قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: مباحث قرائية في رواية (أغنية هادئة) للكاتبة ليلى سليماني (5)

حيدر عبدالرضاالبنيات النصية الصغرى بين الانشطار الزمني والمجرد السيكولوجي

المبحث (7)


 توطئة:

لعل أهم خصيصة تلفت الانتباه في مجرى مقاليد السرد في عوالم رواية (أغنية هادئة ) تلك المساحة الدلالية المراوحة في فضاءات (البنيات الصغرى) أو ما يجوز لنا تسميته بالجوانب النسبية في محكيات السرد. فالقارىء إلى نمذجة الأفعال الصغرى من مدار الحراك والتفعيل الشخوصي في قرائن السرد، قد يعاين بأن المجمل الكلي في واردات الشكل المعروض من البنية الشاملة في النص، ما هي إلا جملة ارهاصات بنائية متآتية من ناحية القاعدة الصغرى في تخوم حركية الواقع النصي، وإلا ما قد قرأناه في مصاغ البنيات الصغرى ليس له بالأهمية الاعتبارية إطلاقا حيال العلاقات المومؤطرات الصادرة في أسلبة أدق نوازع المواقف والأحداث الأكثر عفوية وتلقائية في التشكيل الروائي الكلي كبنية جامعة لجل البناءات التفضيلية في مراحل النص.

ـ عادات وانطباعات وتوريات المحاكمة في مداليل مغيبة.

لاحظنا الكثير من الاقسام المختصة في مستوى الخلفية النصية، ما يظهر لنا كحالة استباقية مشرئبة في التعقيد والنوازع السيكولوجية المتقصية في أدق دقائق المصاحبات للشخوص في رواية ليلى سليماني، منها ذلك الاستباق الجزئي في بداية الرواية والذي يبدو لنا مفصولا عن بداية الممارسة الاجرائية من وازع حكاية الرواية.لذا عثرنا لوهلة ما يذكرنا بشكل حالات الاستباق في بداية النص بما يجعلنا نعاين في فصل تحت عنوان (روزغرينبرغ) ذات المجسات من استباقات مسكوت عنها في تفاصيل الرواية لحد الآن.. طبعا في هذا الفصل نواجه حياة العجوز السيدة روزغرينبرغ، بما يدفعنا إلى السؤال الملحاح في هذا الصدد:هل عادات وانطباعات هذه العجوز شبه الكفيفة خلاصة للصراع بين الدال الصغروي المنسلخ عن كلياته المدلولية اللامصرح بها إلى الآن؟أم أنها كينونة بمقدار الزمن المتاح في البنية الصغرى للنص مثالا؟لكننا في واقع حالات ومؤشرات هذه الشخصية العجوز ألفينا علامات غريبة من جهة الزمن كلحظات تلميحية مشاعة في مستضمراتها إلى ما يوحي لنا بوجود ذلك المدان أو المتهم أو ما جعلها ساهية وهي تغلق مصاريع النوافذ والباب: ما كل هذا أهناك ما تود ان تمنحنا إياه البنى الصغرى من استقدامات أفعال مضمرة في هواجس المدلول الانتسابي للواقع النصي؟.

1ـ كيمياء الواصلة الوقائعية في متعالية الهامش المقارب:

أن طبيعة أحداث رواية (أغنية هادئة ) تعد مثالا نادرا على نوعية الأدب الروائي المسكون ببنيات (وظائف الحوافز ـ السكونية الدينامية ) وهذه الواصلاتان بدورهما ما جعل فسحة الأوصاف الروائية في فصل (روزغرينبرغ) تتبدى لنا استطرادا مجملا على النحو الذي يوفر إلى الأداة الواصلية في محدثات الأفعال سببا في انطلاقة متباينة ومختلفة في حساسية التلقي كعادته في باقي مزمعات النص السابقة.لقد رأينا وسمعنا عن ما قالته تلك العجوز من حوارية مونولوجية خاصة بمتعلقات باعثة بذات الخرف نحو صالة محاكمة وشخصية محامية مزعجة لجوجة في اسئلتها وعلى نحو ما هناك صرخة تراودها في الحلم أو اليقظة أو في التخمين الشعوري للذاكرة التي بلا أدلة وثوقية حازمة: (ستصف السيدة غرينبرغ هذه المسافة القصيرة التي قطعتها في المصعد مئة مرة على الأقل ..  خمسة طوابق بعد انتظار قصير بالدور السفلي ..  مسافة قطعتها في أقل من دقيقتين، لكنها صارت أطول لحظة مؤلمة في حياتها./ص79 الرواية.) الصعوبة هنا تكمن في بواعث دلالة (ستصف السيدة غرينبرغ هذه المسافة القصيرة التي قطعتها؟) لنبحث قليلا عن مدى السعة الزمنية والمكانية في غرفة المصعد وما حجم المتغيرات في صعود المصعد من قبل العجوز، ما دامت قد صعدته (مئة مرة على الأقل؟) وهذا الأمر ما يلخص لنا المظاهر والدوافع التي تحدد من خلالها زمنية إقامة العجوز في هذا المبنى؟إلا أن هناك تركيزا لاحقا في مجال مونولوجية صوت هذه العجوز وهي تلوح إلى نقطة حرجة على حد ما، تتلخص في هذه الوحدة (مسافة قطعتها في أقل من دقيقتين، لكنها صارت أطول لحظة مؤلمة في حياتها؟) من هنا يمكننا تقصي أدلة الأسباب والعلل التي جعلت من هذه العجوز تطفح بهذا النوع من الاحساس والمعاينة الآلية في أرتقاء المصعد بذلك الزمن المقرر تحديدا، ما قد يستوجب شعورها بالألم طول حياتها.ان ظهور هذه العجوز من المخفيات على شاشة القراءة النصية تماما، بل ظهورها بات من البنى الصغرى في كيفيات الدلالات الروائية.. ولكننا من خلال ظهورها المباغت هذا نهجس حجم الانتقائية الواصلية بالمدلول الحجبي.

2ـ منظور التحاكي وتمثيلات المواقع اللافتة:

تبعا لمستوى تساؤلاتنا السابقة عن هوية الشخصية روزغرينبرغ وصيغها المونولوجية في المنتج الخطابي الجزئي، هل بالإمكان لنا عدها نوعا ما من الشخصيات المتماثلة سرديا في لعبة التمويه أو قد يكون هو الاستباق في سياق (منظور تحاكي) أو لربما هو فعل حدوثها في بيوغرافيا وحدوية مغيبة عن حقيقة الواقعة المنظور إليها ارتباطا في المحورالكلي من فواعل الوظائف الشخوصية.أي بمعنى ما نود الاشارة إلى  الشخصية العجوز التي حلت في اشتغالية متماثلة سرديا كما يبدو لنا، أساسا على حمولة شاهدية أخذت تمارس عليها طبيعة مرحلتها العمرية المتقدمة وما تشتمل عليه أحوالها ، كونها عجوزا متفرغة إلى مراقبة الأشياء بدقة وعناية: (ستحكي كل شيء للصحافيين الذين تابعوا المحاكمة.. وستتحدث عن هذا الأمر لمحامية المتهمة التي بدت لها متعالية ولا مبالية .. وستكرر الكلام نفسه أثناء المحاكمة، لما نودي عليها للأدلاء بشهادتها./ ص79 الرواية).

3ـ المربية لويز بين غرائبية المزاج وتقلباتها النفسية:

أن آليات الكتابة في رواية (أغنية هادئة) ذات بنائية دلالية مطردة في مقنناتها القصدية والايصالية.فالكاتبة سليماني جعلت من مراحل كتابتها لأحداثها الروائية ، أجزاء متحللة بذلك الطابع المكين من وحدات الحبكة ذات الأشطر المتوارية.أي أن قراءتها بذاتها كعملا روائيا، تجدها ذا مواصفات سردية مخصوصة بأسقاط أدق الحالات الشخوصية ذات البنيات الصغرى المتضمنة في نسبية وهامشية محاورها الشخوصية ومستوى انبعاثات سردها الاخباري.ولكننا نعلم بأن وراء كل جملة ووحدة ومشهد ثمة أواصر دلالية تقودنا إلى ما لا يكن في توقعاتنا اطلاقا.ما نعلم به جيدا أن العجوز غرينبرغ ممن كان ينظر إلى تلك المربية بعين الأمن والسلام الدائم في فحوى محمولها الانساني الرفيع.فهي لا تنفك من النظر إلى لويز بكونها تلك الحاضنة الانموذج للمربية المثالية حقا: (وقفت متسمرة أمام الباب الزجاجي بينما جلس آدم على درج وهو يصرخ، وميلا تقفز وتدفعه بقوة.. وقفت لويز جامدة في مكانها ، كل ما كان يتحرك فيها هي شفتها السفلى التي مضت ترتعش ارتعاشا خفيفا .كانت يداها مضمومتين، وعيناها مخفوضتين.. ولم يكن يبدو أنها تسمع ضجيج الطفلين./ص79 .ص80 الرواية) يمكننا رؤية هذا المتخيل المشهدي، بما يعبر لنا عن أحدى تفرجات السيدة العجوز إلى تلك المربية إعجابا وتقديرا، وهذا الأمر يمكننا عده من بداهة البداهات لو أن الأمر جاء خلوصا في تقديم هذه الممارسة حصرا.ولكن فلسفة البنيات الصغرى من الأجزاء السردية، تمنحنا شكلا مغايرا في خلجات نظر العجوز إلى تلك المربية وفي أحوالها الناشزة ربما.فهي عهدتها مربيتا تغطي ما خلفته ثغرات عدم تواجد أم الطفلين.وعلى هذا الحد نجد الطفلان في حالة نزاع مروعة، فيما المربية ساهية عنهما بشرودها الذهني والمزاجي، وهذا الأمر بحد ذاته ما يؤشر على وجود ثمة تأثيرات خاصة في اطوار المربية.وما بين القطبين (العجوز ـ المربية) تتدرج مسافات سردية تتجاوز آنية الفرجة أو الرؤية من الخارج لحدود قصدية التحول في القطب الآخر من حيوات المربية.ولم لا نقول أحتمالا بأن العجوز هي من أصابها التحول جدلا، بخاصة وهي المنعوته بالخرف والشيخوخة والفأرة العمياء أحيانا، ذلك عندما كانت تشتم المحامية أمام هيئة المحكمة، دفاعا ملحوظا عن الأم مريم: (وشك الاحتفال بعيد ميلادها الخامس والستين.. وأن بصرها ضعيف، فهي تعيش في الظلام مثل فأرة عمياء، والضوء الساطع يصيبها بالصداع.. هذا هو ما جعلها تغلق المصاريع للنوافذ، وهو السبب أيضا في أنها لم تسمع شيئا./ص81 الرواية) نفهم من هذا أن العجوز غرينبرغ سيدة يشغلها الفراغ دائما والركون إلى غرفتها المظلمة لوحدها.غير أن ما تطلعنا عليه أخبار الرواية بأن العجوز في أحدى المرات لم تستلطف ملامح لويز وهي تأبى الصعود إلى المصعد إلى الدور الأرضي عندما شاهدت لويز تمسك بآدم الطفل بعنف شادته إليها فيما كانت الطفلة ميلا تتبعها : (لويز أمسكت الباب مفتوحا للجارة التي وقفت بمحاذاة الجدار: أكانت تبدو سكرانة؟تنفي السيدة غرينبرغ ذلك على نحو قاطع.. كانت لويز تبدو عادية.. ما كانت لتتركها تصعد مع الطفلين لو أشتبهت في أنها.. /ص81 الرواية) الروائية سليماني تثير في وحدات سردها تلك الوظيفة الحاذقة من الشفرات، بيد أنها تقدم الاختلاف من أفق وجهة نظر العجوز مثلا، والدلالة الحقة تعاكس ظنون العجوز بأن لويز تتعاطى المخدر أو الخمر مثالا، وهي ترتقي مع الطفلين إلى موضع شقة الزوجان في فترة غيابهم في العمل.مع كل هذا وذاك تبقى العجوز محتفظة بذاتها وذاكرتها الواصلة بأصداء صوت المحاكمة ومدى قرفها لكلمات تلك المحامية وهي تعق الأم مريم بكونها (أم غائبة)وعن زوجها بكونه (مشغل متعسف) أو ان مريم أيضا (امرأة أعماها الطموح والأنانية).

4ـ الأشباح وكوابيس مرثية الصرخة:

على الرغم من ابتعادنا التحليلي النسبي عن قصدية المؤلفة في بنياتها الصغرى.غير إننا لا نملك خيارا بدورنا ما دام الأمر يتطلب منا نقديا التمويه في كل فرضيات الحلول والوقائع السريعة وغير المختبرة منا نقديا، وذلك ما يجعلنا نضع مهمة دراستنا إخفاء للنتائج وإطالة في محاور الأسباب تأويلا.. أردنا أن نقول بأن العجوز من خلال ذكرى أيامها الشبحية والفراغية، ما عادت تنظر إلى الأشياء إلا بمعيار الظن وسؤ النية أو التوهم غالبا.وما ذلك الانطباع الذي يخالها بأن تسمع ثمة صرخة مروعة .أو أنها سمعت بعد: (أن استيقظت من قيلولتها ذلك اليوم، فتحت مصراعي النافذة، وعندئذ سمعت ورأت أن معظم الناس يعيشون حياتهم كاملة من دون أن يقدر لهم سماع مثل ذلك الصراخ .. صراخ لا يسمع إلا في ميادين الحروب والخنادق، وفي عوالم وقارات أخرى بعيدة، لا صلة له بالصراخ المعهود هاهنا.. دام عشر دقائق على الأقل.. صدر دفعة واحدة، واستمر من دون تنفس ولا كلام إلى أن صار مبحوحا./ص82 الرواية) .

تعليق القراءة:

وإلى تدعيم صدقية أو وهمية ما ساور العجوز روز من منظورات غريبة.نقول جزما بأن ليلى سليماني أجادت كل الإجادة التكنيكية في الارجاء والتقديم والتأخير في بعض فصولها الروائية على بعض، وذلك من أجل تماسك اللعبة الاطارية السردية في الحكاية الاطارية الروائية لكتابة وقائع روائية بين تماثل أنساق المتن ومغايرة المبنى السردي الذي بات يمنحنا جملة تمايزات حضورية في بلبلة الرؤية الدلالية المحكومة بأفق البنيات الصغرى للنص الكامن بين الانشطار الزمني والمجرد في المظاهر السيكولوجية الشخوصية الساكنة والدينامية.

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم