قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: مباحث قرائية في رواية (أغنية هادئة) للكاتبة ليلى سليماني (3)

حيدر عبدالرضاتراجيديا المخبوء الكواليسي وأقنعة الخيوط الذروية.. المبحث (5)

توطئة:

من خلال السياق العام لرواية (أغنية هادئة) لربما لانفصل مصادر الفاعل المرسل والذي يتمثل بمجموعة محاور شخوصية لها صفات وملامح المحفز المركزي في حدود عاملية الشخصية ذات العلاقة المحورية، فلكل شخصية في الرواية تكشف لنا عن دورها الملفت في المرسل السردي وضمن أداة تماثلية قويمة من الاغناء الوظائفي في دلالات الرواية.

ـ السارد الكلي العلم بين الارتداد في الحكي ومؤشرات المسرود

ومن الأشكال التقانية التي تعرفنا عليها في مسار الأحداث في الرواية، ذلك الأداء التقني من الارتداد شكلا استعاديا في رصد مكملات الحكاية في موضوعة الشواهد، لذا تعرفنا الأحداث في الزمن المتقدم من النص نحو شخصية (ستيفاني) تلك الصبية بنت المربية لويز، حيث تم الاشارة إليها مؤخرا من ناحية زمن السارد كلي العلم، وما نعلمه عن هذه الشخصية بأنها وليدة ظروف إلتباسية شائكة تقع ما بين لويز وزوجها جاك، مما أدى بهما الأمر إلى الانفصال عن بعضهما البعض في ظل ظروف وأسباب واهنة من العلاقة الزوجية ما بين الطرفين: (تعلمت ستيفاني تغيير الحفاظات وتحضير زجاجات الإرضاع وهي لا تزال في الثامنة من عمرها./ص50 الرواية) ويخضع تقديم الحكي للشخصية ستيفاني في حيز من الأشكال الارتدادية الخارجية عن آنية المسار الزمني للخطاب الروائي.

1ـ الارتداد الخارجي:

ويجسد هذا النوع من الارتداد ما كانت مؤشراته خارج الفعل المؤول في الوظيفة الحاضرة في تمفصلات النص، لذا وجدنا من خلاله ارتباط الشخصية ستيفاني ضمن حدود واقعة خارج نطاق زمن الحكي، أي بمعنى ما، أنها لا تدخل كواصلة تحيينية من حاضر ومؤشر الحكاية، وهو أيضا من الممكن أن يصنف على هيئة عدة محاور (الارتداد الخارج جزئي ـ الارتداد الخارجي التكميلي ـ الارتداد الخارجي الذاتي ـ الارتداد الخارجي الموضوعي/الارتداد الداخلي:الارتداد الداخلي التكميلي ـ الارتداد الداخلي التذكيري ـ الارتداد المختلط) ويرى بعض النقاد أن الارتدادات على نوعين: (ذاتي ـ موضوعي) الأول يرتبط بالشخصية التي تمثل محور الحكي كشخصية مريم أو لويز أو بول، إذ أنها ترد بأفكارها المتعلقة في الماضي على شكل ذكريات، أما القسم الثاني الارتدادات الموضوعية فهي تتعلق بالحاكي الذي يرى أنه من الضروري أن يعود بالقارىء إلى الوراء لمدة ما وبخلفية داعمة وإضافية عن تاريخ مكان أو زمن ماضي أو حادثة قد تمد للقصة بصلة ما.فمن خلال المسرود المتعلق بالشخصية ستيفاني نعاين مدى الأجواء المبتذلة التي كانت تحتويها لهذه الشخصية، فهي من جهة ما ومنذ كانت في الثامنة من عمرها أخذت تتكفل بمساعدة والدتها في كيفية حمل الأطفال الرضع من أسرهم، فيما تمرر براحة يدها تحت ظهورهم: (لما كانت ستيفاني طفلة، كانت أمها ترعى الرضع في بيتهم، أو بالأحرى في بيت جاك..وهي لا تزال تتذكر أولئك الأمهات المستعجلات الحزينات اللواتي كن يلصقن آذانهن بالباب..علمتها لويز كيف تصيغ السمع لخطواتهن المتوترة في ممر العمارة./ص50 الرواية) يقدم السارد لنا صورة يرسم فيها بعض من سلوكيات وملامح الشخصية ستيفاني:الغيرة العداء، الانزواء، وفي مثل هكذا سمات اعتبارية وجدنا أن الشخصية تتصور لنا في حاجة ماسة إلى الرعاية الخاصة، فهي محرومة حتى من مظاهر العاطفة الأمومية في شكلها الجاد، وهذا الأمر ما جعلها بدوره بدت وكأنها ذات مظاهر عدوانية نحو تلك المجاميع من الأطفال، وصولا بها جرع حليب أمهاتهم المعبأ في قناني زجاجية: (استيقظت ذات ليلة، وفتحت زجاجة سجل عليها أسم جول، وهو رضيع أحمر البشرة كان قد خمش وجهها بأظافره الحادة، وعمدت إلى شرب ما بها من حليب بجرعة واحدة.لن تنسى أبدا طعمه الشبيه بطعم البطيخ الفاسد./ص51 الرواية) على هذا النحو بدت لنا مكونات الشخصية البنت ستيفاني كهالة صورية تتعالى عن الحدث السائد، لتشكل بذاتها ذلك الأفق المطرد والمرتكز في محيطها المحموم بالإهمال ومفارقات المواقف العابثة.

2ـ الارتداد الخارجي الذاتي:

وهذا الجانب من الارتداد غالبا ما يقع خارج القيمة التأطيرية للزمن الشخوصي المخصوص بحكاية الرواية، ليكون متعلقا بماضي الشخصية، ومثال ذلك ما صادفنا في مرافقات ستيفاني مع أمها مساء أيام السبت لرعاية الأطفال في شقق كانت تبدو لها بالغة الضخامة والأناقة: (تعبر نساء جميلات البهو، وتطبعن قبلات على خدود وأبنائهن فتتركن عليها أثر أحمر الشفاه..أما الرجال الذين يضايقهم وجود لويز وستيفاني فيفضلون الانتظار في الصالون/كانت ستيفاني تبغضهم، تشمئز من الطريقة التي كانوا يضربون بها أمها، والفظاظة التي يكلمونها بها./ص51 الرواية) تتداعى الصور في مخلية ستيفاني عطفا على أمها لويز مرارا، لتتحول إلى ما يشبه العداء حول أولئك الأطفال الذين هم في رعاية لويز وضمانها، ما يجعل ستيقاني تشمئز من خضوع أمها إلى وصايا تلك الأمهات اللاتي يهممن بالخروج مع أزواجهن إلى العمل أو إلى سهرة في أحدى المطاعم الكبيرة.وبالموازاة من احاسيس ستيفاني تأثرا لها ولأمها فهي بمجرد خروج أولئك الأزواج، سرعان ما تنهض وتفتش في أدراج محتوى خزانة ثمينة للعائلة، فتهم بإخراج الأغراض والبومات الصور الخاصة بالعائلة، إذ تتشوفها بأحتقار لا نظير له، أو أنها تسعى سرا إلى صفع أحدى أولئك الاطفال الرضع غلا وحقدا بمجابهة ردودها الانفعالية.تكشف أيضا لنا الرواية عن مصاحبة الشخصية ستيفاني والدتها لويز إلى عائلة ثرية تدعى آل روفيي، حيث عملت لويز لدى هذه العائلة إلى سنوات في بيتهم الريفي.وتبعا لهذا يكشف لنا السارد الكلي العلم عن مدى المفارقة الحاصلة في سلوك هذه العائلة حيال هذه الصبية المسكينة ، فقد اشترطت عليها لويز والدتها أن لاتتظاهر جهرا بأكل الفواكه مثل أطفال أصحاب البيت، كما وعدم السهر إلى ساعة متأخرة من الليل، أي بمعنى ما، أرادت لها أمها بأن لا تظهر سعادتها في هذا المكان تماما، تحسبا من ذوي البيت مؤاخذتها على أنها وأبنتها لا يملكان حق من حقوق التسيد: (رغم زعمهم أننا في عطلة مثلهم، فإنهم سيتضايقون إن لاحظوا أنك تبالغين في الاستمتاع..وفي وقت الطعام، تجلس إلى جانب أمها في المطبخ، بعيدا عن أصحاب البيت وضيوفهم..لم يكن آل روفيي يطيقون الطفلة الصغيرة..ينزعجون من وجودها، وهو أمر كان واضحا يكاد يلمس..كانوا يكنون حقدا مخزيا لهذه الطفلة./ص52 .ص53 الرواية) وعلى هذا النحو وجدنا جملة الارتدادات الثنائية (الذاتية ـ الموضوعية) في عمق واصلات الأحداث الخاصة في فصل (ستيفاني) من الرواية ـ تحليلا مسهبا ـ كان من قبل ليلى سليماني، اقترانا متماثلا مع حيثيات ما تجود فيه حياة أمها لويز من محامل الذل والخذلان والغبطة.فالروائية كانت تسعى من وراء هذا، إظهار تفاصيل سيرة ذاتية من حياة البؤساء في منازل السعداء، وكيفية مجرى المواقف والعواطف المردودة في دواخل هذه الطبقات المسحوقة من الشخوص، خصوصا ما كانت تلازمهم من مشاعر رعشة وشاحبة وهم يشحذوا الاحسان من أفواه أرباب تلك المنازل.فالأمر في ما يتعلق بالشخصية ستيفاني لا يتعدى الجانب المتوارى من قيمة ذات تفاصيل من حياة أمها لويز الموغلة في الحرمان.

ـ الأطياف الحاضرة في الكواليس:لويز تمسك بخيوط الهيمنة

سنلاحظ في بعض الوحدات القادمة من الرواية، كيفية أن تتنبه الشخصية مريم إلى كونها غدت تغادر موقعها الأمومي رويدا رويدا، وبطريقة تلقائية ليس لها فيها من تدخلا هستريا ما في مدى هذا التحول.كل ما أود قوله هنا أن الشخصية مريم صارت تشعر بأن المربية لويز قد أحلت مكانها تماما، فهي أصبحت تعود لأيام متكررة إلى موضع الشقة بصورة متأخرة، دون أن تجد طفليها في أوج فرحتهم في استقبالها كحال الأيام المنصرمة.. لويز أصبحت من يشد خيوط العلاقة بين بول ومريم بالاقتراح عليهم من قبل المربية نحو فرصة الخروج معا لأحياء سهرة جميلة في أحدى الأمكنة، في ما هي من سوف يتولى سد الفراغ الحاصل ما بين الطفلين ووالديهما، والسؤال يبقى مطروحا في هذا الصدد من النص:ما قصدية كل هذا الحضور والحماس من قبل مربية للأطفال بحياة والديهما واسعادهما بالتفرغ إلى حياتهما الخاصة؟إلا يبدو حدوث مثل هذا الأمر في غاية الشك والظنية اللامجدية؟فما الفحوى التي تقع من وراءهما سعادة لويز في غسل الأطباق وتعديل ديكور الشقة في حين أن طبيعة عملها لا تتكفل بمثل هذه المهام الطوعية منها بالمجان؟ومن هذه الأسئلة التي تصب في ذروة مستوى انشغالات المربية بأحوال وشؤون الأسرة للشخصية مريم وبول، قد تحل ثمة سعادة من الشخصية مريم ذاتها ولكنها غير مبرهنة في أوجهها العديدة: (هكذا صارت لويز بمرور الأيام لاغنى عنها في البيت..لم تعد مريم تهاتفها لتخبرها بتأخراتها، كما لم تعد ميلا تسأل عن موعد عودة أمها..واستمرأت مريم هذه العناية، وشرعت تتخلى للمربية تدريجيا عن مزيد من المهام..ومضت لويز تشجع الزوجين على الخروج..وكانت تردد على نحو آلي ـ ينبغي أن تستمتعا بشبابيكما ـ وعملت مريم بنصيحتها فقد وجدتها امرأة لبيبة وطيبة.ص56.ص57 الرواية) على ما يبدو أن الحيوية التي وهبتها المربية إلى الزوجين طوعا، تكشف لنا عن ذلك الزمن الذي جعل من المربية تنام في أغلب لياليها على أريكة في صالون المنزل، دون شعورها بأهوال التعب المتراكم على ذاتها.وهذا الموقف ما أثار حفيظة الزوج بول مخاطبا مريم في وقت متأخر من الليل في طريق عودتهما من خارج الشقة، إلى أن من الأجدى لها العودة إلى الإمساك بزمام اسرتها مجددا، حتى لا يخالج لويز يوما الظن بأستغلالها من قبل هذه العائلة.

ـ تعليق القراءة:

ينهض من مبحث دراستنا هذه..تلك المحاولة في تحليل بعض من استراتيجية السياق الروائي، والذي كان مطلبنا الأولي من وراءه، برز الصورة التي من خلالها كانت العلاقة الحقيقية في مبتغى الشخصية لويز، والتي تتلخص في مراعاة هذه العائلة بدءا من الطفلين وحتى الوالدين.وإلى جانب هذه المراعاة تكمن هوية التأسيس لها في أرض هذه البيئة وإلى درجة التدرج في عرض خدماتها التي تكاد أن تكون بلا أجرا واف..وبهذا المعنى سوف تبقى هي الكينونة المتحركة من خلف الكواليس حضورا قاصدا إلى شد خيوط تحقيق الهيمنة لذاتها الفاقدة إلى النسق الأواصري في حياتها المفصولة عن أهم وأشد بنى التقيد بذلك الثقل الاعتباري من حياتها الشخصية المنهارة والخاوية في الجذور المنفصلة عن الوعي الأسري المتمنى في قرارها الذاتي طويلا.

 

حيدر عبد الرضا

 

  

في المثقف اليوم