قراءات نقدية

محمد المحسن: قراءة في قصيدة” طقطقة كعب” للشاعرة التونسية السامقة هادية آمنة

محمد المحسن"القصيدة تكتب شاعرها" (موريس بلانشو)

“طقطقة كعب “إبحار في سراديب الذات، ومصباح في زجاجة من الأرق والألم، والقلق، والسؤال، إنّه ايغال في -الغرام النبيل-لا يملأه إلا الفضاء، وهو أيضا بحث عن دفء الرغبة في ظل سكون، وصمت، رهيبين يقلان صخب الرعشة والحلم..

تطلّ علينا هذه النفس المتشظية والهادرة من عتبة هذه القصيدة، وعتبتها عنوانها، وعنوانها يؤجج الإحساس فينا- بشوق صاخب لأب رحيم- يهجع خلف الشغاف..

إنّ صيغة عنوان هذه القراءة النقدية لقصيدة هادية آمنة مستوحاة في جوهرها ممّا تتأسّس علي تلك النصوص الشعرية من مرجعيات كتابة وأسئلة متن ومستويات كلام تُسهم مجتمعة في تشكيل الكون الشعري وتحديد المفيد من سماته الفكرية وخصائصه الجمالية.. فالذاكرة حاضرة بكثافة في تشكيل مُجمل نصوص الشاعرة التونسية هادية آمنة.. نصوص تستعيد الذاكرة أفق خلاص من حرائق الراهن، ترتحل عبرها إلى زمن ماض يبدو أرحم وأرحب.. هي ذاكرة فرد: الذات الشاعر، وهي ذاكرة جمع: مجتمعة، وهي ذاكرة الإنسان: الإنسانية فالشعر خطاب يتجاوز حدود الذات الضيّقة، ليعبّر عن هموم الجماعة قبل أن يصوغ أوجاع الإنسان في المطلق.. ويبقى الشعر رسما بالحروف والكلمات.. ينفتح على الرسم التشكيلي فيستعير بعض ألوانه وأشكاله ورؤاه الجمالية تشكيلا بصريا للكتابة الشعرية على بياض ورقة الكتابة.. بعد أن تداعت الحدود بين الفنون فتداخلت التخوم..

تتثاءب الحروف.. وتتململ الكلمات كي تتشكّل ابداعا شعريا يلامس نرجس القلب، وذلك في شكل فضاءات دالة على ما يشكل هذا العمل الشعري من عوالم إبداع.. يتقاطع فيها وَجِدُ العشق بوجَع الحصار…

تتعدد المداخل إلى النص الشعري المعاصر وتتنوع، بحكم أنّه يبقى قابلا لأكثر من صورة تأويل، ومنفتحا على أكثر من شكل احتمال للمُمكن والتوقع للكامن.. فمدار الإبداع عامة والشعر منه خاصة، بحث يسكنه الإرتحال إلى المجهول من الآفاق، والقصي من جماليات الكتابة ودلالات الفكر.. توقا لتحقيق المغايرة للسائد الشعري..

وتبدو ملامسة تخوم الكون الشعري الذي تنحته نصوص الشاعرة التونسية هادية آمنة مدعاة للتأمّل عبر عناوينها: طقطقة كعب”، بإعتبار أنّ مثل هذا العنوان قد يختزل مُجمل العلامات الدالة على أسئلة متنه الشعري وجماليات صياغتها.. فالعنوان، رغم ما يشي به-بعده المجازي-، إلاّ أنّه يُضمر كتابة دلالية تجعل منه أحد المفاتيح الأساس لفتح مغالق النّص الشعري، والكشف عمّا تبطنه من دلائل لا تخلو من علامات غموض وتعتيم، وتتوسّل به من أدوات كتابة سحرية، تبقى دوما متغيرة، ومتحوّلة من تجربة إلى أخرى، وحتى من نص إلى آخر داخل التجربة الشعرية الواحدة.. فجوهر الإبداع تجاوز ينبغي دوما أن يدرك المدى الذي لا يُدرك، للكائن من الأشكال، والراهن من أسئلة الشعر..

أما المتن الشعري الذي ترسم معالمه نصوص هذا العمل الإبداعي وتحدّد المفيد من سماته الفكرية والجمالية في آن، فإنّه يقوم على تيمتين أساسيتين تشكّلان محوري القول الشعري، وهما الوفاء للأب الراحل وعطر الأنوثة، محوران يتنوّع حضورهما داخل القصيدة، إذ تأخذ علاقتهما أشكال التوازي أو التحاور أو التقاطع.. وقد وزّعت الشاعرة-ببراعة واقتدار-قصيدتها المدهشة بينهما..

للشاعرة التونسية هادية آمنة قدرة على استبطان اللغة وتشكيلها بحيث تعطي أقصى طاقتها في الدلالة على ما تريده وكأنما قد ألينت لها العربية .. واللغة ليست صماء بكماء إلا حال استخدامها من قبل أصم أبكم أعمى فساعتها تجدها جامدة ..

وتظهر اللغة أسرارها حال الاجتماع والبناء إذ اللفظ في ذاته مجرد أداة ولا يظهر مكنونه ومعناه بغير اجتماع لذا كان اللفظ في مبني بحيث يكون لبنة من لبنات هذا البناء غيره في معجم ..

ولنرى معا مدى توفيق الشاعرة وقدرتها على جعل الحرف يبوح بمكنونه وسره بين يديها :  قول الشاعرة :  بكعبها العالي جاءته تُطقطق

بمساحيق الغواية وجهها يغرق

بالعطور الباريسية أعطافها تعبق

براءة المكر من عيونها تُدهق

قبلات الورود على خدودها تُشرق

فاتنة في حبّها الكثير يغرق

على نخبها طهر السلسبيل يُهرق

بيادر الرياحين من مجالها تعبق

حروف الأبجديّة بالكاد تنطق

حرف الراء بلكنة عسل

غاء تُطلق

ينظر إليها الزيتونيّ و يضحك

شهد فيها ضياء سناها

وهام أبوها بطلق هواها

ظرف القطط في رسم خطاها

هويدتي

أخاف عليك مجون السنون

وعبث الدنيا فأنتِ فُتون

طوّقتِ العيون وأنتِ صغيرة

فكيف الحال إن صرتِ كبيرة ؟

سكبتُ فيك من روحي شِعري

منهل للحرف في لحظة التجلّي

علقتِ خواطري أمانة

احكيها

ترانيم شوق على أهداب قصيدة

غّنيها

من الجدير –في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة، وفي تحقيق قدرتها التأثيرية، فالملامح الصوتية التي تحدّد الشعر قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)، والبنية الصوتية للشعر ليست بنية تزينية، تضيف بعضا من الإيقاع، أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر، بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري، تنفر منه، وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما، وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف، فبالأصوات يستطيع الشاعر أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة، واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث، وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان(2)..

وإذا كان الأمر كذلك فليس بوسع الدارس أن يتجاهل ظاهرة أسلوبية لافتة ساهمت في إنجاز جمالية التجربة عند الشاعرة هادية آمنة كما ساهمت في تحديد معالم رؤاها وهذه الظاهرة هي تعويلها على المدود أو الصوائت الطوال، وهو ما يلمسه المرء في الخطاب الشعري على مستوى المفردة، وعلى مستوى التركيب، إذ تتجلى هذه الظاهرة الصوتية في هيمنة مفردات حافلات بالمدود الطوال على هذا الخطاب، وذلك من قبيل: هواها-خطاها-سناها-.. إلخ

ومن هنا، يبدو واضحا أنّ التعويل على الصوائت الطوال ظاهرة أسلوبية صبغت الخطاب الشعري عند هادية آمنة التي حمّلت هذه الصوائت عميق أحاسيسها وانفعالاتها مما يجعل خطابها في كثير من الأحيان قائما على ما يسميه جان كوهن بالكلمة الصرخة، ويذكر أنّ العلاقة وثيقة بين الصُّراخ والشعر، فالصراخ حالة هيولية من حالات الشعر، وفي ذلك يقول جان كوهن: ”الشعر يتميّز عن الصّراخ، لأنّ الصراخ يستخدم جسدنا على النحو الذي أعطتنا إيّاه الطبيعة، أما القصيدة فتستخدم اللغة، إنّ الشعر يستخدم المسند الذي تستخدمه اللغة غير الشعرية، إنّه يقول كما تقول: إنّ الأشياء كبيرة أو صغيرة…حارة أو باردة لكنّه يصنع من كلّ واحد من هذه الألفاظ الكلمة الصرخة، إنّ الشعر ذو جوهر تعجبي”(3)

على سبيل الخاتمة:

قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون القصائد الشعرية بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر، إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها، مما يشجع على المزيد من التفاعل، ومعاودة القراءة والقول، فكان ما كان في هذه الصفحات من مقاربة سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها..

والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:

هل لامست كلمات الشاعرة شيئا ما في دواخلنا وحركت بحور شوق لأبائنا ساكن فينا ؟ وهل هزت وتراً ما من مشاعرنا وألهبت حماسنا لأخذ زمام المبادرة لصياغة قصيدة تهدى لأب حنون كان بالأمس وسادة ريش لنا حين يداهمنا السقوط.. ؟

ويظل الجواب.. عاريا.. حافيا.. ينخر شفيف الروح..

 

محمد المحس- ناقد تونسي

.............................

الهوامش:

1-اللغة العليا ص: 116جون كوبن.. ترجمة أحمد درويش.. ط2 القاهرة 2000

2-البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص: 38-ط-الإسكندرية 19903-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص: 74

3-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص: 74..

 

في المثقف اليوم