قراءات نقدية

بديعة النعيمي: العبور على طائرة من ورق.. رواية بوليفونية للكاتبة زينب السعود

تجاوزت رواية العبور على طائرة من ورق للكاتبة زينب السعود الرواية التقليدية ذات الصوت الواحد لتنضم إلى الروايات البوليفونية ذات الأصوات المتعددة والتي كان دويستوفيسكي أول صناعها وتمثل ذلك في روايته "الجريمة والعقاب". ويقوم هذا النوع من الروايات على تعدد الأصوات والشخصيات والمواقف والنتيجة تحرر العناصر المذكورة من سلطة الراوي المطلق، ما يمنح شخوص العمل التي تتصارع فيما بينها فكريا، الاستقلالية في التعبير عن مواقفها ورؤاها وتصوراتها حتى لو كانت مخالفة لرأي الكاتب.

ومن مقومات الخطاب البوليفوني ،التعددية في الأطروحة الفكرية. بمعنى أن الرواية البوليفونية تتضمن تعددا في الأطروحات الفكرية. فكل شخصية تقدم فكرتها وتعرض أطروحتها ،ما يعني أن الفكرة أهم من الشخصية لأنها هي التي تحدد مصير الشخصية.

"كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما عرفت للمرة الأولى أنني لست أنا" ص١٤٩

عبارة وردت على لسان أمجاد الشخصية المثيرة للجدل في الرواية حتى في نظر نفسها الممزقة بين هويتين جنسيتين فالمظهر أنثى والحقيقة ذكر . هذا الوضع الذي يجعل أمجاد تعاني الضياع في مجتمع لا يرحم يجعلها تقدم على فكرة العلاج أثناء دراستها في إحدى الجامعات في أوكرانيا لتأتي الحرب وتقطع علاجها وتعيدها إلى عمان لتكمل ضياعها بسبب أفكار عمتها أميرة ورفضها لقرار أمجاد علاج نفسها وإجراء العملية التي ستساعدها في تحديد هويتها الجنسية. في الوقت الذي يجب أن تتصل فكرة أمجاد بوعي آخر يشاركها وعيها ،معبرة عن ذلك بالكلمة لتصبح حقيقة تطبق على أرض الواقع يأتي رفض العمة ليميت الفكرة مؤقتا، غير أنها في نهاية صفحات الرواية تحضى بدعم من الدكتور عبد السلام والذي امتلك فكرة إبعاد أمجاد حفاظا على نفسية ابنته هتاف.ففي ص٢٣٤ تتجلى فكرة الإبعاد على لسان الدكتور عبد السلام عندما يخبر أميرة (ما الذي يجبرني أنا أن أتحمل وجود

ابنة أخيك في حياة ابنتي من جديد؟ تعرفين ماذا يمكن أن يحصل لابنتي هتاف إذا عرفت أن أمجاد عامر التي كانت يوما صديقة مقربة ل....) وهنا تكون فكرته اتصلت بفكرة أمجاد بصرف النظر عن أهداف الدكتور.  ما كانت نتيجته انتصار أمجاد. ويتجلى هذا ص٢٧٤ فعلى لسان إلياس لهتاف (أمجاد حصلت على قبول لدراسة الماجستير في جامعة غازي عنتاب في تركيا).

كما ويعتبر تعدد الشخصيات أو تعدد الأصوات من مقومات الخطاب البوليفوني. وقد احتوت رواية السعود على مجموعة من الشخصيات والأصوات تصارعت فيما بينها فكريا وأيديولوجيا وبالتالي امتلكت كل واحدة منها أنماطا من الوعي من خلال الإدلاء بآرائها الخاصة والسعي لتحقيق مرادها. وقد تعددت أنماط الوعي في الرواية فهناك الوعي الإيجابي والسلبي والممكن. فمثلا الدكتور عبد السلام مع أنه إنسان مثقف وأستاذ جامعة إلا أن خوفه على ابنته هتاف جعله يتصرف بسلبية تجاه أمجاد الذكر فأبعدها/ ه في المرة الأولى عن جامعتها وتخصصها في الطب إلى جامعة أخرى لدراسة الهندسة الاقتصادية،ما زاد من تأزم الوضع النفسي لأمجاد. ويتضح هذا على لسان أمجاد للدكتور إلياس ص٢٢٣(إذا كنت تراني أنثى، فلماذا أبعدتني عن جامعتي؟) وكان إلياس ينفذ سلبية الدكتور عبد السلام وهنا يكون قد تشارك الوعي السلبي معه.

وفي ص٢٣٦ بدلا من أن يعمل الدكتور على الوقوف مع مشكلة أمجاد أمام المجتمع كان وعيه سلبيا عندما أخذ يشرح لأميرة وضع ابنة أخيها مع المجتمع. وهذا الوعي السلبي الذي تقاسمه الدكتور عبد السلام أيضا مع شخصية زياد الطالب الفاشل والذي أصبح موظفا بيده الأختام التي تتحكم بالناجحين في المجتمعات أدى إلى تفاقم مشاكل الشخصيات أمثال أمجاد الناجحة دراسيا وزادها كرها للمجتمع وحقدا عليه. ذلك أن زيادا كان مطلعا على مشكلة أمجاد عن طريق الدكتور الذي راجعته أمجاد للتأكد من جنسها (أنثى في المظهر ولكنها في الحقيقة ذكر) على لسان الدكتور ص١٥٤ وهنا تقول أمجاد (بحلقة زياد في تلك اللحظة لا أنساها، نظرة الهزء الصفيقة التي جعلت شفته تذهب ناحية أذنه اليمنى طعنتني في ذلك المكان من القلب).

كما تجلى الوعي السلبي عندما رسم الدكتور عبد السلام مستقبل ابنته هتاف عندما قرر عنها أن تدخل كلية الطب وهي غير راغبة.

كما وردت شخصيات أخرى تمتلك وعيا سلبيا  لا يسعنا ذكرها جميعا. وبالمقابل هناك من امتلك الوعي الإيجابي ولكن ما يهمنا أكثر هو نوع آخر ظهر في شخصية أمجاد وهتاف وهو الوعي الممكن من حيث تصوراته المستقبلية الإيجابية المبنية على تغيير الواقع واستبداله بواقع أفضل ففي ص٢٧٩ تنتصر هتاف بتغيير تخصصها والانتقال إلى دراسة التخصص الذي ترى نفسها به فعلى لسان الدكتور عبد السلام لابنته (اجتهدي ،دراسة الأدب ليست سهلة). ومن المقومات الأخرى التي زخرت بها العبور على طائرة من ورق التعدد اللغوي والأسلوبي. فأي رواية من مثل هذا النوع تقوم على هذا التعدد كي تثبت حواريتها وذلك من خلال طرح الشخصيات لمنظوراتها الأيديولوجية والفكرية ،فاللغة هي أساس قيام الرواية. والخطاب الذي يصدر عن المتلفظ ليس واحدا ،فلكل واحد لغته الخاصة. ومن أنواع التعدد الأسلوبي التي حضرت في هذا العمل،الأسلبة مثل إدخال كلمات أجنبية على بعض الجمل فعلى سبيل المثال كلمة (ترانزيت) ص١١٧ على لسان إلياس (هذه العادة رافقتني دائما في كل مطار أنزل فيه منذ أن ألفت السفر والنزول في محطات "الترانزيت " المختلفة).

كما وردت أنواع أخرى للتعدد الأسلوبي مثل المحاكاة الساخرة (الباروديا) وقد تجلى مثل هذا النوع في عدة مواقف نذكر منها ما جاء على لسان زياد للدكتور إلياس ص٥٣ (هل يعقل أن تكون ابنة الدكتور العظيم من مرتادي العيادات النفسية؟).

وفي أماكن أخرى تجلى التناص مثل ما جاء ص١٠٩ حينما اقتبست الكاتبة بيتا من قصيدة للمتنبى أجرته على لسان إلياس (تتحلق الآثار عن أصحابها...حينا ويدركها الفناء وتتبع).

كما استطعنا التقاط نوع آخر وهو اللغة الشعرية. حيث لا بد للمتلقي لرواية السعود أن يلاحظ أن شخصيات العمل تنتمي جلها إلى طبقة مثقفة ومتعلمة ،لذلك نجد بعض الحضور لهذه اللغة ويتضح هذا على لسان هتاف ص١٢٥ (الوحيد الذي لامس ما في قلبي من صدوع وهزني تماما لتتعكر الرواسب في داخلي من جديد كما ترج اليد زجاجة دواء لتمتزج مكوناتها وجزيئاتها) ومن الطبيعي أن نجد مثل هذه الشاعرية ذلك لأن هتاف أحبت الدكتور الياس ،زميل الحرب كما كانت تسميه أحيانا.

أما لغة الحوار فتعتبر عنصرا مهما في بناء العمل الروائي من حيث أنه يكشف الشخصية الروائية ويساعد المتلقي على تمثلها بمعنى أن هذا العنصر يساعد على معرفة المواصفات التي تحملها الشخصية.

ومن الحوارات التي حضرت بكثافة الحوارات الخارجية والحوارات الداخلية وهذه لا تخفى على أحد. أما النوع الذي أود ذكر مثال عليه فهو نوع آخر وهو الصمت في الحوار وقد تجلى مثل هذا النوع ص٧٩ على لسان الدكتور إلياس (وقفت وجها لوجه أمام الدكتور عبد السلام الذي كان ينظر باتجاه غرفتها ،ظهرت في عينيه نظرة إعجاب دون أن ينطق بكلمة واحدة) وقد تكرر مثل هذا الحوار في غير مكان في الرواية لا يسعنا التطرق لها جميعا. كما حضرت لغة الجسد بكثافة في رواية السعود.

ومن المقومات الأخرى التي حضرت لتكمل مسار الرواية البوليفونية الفضاء الكرونوطي. حيث يتكون هذا الفضاء من الزمان والمكان ويشكلان معا فضاء واحدا. وقد جاءت وحدة الزمان والمكان في رواية العبور على طائرة من ورق متنوعة ومتسلسلة حيث تنوعت الأزمنة من ليل إلى نهار ثم ليل وهكذا، وتوزع هاذين الزمنين الذين ارتبطا بالمكان وخاصة المكان المغلق والمتمثل بكثافة في غرفة النوم ،غرفة المكتب وغيره من الأماكن المغلقة كون هذه الأماكن تعتبر أماكن خاصة يختلي بها الشخص وتشعره بالراحة والأمان والبعد عن الآخرين واسترجاع الجروح والآلام ،ونورد مثالا على ذلك ما جاء ص١٠ على لسان هتاف بعد عودتها من أوديسا (أجلت عيني وتمعنت في التفاصيل المحيطة بي ،خزانة ملابسي،ومكتبتي الصغيرة ،باب غرفتي الموصد بأمان،عقارب ساعة الحائط...تذكرت أحداث الأيام الماضية ،يا لها من أحداث! أيعقل أنني نجوت؟).

بقي القول أن رواية زينب السعود بالإضافة إلى كونها رواية بوليفونية فإنها خارجة من رحم المجتمع في وعيها للنسيج الاجتماعي القائم الذي لا يتقبل اختلاف الآخر. وزينب السعود طرحت مشكلة في هذا الجزء ربما سيكون طرح حلها في جزء قادم كونها تركت النهاية مفتوحة.

***

قراءة بديعة النعيمي

في المثقف اليوم