قراءات نقدية

سعد جاسم: رند الربيعي، نحلة الشعر المُثابرة.. قراءة في وأَنا أَجلسُ القرفصاء

النص:

وأَنا أَجلسُ القرفصاءَ على دكّةِ البنات

سألتني

من خاطَ ثوبَ صباك؟

أنا من أَنَّثت ضبابَ اللذةِ

حينَ تأججتْ ثورةُ الوردِ

كنتُ كبيرةً كبغداد

وصغيرةً كبعقوبة

كانَ طوفانُ الخجلِ

يضربُ سفينتي المهددةَ بالانقراضِ

والفراغاتُ من حولي ناضجة

*

كنتُ محاطةً بالأَصفارِ

والسوائلِ العارية

*

حيثُ لم تكنِ السماءُ سخيةً كما ادعيت ذاك العام

وشعراء بغداد كالساعات حينَ تتوقف على وقتٍ سيّال

*

كانتْ سنواتي الأثيرة

تمدُّ أعناقَها كناقةٍ جفَّ ضرعُها

*

نعم أرضعتني أمي الطهرَ والحنين

لكنني هرمتُ قبلَ أنْ اركض

*

أنا لستُ كالنساء

فستانُ صباي مطرزٌ بأوجاعِ الصمت

مخاطٌ بأبرةٍ غاضبة

*

لاعاصم اليومَ لفساتيني الممهورةِ بكركراتِ السنابلِ

وجدرانِ الدهشةْ

*

كانت أمي منشغلةً بالولد

وأنا أجلسُ القرفصاءَ

على دكَّةِ البناتْ

*

تُحرّكُ يدَها

وسبعَ عيونٍ

لدفنِ الحدقاتِ في مغارة

*

مازالتْ تسألُني عن حقيبتي

وأقلامِ الرصاص.

***

القراءة:

منذ قراءتي الأُولى لنص الشاعرة العراقية " رند الربيعي" والذي عنونته بـ " وأنا اجلس القرفصاء " والمنشور في مجموعتها الشعرية الموسومة " أُقشّرُ قصائدي فيكَ " فقد شعرتُ أنَّهُ نص محتشد بذكريات طفولية ونستلوجيا مُعتّقة وتفاصيل ماضوية منقوشة بقوة وشجن على جدران ذاكرة الشاعرة اليقظى والمتوهجة المشاعر والشاعرية. وكذلك لمستُ بأَنَّهُ نص أَنتجته مخيّلة مكتنزة بالرؤى والاخيلة وعين ثالثة مفتوحة ومراقِبَة ومصوّرة لمشاهد وتفاصيل هذا العالم الطفولي المُكتظ بشفرات خفيّة، توحي وتُشير  الى ان الشعر والشاعر.ة قادران على تأسيس وتكوين فردوس طفولي كي يستوطن ذاكرتيهما القويتين والعميقتين. وكذلك يعبق بذكرياتهما الطفولية الملآى بكل ماهو مدهش وجريء ومشاكس وسحري وحاشد بالاسرار التي يمكنهما استحضارها في اي وقت يريدان. ومما لا شك فيه ، فإنَّ هذه الاقانيم لايمكن ان تستحضرها  الا مخيلّة وذاكرة وعين شاعر..ة: راءٍ او رائية ؛وهذا ماكانت عليه عين ومخيلّة وذاكرة الشاعرة " رند الربيعي " التي لا اتردد في القول: ان نصها هذا قد غمرني بمتعة خاصة واستثنائية وباذخة اثناء قراءاتي المتعددة لهُ وفيه. ولهذا أَرى وأَشعر انه نص مهم لأنه مكتوب بدمع حار ودم موجع وموجوع حدَّ الصراخ والنزيف والشجن الثاقب. وكذلك فهو نص قد اخترق أعماقي بلا " فيزا " ولا جواز سفر.

وبطبيعة الحال فأنا كقارئ ومتلقٍ لن أَتردد في القول بكل صدق ووضوح وصراحة: إنَّ هذا النص هو من أَجمل ماقرأتُ للشاعرة من نصوص في السنوات الاخيرة. ويُمكنني أَنْ أُؤكد أن رأيي او انطباعي هذا متأتٍ من كوني واحداً من القراء والمتلقين الذين يهتمونَ بشكل خاص وعناية استثنائية بقراءة اغلب ماتكتبه وتنشره الشاعرة من نصوص في الصحف والمجلات العراقية والعربية سواءً كانت الورقية منها او الألكترونية. ولهذا السبب كنت انا اول من اطلق على " رند الربيعي " تسمية {نحلة الشعر المثابرة}.

ونتيجة لتلك المحاولات النصية الجادة فقد كنتُ وسأبقى أَعتبرها " شاعرة مثابرة حقاً " ؛ وكذلك أرى وأشعر انها منهمكة ومشغولة ومهمومة من أَجل تطوير موهبتها وطاقتها الشعرية، وكتابة كل مايُختزن في ذاكرتها ومخيلتها وروحها الطامحة للتحليق الى فضاءات الحرية والابداع والجمال والخلاص الحقيقي.

وأُريد القول أيضاً وبحدس عال وثقة شاسعة: انَّ الشاعرة "الربيعي" اذا ما ثابرت أَكثر وأكثر في اكتساب مهارات وخبرات شعرية ولغوية وأدائية في كتابة النص الشعري، فأنا واثق من انها ستتمكن من ايصال صوتها الشعري الى أبعد المديات الأدبية والثقافية سواءً في الداخل أَوفي الخارج.

 وكذلك لا يغيب عن بالي أَن أُذكّر الشاعرة " رند " بأَنَّ عليها أَن لاتنسى أنها شاعرة هايكو جيدة ؛ فيا حبّذا لو انها تعود وتهتم بكتابة نصوص هايكوية جديدة ، من أَجل ديمومة وتنوّع وتراكم وسطوع موهبتها وقدرتها الشعرية في المرحلة القادمة.

وعلى هامش هذه القراءة الذوقية ، أَودُّ أن احيي الشاعرة... وأرفع لها قبّعتي عالياً ؛ لأنها عراقية أولاً ، وموهوبة ثانياً ، وهي مشروع شاعرة حقيقية ثالثاً. وسوف يكون لها صوتها وحضورها المضيء في الحركة الشعرية العراقية والمشهود لها تاريخياً وابداعياً وجمالياً بالريادة والتميّز والفرادة الشعرية ؛ منذ ملحمة " جلجامش " التي هي أهم وأقدم وأروع ملحمة شعرية منذ فجر التاريخ ؛ مروراً بشعر العصور التالية وكذلك شعر وشعراء العصرين الاموي والعباسي ،ومن ثم شعر وشعراء العشرينيات والثلاثينيات والاربعينيات حتى ثورة الشعر الحديث التي فجّرها شعراؤنا الرواد {السيّاب والملائكة والبياتي والحيدري} ثم توهّجت شعلة شعرنا الحديث والمعاصر من خلال المنجز الشعري الرصين والكبير لشعراء حركة الريادة الثانية الذين يمكن البعض منهم مثل " سعدي يوسف ومحمود البريكان وحسين مردان ويوسف الصائغ ومظفّر النوّاب ولميعة عباس عمارة " وغيرهم ؛ وصولاً الى الحركات والتيارات والتجارب الشعرية الحداثوية لشعراء الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي ؛ وحتى تجارب شعراء الالفية الثالثة التي ارى ان الشاعرة " رند الربيعي "هي واحدة من شاعراتها وشعرائها المهمات والمهمّين والمبدعات والمبدعين الذين يُبشّرون بمستقبل شعري عراقي وعربي مهم ومختلف ومغاير.

***

سعد جاسم

في المثقف اليوم