قراءات نقدية

احمد عواد الخزاعي: التغريب في المجموعة القصصية (يوم عادي في بوينس اَيرس)

شكل التغريب سمة بارزة في مجموعة (يوم عادي في بوينس اَيرس) للقاص احمد خلف والصادرة 2022 فقد اختاره القاص ليشكل الإطار العام لنصوص مجموعته، التي تنوعت ثيماتها وأساليبها والتقنيات السردية المستخدمة فيها، حيث تشظى التغريب اصطلاحاً الى ثلاث محاور رئيسية شكلت المفهوم العام للتغريب سرداً:

1- التغريب بمفهومه الاجتماعي والثقافي: يقول عالم الاجتماع الفرنسي لوسيان غولدمان (ان البيئة الدلالية لأي نص ادبي مرتبطة بشكل وثيق مع بنى اكبر واوسع، تمثل نظرتنا الى ما حولنا كالبنى الذهنية والثقافية والسياسية والاجتماعية، التي تنتجها حقبة تاريخية معينة). تميزت معظم نصوص المجموعة كون احداثها وشخوصها تحركوا في بيئات واجواء وثقافات بعيدة عن البيئة التي كتب فيها النص، حيث احتوت المجموعة على كم كبير من اسماء الشخوص والاماكن الاجنبية ودارت احداثها في مدن واماكن بعيدة وغريبة عن بيئتنا وثقافتنا العربية الشرقية، وهذا نراه جليا بدءاً بعنوان المجموعة (يوم عادي في بوينس ايرس) وهنا توجد مقاربة لغوية مأخوذة من كتاب للشاعر الامريكي (ويليس بارنستون) عن ذكرياته مع الشاعر الارجنتيني (بورخيس) يحمل نفس العنوان (مساء عادي في بوينس ايرس) والذي ضم هذا الكتاب حوارات ثقافية وفلسفية وادبية وقصص وجزء من سيرته الذاتية.. وحملت احدى قصص المجموعة عنوان الكتاب، والتي دارت احداثها في مدينة بوينس ايرس في الارجنتين، احتوت هذا النص على اسماء ادباء ومغنين واماكن وفنادق كلها صبت في التغريب بمفهومه الاجتماعي والثقافي.. في قصة (حلم يقظة) تبدء بهذا النص الذي يشير الى هذا النهج السردي للكاتب والذي من خلاله فتح للقارئ نافذة كبيرة عن ثقافة الاَخر وخلق مقاربات ومقارنات فكرية واجتماعية بين بيئته الأم والبيئات البديلة التي هيمنت على نصوصه (حدث ذلك قبل ايام من عودتي من بلاد العم سام في زيارة خاصة تلبية لدعوة تلقيتها من سكرتارية عارضة الازياء خارقة الجمال تايلور هيل في نيويورك لحضور حفل تتويجها اجمل عارضة ازياء في العالم).

2- النهايات المفتوحة: تشكل النهايات المفتوحة اسلوب سردي مغاير لما نعرفه عن القصة القصيرة والقصص القصيرة جدا، ذات النهايات الخاطفة والصادمة.. هذا الاسلوب الجديد في صياغة الخواتيم يضعنا امام منهجية سردية مبتكرة، ربما تساهم في تغيير بعض القوالب السردية التي نعتقد انها (تابو) يصعب الاقتراب منه او محاولة تجديده او تغييره.. حيث اوجد احمد خلف قنوات تواصلية بينه وبين القارئ عبر ترك بعض نهايات قصصه مفتوحة عائمة، مستخدماً (الوهم) كحالة نفسية مر بها وعاشها معظم ابطال نصوصه وكمفردة شكلت احدى عناوين قصصه، وتأثير هذا الوهم على حركة ابطاله، الذين طغى عليهم في تصوراتهم، وعاشوا احلاما ورؤى وخيالات وامنيات خلقت واقعاً افتراضياً وعالماً بديلا عن واقعهم المأزوم، نتج هذا الوهم عن اخفاقات عاطفية وحياتية وحرماناً مادياً ونفسياً، كما في هذا النص من قصة (هو وحده): (نهضت متجها نحو الباب منتظرا عودة الطرق عليه مرة اخرى، لكي افتحه، وحالما توجهت هناك نهضت امي الضريرة معي حالا، قالت انها لن تتركني اذهب وحدي بل ستكون معي في الليل والنهار، تلك اللحظة سمعنا معا صوتا خافتا يتردد بطرقات متسارعة، اتجهنا نحنو الباب لفتحه، خطت امي امامي اول الامر خطوتين اثنتين، ما لبثت ان تقدمتها نحو الخارج بخطوات ثلاث امسكت اكرة الباب وادرتها بقوة لكي اسحبها، حالا فتحته على مصراعيه اصغت امي بكل جوارحها لكي تسمع شيء وقد شاركتها الاصغاء والترقب لأي حركة تأتي من الخارج لم يكن ثمة احد هناك غير الليل والريح تعول في الطرقات).. هذا الوهم جعل بعض نهايات نصوص المجموعة مفتوحة عائمة.. وشهدت هذه النصوص حضورا للقاص بفكره وآرائه ومواقفه السياسية بشكل واضح، وهذا ما عبر عنه الكاتب البريطاني ديفد لورنس بقوله (رجل الدين يتحدث عن الوعظ والفيلسوف يتحدث عن اللانهائية والسياسي يتحدث عن التعبئة الجماهيرية اتجاه قضية ما، اما الكاتب فأنه يتحدث عنها جميعا في وقت واحد).. كان هذا الحضور من خلال ابطاله الذين كانوا بلا ملامح ولا مرجعيات ثقافية او بيئية، لكنهم كانوا مستائين ناقمين من خلال آرائهم السياسية ومواقفهم الفكرية اتجاه قضايا مجتمعهم، مثل الاحتلال الامريكي للعراق والفساد المالي والاداري المستشري في مرافق مؤسسات الدولة والواقع الاقتصادي والاجتماعي العراقي السيئ.. يبحثون عن متنفس للأدلاء بهذه الآراء والمواقف، ولجوؤهم الى الوهم كان احدى هذا الطرق البديلة للهروب من هذا الواقع الصعب، كما في هذا النص من قصة (مشهد توصيفي لممثلة عارية) الذي يعيش البطل فيه لحظة وهم وخيال مع صورة للممثلة الفرنسية صوفي مارسو: (ترى ماذا ستقول صوفي وهي تنظر حالة رجل في عزلة ؟ ها هي ترى كيف طوقني الاخرون حتى لو كانت ممثلة اجنبية عارية تجلس معي الان والوطن يحترق بشراسة الاعداء ومن خونة الامة وعملاء الاجنبي).

3-  الترميز: لجأ احمد خلف الى الترميز كتقنية تغريب سردية في بعض القصص القصيرة جدا من مجموعته، وهي تقنية تحتاج الى خبرة ودراية كبيرتين ليتمكن القاص من ايصال قصدية نصوصه وافكاره عبر حركة ابطاله ومجموعة من الشفر والرموز السيميائية وإثارة اسئلة جدلية تجعل القارئ في حالة تعالق من هذه النصوص، وقد اجاد القاص في ذلك من خلال استثمار خبرته الكبيرة والطويلة في عالم السرد وثقافته الاستثنائية ووعيه الحاضر، كما في قصة (الموقد): (شعر الجميع بالخدر والنعاس، التموا حول بعضه وتماسكوا امام هزيمة انتباهتهم، او وعيهم الذي راهنوا على يقظته في يوم مضى، يقظة لن يخترقها نعاس مفاجئ ابدا، كانوا صامتين يخزر بعضهم بعضا لا ابتسامة او نأمة ولا صوت، أهكذا تفعل نار الموقد بهم ؟ اتراهم حراس البيت ام هم ضيوفه الطارئين؟).. كما استخدم القاص انماط لغوية ذات طابع سيكولوجيي تصب في هذا المنحى السردي او ما يعبر عنها (المحتوى العضوي)، مثل افعال (الرغبة، الاعتماد، الامل) كما في هذا النص من قصة (طفولة): (كل مساء يغمره الحنين الى نفسه ويعتريه فيض الذكريات، هل تراه يستطيع ملامسة اطرافها ؟ بعض المشاهد والصور من تلك الذكريات المحطمة. ام تراه ينظر بعين كسيرة الى ماضي الايام المتداعية).

***

احمد عواد الخزاعي

في المثقف اليوم