قراءات نقدية

أوراق (الشاعر د. نزار بريك هنيدي) إلى الهاوية في غابة الصمت (3-4)

مفيد خنسةالصورة البيان:

سأتوقف عند تركيبين شعريين هما:

أولاً: قول الشاعر: (من أين تداهمني/ - وأنا داخل جدراني –/ صرخات الريحِ/ وأوجاعُ الأمواجِ/ وأناتُ الغابات/ وأصداء عويلِ الأرضِ المحمولةِ/ كالبالونِ/ على أبخرة الجوعْ؟) نلاحظ أن هذا التركيب يتضمن (صرخات الريح) وهي استعارة، وكذلك (أوجاع الأمواج) وهي استعارة، و(أنات الغابات) وهي استعارة أيضاً، و(عويل الأرض) استعارة، و(الأرض المحمولة كالبالون) تشبيه، و(أبخرة الجوع) استعارة، فيصبح التركيب (وأصداء عويلِ الأرضِ المحمولةِ/ كالبالونِ/ على أبخرة الجوعْ؟) صورة بيانية ثلاثية الأبعاد لأنها تتضمن ثلاث استعارات بآن واحد، والقصيدة الشعرية التي تتسم بمثل هذه الصورة تدعى قصيدة عميقة، لأنها تمتلك ثلاث درجات من الحرية، والتركيب (من أين تداهمني/ - وأنا داخل جدراني –/ صرخات الريحِ/ وأوجاعُ الأمواجِ/ وأناتُ الغابات/ وأصداء عويلِ الأرضِ المحمولةِ/ كالبالونِ/ على أبخرة الجوعْ؟) يمثل صورة بيانية حرة لأنها تتضمن أكثر من ثلاث استعارات معاً، وهذا يندر في الشعر العربي عموماً، والقصيدة الحديثة هي التي يمكن أن يتوفر فيها هذا النمط من الصور البيانية.

ثانياً: قول الشاعر: (باهتٌ حبرُكَ،/ والليلُ الذي تدفعه بالحبرِ/ ما زال طويلا./ قاتلٌ صمتُكَ،/ والصوت الذي تحبسهُ/ في صدرك المغلقِ/ ما زال يسميكَ القتيلا.) يتضمن: (والليلُ الذي تدفعه بالحبرِ) وهي استعارة، و(قاتل صمتك) استعارة، و(الصوت .... ما زال يسميك قتيلا) استعارة. فيصبح التركيب صورة شعرية ثلاثية الأبعاد لأنها تتضمن ثلاث استعارات في آن واحد.

تقاطع الأزمنة:

الأزمنة متداخلة في القصيدة الشعرية التي جاءت على شكل أوراق منفصلة في الشكل لكنها مترابطة في المضمون، وإذا عرفنا أن القصيدة مختارة من مجموعته الشعرية (غابة الصمت) التي صدرت الطبعة الأولى منها عن وزارة الثقافة السورية عام 1995، سنتأكد أن زمن كتابة القصيدة هو العقد الأخير من القرن الماضي، وعلى وجه التحديد فإن هذا الزمن يمثل زمن العزلة واليأس، وكأن الشاعر يستشرف المستقبل، ويرى أننا نسير نحو الهاوية، وقد صدق الشاعر فيما ذهب إليه، ولو أن الشاعر كان قد أغفل ذكر زمن كتابة القصيدة، لتيقن القارئ أن القصيدة مكتوبة خلال سنوات الحرب والمحنة الوطنية الكبرى التي مرت بها بلادنا، ويمكن توضيح أزمنة القصيدة على النحو التالي:

أولاً: زمن الغائب: والغائب فيما تشير القصيدة إليه يمثل (أنا) الشاعر كمفهوم تصوري، وأنا الشاعر العليا أحد مصاديقها، وهو الزمن الأعم في القصيدة، ففي الفرع الأول (أسرار) يتجلى بالفعل الماضي في الزمن الماضي لقوله: (هجرته، لفّ، كان) كما يتجلى بالفعل المضارع في الزمن الماضي، لقوله: (يداري، يحاول، يستبقي)، وفي الفرع الثاني (أوراق التوت)  يتجلى زمن الغائب بالفعل المضارع للغائب في الزمن الماضي لقوله: (ينزفُ، يردمُ، يبضع، ...... يغطي) في إشارة إلى أن الزمن الماضي ما زال مستمرّاً في الحاضر، وفي الفرع السادس (رائحة الأيام) يتجلى زمن الغائب بالفعل المضارع في الزمن الماضي لقوله: (عبرت، التفّت، تجاهلها، انكبّ)، كما يتجلى بالفعل المضارع في الزمن الماضي لقوله: (تسأله، تذكر، يباغتها، يحاول، يحيا).

ثانيا: زمن الحاضر المخاطب: والحاضر هنا هو (أنا) الشاعر كمفهوم، وأنا الشاعر هنيدي أحد مصاديقها، ويتجلى هذا الزمن في الفرع الرابع (الوصايا العشر) بالفعل المضارع في الزمن الماضي لقوله: (لا ترم، لا تبتهج، لا تأمن، لا تغتسل، لا تنتظر، لا تثق، لا تتفاءل، لا تسر، لا تصدق، لا تقرأ، يجرك، تقودك)، كما يتجلى هذا الزمن في الفرع السابع (وجه في الزحام) بالفعل المضارع في الزمن الماضي لقوله: (تتوالى، تتدافع، تسبحُ، تتحرك) كما يتجلى هذا الزمن بالفعل الماضي في الزمن الماضي، لقوله: (رأيت، أدمنت، تلاشت، أعلنت، استكانت، ضاع)، كما يتجلى هذا الزمن في الفرع الثامن (السرداب) بالفعل الماضي في الزمن الماضي لقوله: (ما زال، ما زالت، حان) كما يتجلى بالفعل المضارع في الزمن الماضي لقوله: (تدفعه، تحبسه، يسميك، يصفرّ، تدوّي، يمتدّ، تمضغ، تعيش، تخرج، تصحو، تمحو). ولا بد من ملاحظة أنه حين يعني الغائبُ الحاضرَ، أو حين يعني الحاضرُ الغائبَ، يتقاطع الزمنان ويصبحان زمناً واحداً في زمن القصيدة.

ثالثاً: زمن المتكلم: والمتكلم قد يكون الشاعر الذي يعيش التجربة، ويتجلى هذا الزمن في الفرع الثالث بالفعل المضارع في أي زمن لقوله: (تداهمني، - وأنا داخل جدراني) وقد يتقاطع زمن المتكلم مع زمن الغائب لقوله في الفرع الرابع: (قال لي:، حين أوقفني)، وقوله في الفرع السادس (تسأله:) وقوله في الفرع السابع: (هل ضاع)، وقد يتقاطع زمن المتكلم مع زمن المخاطب الحاضر لقوله في الفرع الرابع: (كي تقودك، تقودك) وقوله في الفرع السابع: (هل رأيت،) وقوله في الفرع الثامن: (يسميك، كي تخرجَ). وقد يكون المتكلم جماعة، وأكثر ما يتجلى ذلك في الفرع الخامس لقوله: (نحن، ما زلنا، دربنا، نمضي، نبحث).

رابعاً: زمن المكونات المعنوية: وهو زمن الأمل والحلم والغصة والجوع والحب واليأس والموت والألم و الوهم.

خامساً: زمن المكونات الحسية: وهو زمن الأشجار والطفولة والتابوت والعصفور والنهر والريح والأمواج والمقصلة و النوارس والغيمة و..... الخ

سادساً: زمن الموسيقا الشعرية: وهي أزمنة موسيقا تفعيلات البحور الشعرية ومجزوءاتها التي استخدمها مع جوازاتها، وأهمها:

(1) البحر المتدارك وتفعيلاته: (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن) وغالباً تستخدم تفعيلة فَعْلُنْ، ومجزوءه (فاعلن فاعلن فاعلن).

(2) البحر الرمل وتفعيلاته: (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن) ومجزوءه (فاعلاتن فاعلاتن).

ونلاحظ أن الشاعر يعتمد تفعيلات المتدارك (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن) أو تفعيلات الرمل (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن)، بحيث تتكرر التفعيلات بانسجام، فأزمنة موسيقا الفرع الأول (أسرار) مستمدة من أزمنة تفعيلات البحر المتدارك وجوازاتها، ومن حيث التطبيق يكون الإيقاع كما يلي: (فَعِلُنْ، فَعْلُن، فَعْلُن، فَعْلُن، فَعْلُن ....) وهكذا تتكرر في كل شطر تفعيلة (فاعِلُنْ) وجوازاتها (فَعْلُنْ) و (فَعِلُن)، فيطول الشطر ويقصر بحسب عدد هذه التكرارات، كما أن أزمنة موسيقا الفرع الثاني والثالث والرابع مستمدة من أزمنة تفعيلات البحر المتدارك وجوازاتها أيضاً، أما أزمنة موسيقا الفرع الخامس (درب جديد) فمستمدة من أزمنة تفعيلات البحر الرمل وجوازاتها، ومن حيث التطبيق يكون الإيقاع كما يلي: (فاعِلاتُنْ، فاعِلاتُنْ، فَعِلاتُنْ فاعِلاتُنْ، فاعِلاتُنْ ...)، وأزمنة موسيقا الفرع السادس (رائحة الأيام) والفرع الثامن (السرداب) مستمدة من أزمنة تفعيلات البحر الرمل وجوازاتها أيضاً، أما أزمنة موسيقا الفرع السابع (وجه في الزحام) فمستمدة من أزمنة تفعيلات البحر المتدارك وجوازاتها. والتطبيق واضح ولا ضرورة لتكراره.

سابعاً: الزمن الغائب: وهو الزمن الذي يختزن فيه الشاعر مكونات القصيدة، ويمتد حتى بدء الشاعر بإزالة السواد عن بياض الورق.

ثامناً: زمن اللغة: ويمثل أزمنة الأفعال التي تضمنتها القصيدة.

ويمكن القول باختصار شديد، إن زمن القصيدة هو تقاطع أزمنتها الحسية والمعنوية.

المنطق الجمالي وأدوات الربط:

في المقدمة النظرية لمنهج النقد الاحتمالي توضيح لأحد أهم مرتكزاته الأساسية وهو المنطق الجمالي، وفيه أقدم محاولة جادة للربط بين ثلاثة علوم خلال دراسة القصيدة الشعرية وهي:

(1) علم الرياضيات، مستفيداً من نظرية الاحتمالات لتوضيح التعدد الدلالي وإمكانيات المعاني الاحتمالية، ومستفيداً من نظرية المجموعات، في دراسة العلاقات بين الجمل الشعرية باعتبارها قضايا، وأهمية علاقات الربط فيما بينها.

(2) علم المنطق وخاصة المنطق الرياضي جبر بول الذي يساعد على إيجاد قيمة الحقيقة للقضية المركبة من قضايا بسيطة، إذ يمكن اعتبار كل جملة خبرية قضية بسيطة. وفي تقديري أن نظرية المجموعات تساعد كثيراً في الترميز والتعبير عن القضايا المركبة بسهولة أكبر ودقة أكثر مما هي عليه في علم المنطق.

(3) علم اللغة، وهو العلم الذي يبحث في جوهر مدلولات المفردات وهيئاتها الجزئية التي وضعت من أجلها، وما يتفرع عنه من أقسام، وما يحتوي من مجالات. ووجدت أن أضع هذه المقدمة هنا وإن كانت قد وردت في المقدمة النظرية للمنهج.

تمهيد نظري:

من المعلوم أن الأسلوب الخبري هو ما يحتمل الصدق أو الكذب (ما عدا القرآن الكريم والحديث والحقائق العلمية)، أما الأسلوب الإنشائي فهو الأسلوب الذي لا يحتمل الصدق أو الكذب، وهو نوعان: الإنشاء الطلبي وهو (الاستفهام والأمر والتمني والنداء والنهي)، والإنشاء غير الطلبي وهو (المدح والذم والرجاء والتعجب والقسم). ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أنه قد يأتي الأسلوب الإنشائي بالمعنى الخبري، والمهم هنا أنه يمكن لنا أن نتعامل مع الأسلوب الخبري في الجملة على أنه قضية رياضية باحتمالها صفة الصدق أو الكذب، أي هناك نتيجتان لا ثالث لهما، وهاتان النتيجتان متعاكستان أو متتامتان، أي إن لم تكن القضية صادقة فهي كاذبة والعكس بالعكس ، وقد وصفت كل تجربة احتمالية فضاؤها الاحتمالي لا يحتوي إلا على نتيجتين فقط، حدوث أو وقوع الحدث الذي نهتم به خلال التجربة الاحتمالية أو عدم وقوعه، بالاختبار البرنولي نسبة إلى عالم الرياضيات والفيزياء دانييل برنولي وهو سويسري من أصل هولندي، أما حين تتكرر التجربة الاحتمالية عدداً من المرات فإنه يطلق على التجربة الاحتمالية بالتجربة البرنولية، ولا نضيف جديداً إذا قلنا إن هناك علاقة وثيقة بين جبر المجموعات وبين جبر الأحداث، فالعمليات على المجموعات من (تقاطع واجتماع وفرق وإتمامٍ) تقابلها أحداث مركبة ناتجة عن تلك العمليات من وجهة نظر أنها أحداث (أي مجموعات جزئية في فضاء العينة)، وهنا نكون قد وصلنا إلى الهدف المنشود وهو الجذر اللغوي الذي نعبر من خلاله عن القضية أو (الحدث). ولا بد من تقديم مثال حيّ لتوضيح الربط بين اللغة من جهة كأداة تعبير وبين المجموعات بمفهومها العام والشامل وبين الأحداث، وما علاقة ذلك بالأسلوب الخبري على وجه الخصوص، فلو قلنا: (جاء أحمد) هذا أسلوب خبري ويمكن اعتبار هذه الجملة (حدثاً) في فضاءٍ احتمالي، ويمكن اعتبارها قضية، ويمكن تمثيلها بمجموعة جزئية في مجموعة شاملة نسبيّاً، ثم لو قلنا: (جاء سعيد) فما ذكرناه عن (جاء أحمد)، ينطبق على (جاء سعيد)، من حيث أنه مجموعة وحدث وقضية، ولا بد من أن نتساءل: ما علاقة هذا كله بالمنطق وأدوات الربط؟ لنقول: العلاقة يفرضها المنطق في التفكير بوظيفة اللغة وإمكاناتها اللامتناهية في إحداث المعاني البسيطة والمركبة، بحيث يشكل الأسلوب الخبري في بنية القصيدة الشعرية البعد المعرفي العقلي أما الأسلوب الإنشائي يشكل المتممات الفنية والجمالية في القصيدة ومن أجل توضيح ذلك لا بد من التقدم خطوة إلى الهدف الذي نصبو إليه، فإذا عدنا إلى المثالين السابقين، (جاء أحمد) ، (جاء سعيد) وأردنا أن ننشئ علاقة بينهما ورمزنا ل(جاء أحمد) ب (ق) و رمزنا ل(جاء سعيد) ب(ك) فيمكن أن ننشئ علاقة بينها باستخدام أدوات الربط (تقاطع، اجتماع، فرق ، إتمام) ويصبح معنى (ق) تقاطع (ك) من وجهة نظر المجموعات على افتراض (نظريّاً)  أنّ (ق) و(ك) مجموعتان: هو مجموعة العناصر المشتركة بينهما، أما من وجهة نظر الأحداث على افتراض أن (ق) و(ك) حدثان يكون معنى (ق) تقاطع (ك) أي وقع أو (حدث) (ق) و حدث (ك) ونعبر عن التقاطع لغة: (جاء أحمد) و (جاء سعيد) وهنا تبرز أهمية أداة الربط (وَ) بين الجملتين لإنشاء معنىً مركباً، ويمكن التعبير عن ذلك اختصاراً(جاءا معاً) وفي هذا السياق نذكر جبر بول، البنية الرياضية المتعلقة بالقضايا الرياضيّة والعلاقات فيما بينها، حيث يعطي قيمة الحقيقة للقضية الصادقة الرقم(1) أما القضية الخاطئة فقيمة الحقيقة لها هي (0)، والعددان (0) و(ا) هما الأساس في البرمجة الخطية، أي الحصول على نتيجتين لا ثالث لها في المخارج النهائية للنتائج، وهذا يحصل في الدارات الإلكترونية عموماً، إما أن يمر التيار الكهربائي في الدارة أو أنه لا يمر، أي هناك نتيجتان اثنتان وهما متضادتان أو متعاكستان أو متتامتان، وهذا يتوافق مع جبر بول في القضايا، كما يتوافق مع برنولي في الاحتمال، وإذا كان جبر بول يهتم بصدق القضايا أو خطئها، أي إيجاد قيمة الحقيقة للقضية، فإنه يتوافق مع الاختبارات التي يتكون فضاؤها الاحتمالي من نتيجتين اثنتين هما حدوث النتيجة التي نهتم بها أو عدم الحدوث ، ومن هنا يمكن أن نتعامل مع هذا الحدث ومتممه من وجهة نظر احتمالية صرفة، ومن ثم يكون تكرار الاختبار عددا من المرات يشكل تجربة برنولية، وهذا التقديم عام من دون شك، ولكن أهدف من هذه المقدمة العامة إلى الربط بين جبر المجموعات وجبر القضايا وعلاقتها بالتراكيب اللغوية والعلاقات التي يمكن أن تنشأ بينها من وجهة نظر علم المنطق، وإذا لا حظنا أن علم المنطق يبحث عموماً بالمعلومات التصورية والمعلومات التصديقيّة، والمعلومات التصورية مبادئها تتمثل بالكليات الخمس، وهي النوع والجنس والفصل والعرضي الخاص والعام، ومقاصدها القول الشارح أو التعريف، والمعلومات التصديقية مبادئها، القضايا ومقاصدها القياس، وقد ميّز علم المنطق بين نوعين من القضايا، القضية الحملية والقضية الشرطية ، والقضية الحملية تنقسم من حيث الموضوع إلى (قضية حملية شخصية، قضية حملية طبيعية ، قضية حملية مهملة وقضية حملية مسورة أو محصورة، وسورها (كلي = كل أو جزئي = بعض)، أما أنواعها فهي الذهنية والخارجية والحقيقية، ولولا من خشية الإسهاب كنت فصلت في الأمر وأوردت الأمثلة اللازمة لكل حالة، لكن ما يهمنا هنا هو توضيح الكيفية التي يمكن لنا أن نستخدم خلالها المنطق في فهم النص الشعري وفق النقد الاحتمالي، وهنا يبرز مبدأٌ هامٌّ في المنطق وهو (إن القضية الموجبة لا تصدق إلا بوجود الموضوع) كقولنا: (زيدٌ قائمٌ) وهي قضية حملية حقيقية موجبة، فزيد هو الموضوع وقائم هو المحمول، أما قولنا: (زيدٌ ليس قائماً) هي قضية حملية حقيقية سالبة، لكن (القضية السالبة تصدق ولو بانتفاء الموضوع) كقولنا: (أبو عيسى بن مريم لا يأكل الطعام) فهي قضية صادقة مع انتفاء الموضوع وهو أبو عيسى بن مريم، والقضية الشرطية تنقسم إلى:  (قضية شرطية متصلة) و (قضية شرطية منفصلة) ، والقضية المنفصلة تنقسم إلى: (مانعة جمع وخلو) و(مانعة جمع فقط) و(مانعة خلو) وإذا كان علم المنطق يهدف من تقسيم القضايا (للاستدلال) وإقامة الدليل بشكل مباشر عن طريق (القياس أو الاستقراء ، أو التمثيل) أو إقامة الدليل بشكل غير مباشر عن طريق (التناقض أو العكس المستوي أو عكس النقيض)، فإننا هنا نحاول أن نستفيد من هذا التقسيم من أجل الربط بين المنطق كعلم أو كآلة قانونية في التفكير لإنشاء حكم منطقي وبين العلم الرياضي الاحتمالي وبين البنية اللغوية للقصيدة الشعرية، ولكي تكتمل الصورة لا بد من النظر إلى المعنى من وجهة نظر علم المنطق، فالمعنى ينقسم إلى (كلي وجزئي)، أما المعنى الكلي وفق علم المنطق فهو: (ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه)، كقولنا: إنسان، أما المعنى الجزئي فهو: (ما يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه) كقولنا: زيد، والمعنى الكلي ينقسم إلى: (معنى متواطئ) أي متوافق، كقولنا: إنسان و(معنى مشكّك) أي متفاوت، كقولنا: البياض، والمعنى الجزئي ينقسم إلى: (معنى حقيقي ومعنى إضافي)، والمعاني الكلية تندرج تحت التصورات وليس تحت التصديقات، لأنها مفاهيم ذهنية، وهنا نورد النسب الأربع بين الكليات بشيء من التفصيل نظراً لأهميتها بالربط فيما تقدم،

أولاً- التساوي: وهي علاقة بين معنيين كليين بحيث كل ما يصدق على أحدهما يصدق على الآخر. كقولنا: كل إنسان ناطق. (كل + كل).

وإذا أردنا أن نمثل هذه العلاقة بمخطط فِنْ، نستخدم دائرتين متطابقتين، ومن وجهة نظر المجموعات، التساوي بين مجموعتين يعبر عنه بالشكل: (كل عنصر من المجموعة الأولى هو عنصر في المجموعة الثانية) وَ (كل عنصر من المجموعة الثانية هو عنصرٌ في المجموعة الأولى)، ويمكن التعبير لغة:  (الأولى محتواة في الثانية) وَ (الثانية محتواة في الأولى) ونلاحظ هنا أهمية أداة الربط (وَ) لأنها تفيد التقاطع بينهما، فقولنا: (الأولى محتواة في الثانية)، يشكل جملة حملية حقيقية موجبة، لأنه يتضمن: مفردة (الأولى)، تمثل (الموضوع) و (محتواة) تمثل (المحمول)، أما في علم الدلالة فنستخدم (دالاًّ) و(مدلولاً) بدلاً عن (موضوع) و(محمول)، وقولنا: (الثانية محتواة في الأولى)، هو جملة حملية حقيقية موجبة ويمكن إجراء التطبيق السابق نفسه، ونلاحظ أن الموضوع في الجملة (الأولى محتواة في الثانية)، غيره الموضوع في الثانية (الثانية محتواة في الأولى)، لكن المحمول نفسه وهو (محتواة) الذي يعبر عن مضمون العلاقة بينهما.

ثانياً - العموم والخصوص المطلق:

وهي علاقة بين معنيين كليين بحيث كل ما يصدق على أحدهما يصدق على الثاني وبعض ما يصدق على الثاني يصدق على الأول كقولنا: كل إنسان حيوان، وهنا نجد أن كلّاً من (الإنسان) و(الحيوان) مفهوم كلّي، وأن قولنا: (كل إنسان حيوان) هي قضية حملية كلية مسورة موجبه، الموضوع فيها: (كل إنسان)، أما المحمول فهو: (حيوان)، وإذا قلنا: (بعض الحيوان إنسان) هي جملة حملية محصورة جزئية موجبة، فالعلاقة بين المفهومين، (إنسان و حيوان) هي علاقة عموم وخصوص مطلق، (كل + بعض) وإذا أردنا أن نمثل هذه العلاقة بمخطط فِنْ نستخدم دائرة تمثل (الجزء) وهو (الإنسان)، داخل دائرة أكبر تمثل الكل وهو(الحيوان)، وهكذا ستكون العلاقة بين (الجزئي) و(الكلي)،هي علاقة احتواء، (طبعا هنا نستخدم ذلك مجازاً انطلاقاً من اعتبار أن كلّاً من المفهومين يمثل مجموعة !) لأن الكلي والجزئي بمعنى المفاهيم لا يمكن أن يكونا مجموعتين، لأن عناصر المجموعة هي مصاديق، وهي خارجية وليست ذهنية، ولكن هذا الاستخدام المجازي يفيد في التعبير عن العلاقة بين المفهومين، (إنسان و حيوان)، ومن وجهة نظر الأحداث، أي على اعتبار (إنسان) حدث، و(حيوان) حدث، فإن حدوث (إنسان) يقتضي حدوث (حيوان)، لأن المجموعة الشاملة نسبيّاً يمكن أن تكون هنا هي مجموعة (حيوان) أو الحدث الأكيد هو (حيوان)، لكن حدوث (حيوان) لا يقتضي حدوث (إنسان) وهنا تبرز الأهمية البالغة لأداة الربط، (يقتضي) حيث يتطابق مبدأ علم المنطق مع المنطق الرياضي في جبر المنطق وهو (نفي حيوان) يقتضي (نفي إنسان)، وهنا تجدر الإشارة إلى مفهومي مكمم الشمول ومكمم الوجود ويعبر عن مكمم الشمول ب(جميع) أو (كل) ويعبر عن مكمم الوجود ب(يوجد على الأقل) وبالتالي فإن نفي القضية: (كل طالب ناجح) هو (يوجد على الأقل طالب ليس ناجحاً) ولكن في علم المنطق يكون نفي هذه القضية أو (رفعها) هو (ليس كل طالب ناجحاً) وما من شك أن النفي بمكمم الوجود هو أدق من وجهة النظر العلمية. ناهيك عن أن نفي الجملة بالقول: (كل طالب ليس بناجح)، وسبب عدم قابلية تطبيق مكمم الوجود ونفيه في المثال (كل إنسان حيون)، هو أن العلاقة بين الإنسان والحيوان هي علاقة احتواء حقيقي.

ثالثاً - العموم والخصوص الوجهي:

وهي علاقة بين مفهومين كليين، بحيث يصدق كل من المعنيين مع بعض مصاديق الآخر، ويختلف كل منهما عن الآخر بمصاديق أخرى، كقولنا: (بعض الطائر أبيض) وهي جملة حملية محصورة (مسورة) جزئية موجبة، فكل من (طائر) و(أبيض) مفهوم، والموضوع في هذه القضية هو(بعض الطائر) أما المحمول فهو (أبيض)، وكذلك قولنا: (بعض الأبيض طائر)، هي جملة حملية محصورة جزئية موجبة موضوعها، (بعض الأبيض) و محمولها، (طائر)، فكل من المفهومين  يتفقان في بعض المصاديق وكل منهما يختلف عن الآخر بمصاديق أخرى، وإذا أردنا أن نمثل هذه العلاقة بمخطط فِنْ نستخدم دائرتين متقاطعتين بحيث يضم التقاطع المشترك بينهما، وهو (كل طائر يتصف بالسواد)، أما المختلف في الدائرة الأولى التي تمثل (الطائر)، فهو (كل طائر غير أسود)، والمختلف في الدائرة الثانية التي تمثل (الأبيض)، هو (كل أبيض غير طائر)، وهذه العلاقة عموم وخصوص وجهي، أي المفهومان يتفقان من جهة، ويختلفان من جهة أخرى، ويمكن التعبير عن هذه العلاقة بين المفهومين باستخدام المجموعات إذا اعتبرنا (طائر) مجازاً مجموعة، واعتبرنا (أبيض) مجموعة أيضاً فالعلاقة بين المجموعتين هي اجتماع ونعبر عنها (طائر) اجتماع (أسود) وهي مجموعة تضم:

(1)  مجموعة التقاطع وهي العناصر المشتركة بينهما، أي [(طائر) وَ (أسود)]. وهنا أداة الربط (وَ) تشير إلى المشترك بين المفهومين. وبلغة الأحداث (حدث الأول) وَ (حدث الثاني)، ونعبر عن ذلك لغة: (حدثا معاً) .

(2) مجموعة (الطائر غير أسود) ويعبر عن ذلك بلغة المجموعات: مجموعة [ (طائر) فرق (أسود) ]. وهي مجموعة العناصر التي تنتمي إلى مجموعة (طائر) ولا تنتمي إلى مجموعة (أسود). والعلاقة بين المجموعتين هي (الفرق) . ونعبر بلغة الأحداث: حدث (طائر) ولم يحدث (أسود) ونعبر لغة: حدث (طائر) فقط.   (3) مجموعة (الأسود غير طائر) ويعبر عن ذلك بلغة المجموعات: مجموعة [ (أسود) فرق (طائر) ] وهي مجموعة العناصر التي تنتمي إلى مجموعة (أسود) ولا تنتمي إلى مجموعة (طائر) والعلاقة بين المجموعتين هي (الفرق). ونعبر بلغة الأحداث: حدث (أسود) ولم يحدث (طائر)، ونعبر لغةً: حدث (أسود) فقط.

ونلاحظ بسهولة من النسبة الثانية والثالثة، العموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص الوجهي أننا استخدمنا أداة الربط (وَ) التي تفيد (التقاطع) في المجموعات، كما تفيد: (وقوع الحدثين معاً) في فضاء الأحداث ونعبر عن ذلك لغة: (حدثا معاً)، أو (وقعا معاً)، ثم استخدمنا أداة الربط (أو) التي تفيد (الاجتماع) في المجموعات كما تفيد [(وقوع الحدث الأول) أو (وقوع الحدث الثاني)] في فضاء الأحداث، ونعبر عن ذلك لغة: (حدث أحدهما)، أي (حدث الأول) أو (حدث الثاني) أو (حدثا معاً).

***

مفيد خنسه

في المثقف اليوم