زاوية التّعدد الصّوتيّ ونحن نتوقّف عند حواريّتها مساءلةً واستقراءً، إلّا وجها من وجوه هذا التّجريب الرّوائيّ المعاصر بمختلف سماته وأبعاده. وما هذا الاستقراء الفرديّ للتّعدّد الصّوتيّ فيها إلّا جهدا ضئيلا يتوق إلى بسط بعض تجلٍّ لحواريّة عميقة تسكنها، لعلّه يحقّق إسهاما في الكشف عنها أو يكون قادحا للالتفاف النّقديّ حول هذه الرّواية الوليدة.

 

زهرة خصخوصي/  تونس

 

 

في المثقف اليوم