قراءات نقدية

عبد الله شبلي: الهايكو بين رحابة الرؤية الجمالية وضيق الايديولوجيا

مقدمة: يحكى إنه في احدى الليالي من 1694 بينما كان معلم الهايكو الأول الشاعر الياباني ماتسوو باشو يلفظ أنفاسه الأخيرة وحيدا في ظلمة الليل وحلكة العزلة، وقد شارفت روحه على الوداع الأخير، وفي تحد  كبير لهذا الموقف الذي يدفع أغلب الناس إلى الانكفاء والاستسلام، أخذ ورقة شجرة كانت قد سقطت للتو، وكأنها في تما ه واضح مع موته، فكتب عليها:

مريض وقت ترحالي

وأحلامي تتجول طافية

 في الحقول الذابلة

وإذا كانت هذه اللحظة القصيرة جدا، والفارقة أيضا في حياة الشاعر، هي بداية شعر الهايكو، فهي بتعبير آخر موت تحققت معه الحياة. ومن ثم نستطيع القول إن هذا الشعر رغم بدايته تحت هذه اليافطة اليابانية المحدودة استطاع أن يتجاوز الحدود المسيجة والمانعة للثقافة في بعدها الإنساني، ليدخل جغرافيات العالم المترامية دون جواز سفر مدموغ.

ولم يكن له في هذه الهجرة الشرعية، بحثا عن آفاق أرحب، إلا زاد واحد ؛ إنه زاد الجمال مخلوطاً بطبيعة آسرة وحب دافق للحرف في تعبيره البسيط عن العواطف الانسانية.

وطبعا لن تكون الجغرافية العربية استثناء من هذا، فقد عانق الهايكو، كما سابقيه، جماليات الشعر العربي، ذاك الذي عرف عنه فرادته واختصاصه بالمطولات والقوافي.

فإلى أي حد استطاع الهايكو أن يجد لنفسه موطئ قدم في أرض عربية تعج بالشعر والنثر وتفتخر بتاريخ مجيد في الاحتفاء بهما خطابة ومقالة وتقريضا ونقدا؟

وهل وجد الوافد الجديد احتضانا من أهل العربية في ظل تنكر النقاد ل" الهايكو " إلى الحد الذي اعتبره البعض " فنا قصصيا بكلمات أقل " ؟

أولا - التعريف بالهايكو:

الهايكو بين "جينكجو" و"كيغو"

تعد قصائد الهايكو قصائد قصيرة تستخدم لغة حسية فتقدم للمتلقي نقلاً لإحساس الشاعر، أو صورة أثارت مخيلته فهيجتها ودفعته ليبدع تلقائيا.

وهناك من الباحثين من يعد الطبيعة أو المشاهدة الجمالية و التجربة المثيرة التي يعيشها الشاعر مصادر أساسية لإلهام شاعر الهايكو.

هذا النظام من كتابة الشعر ابتدعه مجموعة من شعراء اليابان، وتم تبني هذه الطريقة في الكتابة بكل لغات العالم إلى أن وصل إلى العربية. و تستخدم هذه القصائد في أصلها لنقل لحظة عابرة أو صورة مثيرة من الطبيعة: صورة ضفدع يقفز في بركة مائية، حبات برد تتساقط على أرضية، أو قطرات مطر تعانق وردة جميلة، ولعل هذا سر تفرد هذا النوع الشعري دون غيره.

لذلك ارتبط هؤلاء الشعراء بالطبيعة ارتباطا كبيراً، فكانوا يداومون على التجول فيها بحثاً عن الإلهام الشعري. وكانت هذه الجولات الاعتيادية عندهم تعرف باسم " جينكجو ".

وفي هذا يبدو التقاطع واضحا مع المذهب الرومانسي في الشعر والأدب الذي شغف أهله

بالطبيعة حيث عدها المبدعون منبعا سخيا لتحريك دواليب الابداع واشعال نار البوح الخامدة، بل بالغ بعضهم بأن ردها حلا للمصائب والمشاكل، وهو ما عابه عليهم البعض، وكأن في ذلك هروب من المجتمع المتحضر وتبعاته، ومعانقة البدائية في تجليها الواضح ارتباطاً بالطبيعة.

أحد شروط الهايكو الكلاسيكي هو أن يضم " كيغو " باليابانية أي كلمة تدل على موسم من المواسم المعروفة أو تحيل عليه. ويقوم شاعر الهايكو أو الهايكيست، عن طريق ألفاظ بسيطة بعيدة عن التأنق

، بوصف الحدث أو المنظر بعفوية مطلقة، ودون تدبر أو تفكير تماما كما يفعل الطفل الصغير.

ألم يقل الشاعر سامح درويش ذات يوم عن كتابة الهايكو " الهايكو أن تكتب كطفل لكن بخبرة شيخ "

يقول الشاعر جمال مصطفى:

الهلال الذي

يتلامع في غابة الخيزران

مجرد منجل

تنطلق الألفاظ بطريقة عفوية وفورية، فتعطي صورة تكون محسوسة. وفيه أيضا يأخذ الشاعر

المتمرس الأحاسيس والمشاعر والانطباعات المتدفقة داخله في حينها وفورها اللحظي، ليعرف كيف يصبها في قالب شعري هايكوي.

يقول بوسون وهو واحد من أعمدة الهايكو:

أصبع البناّء

المجروح

وزهور الأزاليا الحمراء 

يقول الشاعر سالم إلياس:

فراشة بيضاء

تئن

لهب شمعة

ثانيا: الهايكو العربي بين المحافظة والتجديد

الهايكو العربي عموما لم يلتزم بضوابط شكل قصيدة الهايكو اليابانية، بل أحياناً خرج أيضاً عن إطار التصوير الشعري الخالص،إلى الطرح الايديولوجي الذي يتنافى مع قواعد الهايكو الأصلية.

وهناك من يعد المؤسس الأصلي لقصيدة الهايكو العربي المعروفة كذلك باسم (التوقيعة الشعرية) الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة عام 1964 في قصيدته المعروفة باسم هايكو تانكا.

يقول فيها المناصرة

(هايكو):

… يا باب ديرنا السميك

الهاربون خلف صخرك السميك افتح لنا نافذة في الروح.

(تانكا):

أجاب شيخ يحمل الفانوس في يديه  يوزّع الشمعات

على نثار دمنا المسفوك وحين سلمّنا عليه

بكى... واصفرَّ لونه… ومات.

" إن الهايكو لحظة جمالية لا زمنية في قصيدة مصغرة موجزة ومكثفة تحفز المخيلة على البحث عن دلالاتها، وتعبر عن المألوف بشكل غير مألوف عبر التقاط مشهد حسي طبيعي او إنساني ينطلق عن حدس ورؤيا مفتوحة تتسع لمخاطبة الإنسان في كل مكان، من خلال ومضة تأملية صوفية هاربة من عالم مادي ثقيل محدود ضاق بأهله حتى تركهم باقتتال ومعاناة، بسبب هيمنة حضارة مادية استغلت الإنسان وداست على كرامة روحه وحرمته الأمن والسلام. مما جذب انتباه الشباب الواعي ولفت المبدعين إلى أهمية البحث عن السلام الداخلي المفقود، من خلال الاقتراب من الروح وجوس عوالمها عن توحش العصر وتغوّل احتكاراته وجشعه.بحثا عن صفاء فضاءاتها وسمو هدوئها وتجلياتها بعيدا عن اللامتناهي في التعامل مع رغبات النفس وشهوات الجسد وظلم القوي على الضعفاء" ¹

وتؤكد الدكتورة بشرى البستاني على أن الأهداف الجمالية الصرفة وحدها تحرك كتابة الهايكو، وأنه بعيد عن الايديولوجيا بمعناها الضيق. وهذا ما لا يحترمه العديد من كتاب الهايكو المعاصرين، ذلك أنه، وكما تقول فإنه أمام رحابة الجمال وشساعته، تندحر الايديولوجيا بضيقها ومحدوديتها. " ولما كان للفنون أهداف ومقاصد إنسانية تؤشّر توجهاتها، فإن أهداف الهايكو كانت جمالية رؤيوية، وليست أيديولوجية ضيقة، وأمام الجمال تندحر الأيديولوجيا وتنهار حدودها والقيود، ولهذا كانت حركته حرة في اتجاهات عدة ولعل في اختلافه عن شروط الشعرية المتعارف عليها عربيا وغربيا ما يفسر بعض ذلك أولا، وثانيا يكاد يجمع نقاد الهايكو – وأشك في ذلك – أنه يتسم بسهولة اشتراطاته البنيوية التي تتلخص في كون شروط كتابته لا تتسم بالعسر والتعقيد، بل تتكون بنيته من جملة شعرية تتوزع على ثلاثة أسطر ذات تشكيل موجز باقتصاده اللغوي وتحرره من ملحقات التزيين، لكنها ذات طاقة مكثفة قادرة على إطلاق دلالات عدة يتيحها تعدد القراءات وتباينها، وقد تقوم لغته على المقابلة والتوازي والمفارقات لدى مقاربتها نقديا، وعلى اكتنازها لحظة جمالية يشتبك فيها الساكن بالمتحرك وهما يلامسان فاعلية المادة وحيويتها من خلال ملامسة الوعي الإنساني لها، وقدرتها على البث الدلالي حال تشكيل العلامة، فالعلامة تتكون من عنصرين، مادي مقروء أو منطوق مسموع، ومكون ذهني يعمل بتنبيه من الدال على تشكيل العلامة"².

ومن جهة نظر سامح درويش، الذي يعد واحدا من أبرز الهايكيست العرب، وله ديوان هايكو أصدره سنة 2015 تحت عنوان " خنافس مضيئة "، فإن أهم خصوصيات الهايكو العربي تتمثل في وجود نفحة غنائية وجرعة من المجاز وحضور ذات الشاعر بشكل أقوى من باقي تجارب الهايكوعبر العالم، يضاف إلى ذلك الخروج على التوزيع الايقاعي المعروف في اليابان (5-7-5) نظراً لخصوصية اللغة العربية.

وفي حديثه عن الخصائص، يؤكد سامح درويش على البساطة والآنية لأنه لابد من الإبقاء على روح الهايكو ممثلة في ركيزتيه اليابانيتين، فيتحقق التجلي المرهف لذات الهايكست، وتخليه عن زخارف البديع، دون اهمال روح البلاغة المتجددة، أيضاً بما يحافظ على هوية الهايكو التعبيرية، ويبقيها معزولة عن أشكال شعرية متماثلة لكنها مختلفة، مثل الومضة والشذرة الشعريتان، بل حتى القصة القصيرة جداً التي يمكن أن تعطي انطباعاً أحياناً بأنها هايكو. لكن شتان بين هذه وذاك، فللهايكو مقوماته الفنية والجمالية التي تختلف كثيراً عن مقومات وجمالية القصة القصيرة.

وينوه الشاعر إلى أمر مهم وهو أن ثمة الكثير مما يكتب في مشهدنا الشعري العربي اليوم تحت مسمى الهايكو، لذا لابد من التمييز بين فئات ثلاث:

الأولى: تتمثل في أولئك الذين يحاولون كتابة الهايكو وفقا لقواعده واشتراطاته الجمالية المتعارف عليها، بل ويتوقون إلى التجريب داخل هذه القواعد والاشتراطات، وهم من يستطيعون مضاهاة شعراء الهايكو الحقيقين في الشعريات الأخرى، وهم أيضاً إما أتوا إلى الهايكو من تجربة وخبرة شعرية سابقة، أو جاءوا إليه من تجارب شعرية أخرى.

الفئة الثانية: هم من يعتقدون أن الهايكو هو تلك الأسطر الثلاثة، ومن بينهم شعراء لهم أسماؤهم، فتبتعد قصائدهم عن الهايكو، لتنتمي إلى أشكال شعرية قريبة من الهايكو من حيث التكثيف، مثل الشذرة والومضة والحكمة وغيرها من الأنواع الأدبية القصيرة.

ويسهم هؤلاء في خلط أوراق هذا النوع الشعري ويشكلون ذريعة لمن يرفضون وجود الهايكو ضمن رقعة الشعرية العربية.

أما الفئة الثالثة فهي تلك المحاولات التي تقوم بها فئات عريضة من الشباب على سبيل اكتشاف هذا اللون الشعري والاقتراب من عوامله وتقنياته. هنا يرى درويش أنه " في اقبال هذه الفئة على تجربة كتابة الهايكو أمراً إيجابيا، على اعتبار أن اللغة هي في النهاية ملك عام يتاح به التعبير للجميع، وأن كتابة وتذوق الهايكو قد يشكلان مدخلاً للاقتراب من الشعر عموماً " وبالتالي فإن ذلك يسهم في استعادة الشعر العربي جمهوره، بحال أو أخرى.

ومن شعراء الهايكيست في الجزائر أيضا نذكر الشاعر عاشور فني صاحب " ما بين غيابين نلتقي " و مجوعة " أعراس الماء " التي صدرت بلغتين: العربية والفرنسية سنة 2003. وتعتبر تجربته رائدة في هذا المجال.

يقول عنها للجزيرة نت: " كان ذلك هاجسي في كتابة القصيدة بعيداً عن الاطناب والوصف الخارجي، معتقدا أن هناك رسما سابقا للكتابة يتعين ازاحة الغبار عنه بالكلمات، على عكس ما هو شائع أن الكتابة رسم بالكلمات. لقد ساعدتني أسفاري عبر اللغات وعبر العالم وقراءاتي المستمرة للتقاليد الشعرية في الثقافات المختلفة بالاطلاع على تجربة القصيدة - النفس، ذلك هو روح الشعر " ³

يتابع " في كتابة الهايكو تختفي تقاليد البلاغة التقليدية من استعارة وكناية وتشبيه، الٱن الرهان هو الجمال الحي المباشر للبلاغة لا صورتها العربية ".

يقول فني في أحد الأبيات:

"إنني أحفر الأفق شوقاً لزرقتها العاليه

وأصوّب أوردتي ضد هذا الزمان، وأنزف كالساقيه".

وفي تعليق على منحاه الشعري يقول عبدالرزاق بوكبة:

"القصيدة عند عاشور فني ليست رقصا باللغة وعليها لتوسل صورة تثير التصفيق، بل هي حالة وجودية عميقة يخلقها التأمل وتخلقه في الوقت نفسه " ⁴

***

عبد الله علي شبلي كاتب وناقد من المغرب

..................

هوامش ومراجع معتمدة

1. د. بشرى البستاني " الهايكو العربي بين البنية والرؤى مثبت في موقع مجلة رسائل الشعر.

Poetry letters. Com/mag.

2. المرجع السابق

3. حوار مع الشاعر سامح درويش لفائدة الجزيرة نت. تحت عنوان " الهايكو أن تكتب كطفل، لكن بخبرة عجوز " بتاريخ 2دجنبر 2018 - حاوره عبدالمجيد أمياي وجدة.

4.مقال تحت عنوان " الشاعر الجزائري عاشور فني والتحليق باللغة " عبدالرزاق بوكبة على موقع. الجزيرة نت مثبت بتاريخ 5 أبريل 2014.

في المثقف اليوم