قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: مباحث قرائية في رواية (أغنية هادئة) للكاتبة ليلى سليماني (4)

حيدر عبدالرضاممكنات التأويل وإخصاب إيحاءات المتخيل الروائي

المبحث (6)


 توطئة:

ان فعاليات المعرفة القرائية التي يلتمسها القارىء في رواية (أغنية هادئة) قد تكون ذات وظائفية أساسية في مجال حكاية متعلقة في حدود (ممكنات التأويل) وهذا الإمكان التأويلي يبدو ناتجا بدوره من آفاق شبه ملموسة من غاية (إيحاءات المتخيل) الإخصابي في مراحل وتمفصلات العمل الروائي.لذا فإن بلوغ تجليات هذا النص في صورته الإطارية والاستباقية المعتمدة من قبل وظائف خاصة من ثنائية (الحوافز السكونية ـ الحوافز الدينامية) خلوصا إلى ذلك التماثل الحصولي ما بين (أنساق المتن ـ أنساق المبنى) تمثلا شكليا ومضمونيا نحو استيعاب الحيثيات الجوانية من مسكوتات النص الدلالية التي من شأنها، إخفاء حقيقة مؤديات دليل هوية النص المضمونية، عبر مؤولات إندماجية في عكس موحيات المعنى الحاصل في المتن نفسه والحاصل أيضا في الصعيد المضموني من فجائية صاعقة.نحن نعلم جيدا ما سعت إليه (ليلى سليماني) في مستهل بنيات بدايتها الروائية المؤطرة في (أغنية هادئة) ولكننا رغم ما قرأنا في تلك المدخلية من النص، قد لا يحيطنا وهج الاحساس بمغامرة الشكل الروائي تحديدا، ولا من جهة أسئلة المصير الروائي الذي كانت عليه الرواية من أحداث ذروية متوترة.وعلى هذا النحو فنحن في مبحثنا هذا، سوف نطالع مستجدات الامتلاء المضمر في شخصية المربية لويز وعائلة بول ومريم والطفلان ميلا وآدم، كشفا عن حجم مستوى ذلك الحكي المتراكب بقصدية المنظور الحكائي والخطابي في استراتيجية النص الروائي نفسه.

ـ تقانة الروابط السردية ومسرحة الزمن الروائي

على أية حال، تواجهنا مسارية الأحداث في رواية (أغنية هادئة) بما يوفر لحركية شخوصها المحورية واللامحورية، ذلك التركيز والاختزال في شواهد حدثية، هي كخلاصة في طي المسافات الزمنية بين الروابط الشخوصية والأحداث والاحوال الخاصة في ما يتعلق ومحيط عائلة بول ومريم وطفليهما .. تتكرر من قبل المؤلفة سليماني كعادتها في تقريب المسافة الزمنية التي من شأنها حصر المجمل من التلخيص داخل بؤرة مكانية محددة، لذا فإننا في أحداث الرواية لم نلحظ ثمة شواهد زمنية متباعدة إطلاقا، بقدر ما شاهدنا الاقتصار من المؤلفة على أحياز مكانية ـ زمنية مخصوصة بالجهة المدعومة بالدليل المشهدي الحاصل بموجب الدلالة الروائية حصرا، أي أن الزوجة مريم لم تغادر إلى أمكنة متعددة من أحياز واسعة خاصة بعاملية المكان في النص، سوى خلاصة تنقلاتها ما بين هواجسها كمحامية داخل شركة محاماة، وبيتها الذي هو المحور المجمل من علاقتها بزوجها وطفليها والمربية لويز، كذلك نجد بالمقابل أن الزوج بول لا تتسع حدود مشاغله سوى بما يربطه بين استوديو تسجيلات الأغاني التابع له كونه ذلك الشاعر الغنائي وحدود ما يترتب عليه في علاقته بعائلته حصرا.هذا الأمر ما جعلنا نواجه زمنا ممسرحا كأنه خشبة عرض مسرحية جادة من القرن التاسع عشر، وهذه الممارسة الممسرحة بالزمن قد لا تأبه كثيرا إلى التحولات النصية في مساحة الاسترجاع أوالاستباق إطلاقا، فكل من هذين التقانتين اللتين تحدثان في حدود انطباعية مرسومة في لحظات من التداعي والتحول الممسرح بالزمن إلى مجال زمن الحكاية بطريقة اندماجية ممسرحة بالفعل المكاني والحصولي من بناء الأحداث.

1 ـ الاسترجاع الاستباقي ومعادلة الفعل الموضوعي:

قد يتمثل لنا هذا النوع باستعادة صور من الأحداث التي تختزنها أخيلة بعض من شخصيات الرواية، ذلك عندما يكون أمر استعادتها يتم بموجب هواجس استباقية بالفعل القادم من زمن الحكي، لذا نلاحظ بأن تداخل ثنائية (الاسترجاع ـ الاستباق) في الوقت ذاته من الزمن والمكان والشخصية، حتما أمرا شاقا، ولكننا عندما نتمعن في بعض من وحدات الرواية، نلحظ مدى الامتزاج ما بين الاستعادة والاستباق، وذلك نظرا إلى هذه الوحدات من النص قاب قوسين: (لاذت لويز بغرفة الأطفال.. وبقيت لمدة طويلة مستلقية إلى جانب ميلا، تداعب فوديها وشعرها، تراقب تحت ضوء المصباح الخفيف الأزرق وجه آدم البرىء. / ص60 الرواية) تتعلق هذه الوحدة المشهدية من النص، بما يخالج دلالات استباقية سوف تحدث مستقبلا في الرواية، ولكن لو نظرنا فيها كحافزية دلالية، لوجدنا ما هو انتقائي في صوغ مثل هذا المشهد من قبل سليماني.فالكاتبة عرضت لنا حدود هذا المشهد في اللحظة التي كانت تتعزز فيها مكانة لويز في إدارة جميع شؤون المنزل لدى الزوجان بول ومريم، ومعنى ذلك أن حاصلية وقوع الفعل لا يتعدى متابعة الحنو والملاطفة والرعاية الحقة في هواجس هذه المربية لكلا هذان الطفلان، ولكن هناك جملة مبررات غريبة تدعونا إلى التساؤل غالبا: هل حقا أن المربية تمتلك هذه العاطفة الفائضة التي تجعلها تقوم بدور الحنو على هذين الطفلين رغم عدم وجود والديهما بالقرب منها إن كانت تطمح إلى الرياء مثالا؟وهل أن لويز في واقع عاطفتها أما عطوفا إلى هذه الدرجة رغم إهمالها الواضح لأبنتها ستيفاني ونسيانها دون حتى ذكرها مرة؟هكذا تقودنا أسئلة القراءة من جهة خاصة، وخصوصا إزاء ذلك المشهد الذي تراقب فيه المربية من تحت ضوء المصباح إلى ملامح الطفل آدم البريئة.من ناحية أخرى يذكرنا حادث رحلة العائلة نحو تلك الجزيرة المطلة على الشاطىء : (بعد أن أنامت لويز الطفلين.. جفاها النوم.أخذت لها مكانا في شرفة غرفتها وراحت تتأمل الخليج المستدير.وفي الليل هب ريح بحري مشبع بطعم الملح والخيال. / ص69 الرواية) نعم إنها الخيالات ذاتها التي جعلتها تشيد قصورا من الرمال على ضفاف الشاطىء أو تشكل هيكل تلك السلحفاة من الرمل أيضا ثم بالتالي تتهدم تحت أثر ضربة خاطفة بها من خلال أحدى أرجل آدم الحافية.كل هذه المشاهد ومن مثيلاتها ما هي إلا معادلات نصية ـ موضوعية ، من شأنها توضيح حجم مرموز الآمال الخائبة في دواخل لويز ذاتها.فالسلحفاة الرملية بطبيعتها المرمزة تلوح إلى زمن خطوات لويز القصيرة والواهنة في مسافة الوصول إلى مرادها الوحيد في أن تشغل المزيد من اهتمام الزوجان وتبقى هي إزاء ذلك إلى أزمنة طويلة منعمة وسط هذه العائلة، دون التبعثر والتشرد داخل بيوت عوائل حانقة بطبعها على هذه الفئة الضعيفة من الناس : ( لم تكن تفكر لويز إلا في السفر إلى الجزر التي حكت عنها مريم للأطفال خرافات وأساطير/على أن لويز أنصتت لحكاية زيوس وآلهة الحرب بشغف طفولي.. وعلى غرار ميلا، أحبت إيجه الذي أعار زرقته للبحر.. هذا البحر الذي ستركبه لأول مرة . / ص65 الرواية) على هذا النحو وغيره من أفعال المعادل النصي في دلالات الإيحاءات المرمزة، كانت لويز تعشق حكايات آلهة الحرب، اقترانا بما يوافق ملاحقات زمنها المؤمل بالهيمنة على العائلة حتى لو تطلب منها الأمر خوض الحرب لأجل كسب البقاء مع هذه العائلة وطفليهما.وهذا الأمر يذكرنا أيضا بحادثة شدها لمعصم الطفلة ميلا عند ضفاف الشاطىء ما جعل الطفلة تصرخ ألما عندما طلبت منها الطفلة النزول إلى البحر عوما، وما حدث أن تقافز الوالدان إلى مكان طفلتهم الصارخة من هول شد معصمها من قبل لويز لكونها في الحقيقة لا تجيد السباحة ببساطة .

2 ـ إيروسية الحلم ونزوات الذاكرة:

تبدو واصلة التفاصيل الروائية من السعة والتركيز والمقاربة لأدق مجالات الدخول في الوعي الشخوصي في الرواية.بدت شخصية المربية من الانتقال من حياتها كمربية تقليدية ترعى الأطفال في بيوت العوائل بواسطة مبالغ مالية بسيطة، إلى شخصية تحتل لذاتها المركونة سابقا أعلى مستويات الانموذج المحتذى به من خلال الزوجان بول ومريم في رعاية شؤونهما الكاملة.وهذا الأمر غدا يفسر ظنون المربية بعد أن تعرضت إلى خيبة عدم اتقانها للسباحة مع إلحاح الطفلة ميلا، ما جعلها أمام هذه الطفلة موضعا للسخرية الطفولية لوهلة، وعلى هذا النحو راح الأب بول متكفلا بتعليم لويز للسباحة تحت إشرافه الشخص، ما راح الأمر يجعله مضطرا إلى الغطس معها إلى مسافة غير عميقة من الشاطىء، وعندما راح يمسك بجسدها داخل الماء، ساور لويز ذلك الشعور العاطفي والغريزي المهتاج من أثر ملامسات يدي الزوج بول اضطرارا لأفخاذها أو مساحة حساسة من عنقها أو ردفيها: (جسد لم يسبق له أن رأه أو حتى توقع وجوده، هو من كان يصنفها في عالم الأطفال.. ومع ذلك فلويز ليست بشعة.. تبدو مستسلمة لراحتيه كدمية صغيرة.. انفلتت بضع خصلات شقراء من قبعة الاستحمام التي اشترتها لها مريم.. تنظر لويز إلى قدميها وهما يغوصان في الرمل فتتراءى لها من خلال الماء أشياء صغيرة براقة تخالها شذرات ذهب . / ص72 .ص73 الرواية) انطلاقا من هذه الرؤى والوحدات نلحظ كيفية أن الشخصية لويز كانت على أعلى مستويات من الوهم والخيال المروع، لدرجة وصولها إلى ممارسة أحلام إيروسية تحت سقف غرفتها ، ذلك عند سماعها إلى أصوات وتأوهات وصرير حركة اصطدام السرير في الجدار أثر ممارسة جنسية قام بها الزوجان في غرفتهما الخاصة.

ـ تعليق القراءة:

في الحقيقة ينتمي هذا المبحث إلى مجموع المباحث السابقة التي تعنى بدراسة معمقة وتحليلية في رواية (أغنية هادئة) للروائية القديرة ليلى سليماني.من هنا أقول وحتى مباحث لنا سابقة بأننا لم نؤشر إلى أية شائبة سلبية أو مثلبة ما في المتن والشكل البنائي للرواية اطلاقا.. ولكننا مع الأسف الشديد لاحظنا ما قامت به الكاتبة سليماني في محاورة جاءت على لسان إحدى شخصياتها في الرواية، وذلك في ما يمس جلالة الله والاسلام واللغة العربية وما يخص التمييزية والشعوبية إجمالا: (أن أبني أودين هو التلميذ الأبيض الوحيد في الفصل.. أدرك أنني لا أملك خيارا آخر ، لكنني لا أعرف ماذا سأصنع إن عاد يوما إلى البيت وهو يذكر الله ويتحدث بالعربية. / ص62 الرواية ) هكذا واجهتنا ليلى سليماني عبر أفكارها الشعوبية الخربة ودرجة مقتها إلى الخالق والدين معا، وهذا ما تنبه لنا أيضا في مكان آخر من سياق فصول الرواية، أنا شخصيا كل ما أعرفه بأن الكاتبة تنحدر من أصول مغربية عربية، ولكن من الواضح أن مراحل ترعرعها كانت في فرنسا، وليكن ذلك حتى وأن كانت وسط جزيرة الشياطين، فهذا الأمر لا يمنعها من نكران أصلها العربي وأجحافها للدين الأسلامي المقدس : عزيزتي ليلى سليماني أن رأس كل حكمة هي الإقرار بوحدانية الخالق العظيم ببساطة، كما أن مقتك للغة العربية لا يبرر كون روايتك موضع دراستنا مترجمة بموافقة منك أولا وأخيرا إلى اللغة العربية، فما وجه التناقض في أمرك تحديدا؟على أية حال نحن العرب كأدباء ونقاد لا مشكلة لدينا مع إبداعك كروائية إطلاقا، ولكن لا نسمح إلى كل من ساورته المشاعر الفرنسية الطارئة عليه غفلة فراح يتوهم بذاته بأنه قد فاز بالمواطنة الباريسية النزقة.. صديقتي أنت كاتبة رائعة في عوالم الفن الروائي، فلا تبددي جمال إبداعك بهذيانات وهمزات وهلوسات مريضة لا أول لها ولا آخر في دنيا الإبداع والنصوص الخالدة .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم