قراءات نقدية

حبيب ظاهر حبيب: مسرحية (بيت أبو عبدالله).. رؤية صادمة ما فوق الدراما

ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي الذي أقامته الهيئة العربية للمسرح بالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية ونقابة الفنانين  - الدورة الرابعة عشر - بغداد، عرضت مسرحية بيت ابو عبدالله يوم السبت ١٣/ ١/ ٢٠٢٤ الساعة الرابعة بعد الظهر في مسرح الرشيد. 

تأليف  وإخراج أنس عبد الصمد.

تمثيل: محمد عمر - ماجد درندش - ثريا بوغانمي - أنس عبد الصمد، ومجموعة من الممثلين. العرض من إنتاج دائرة السينما والمسرح.3231 مسرحية بيت ابو عبد الله

بداية العرض امتحنت صبر المتلقي وبقاءه مصغيا ببط شديد وصمت مهيب، انها خطوة مهمة لتأمل مكونات بيت ابو عبدالله والدخول اليه بهدوء، فلا وجود للضربة الاولى التي تمسك بالمتلقي وتكتم أنفاسه، الضربة الاولى هنا تدعو المتلقي للتأمل في الآتي الذي افتتح بصدمة انتهاك خصوصية الإنسان في مكان لا يتقبل الفرد السوي أن يُشاهَد فعله فيه، ولا أن يُشاهِد هو فعل الآخر/ين فيه، لأن (المرافق الصحية) مكان يقضي الفرد حاجته فيه ولا يقبل القسمة على اثنين، وتتكرر الحالة مرتين من قبل شخصيتين، وفي هذا فضح صادم استهلّ به العرض. 

الفئران تحاصر بيت ابو عبدالله صوتيا منذ البداية حتى النهاية، وبحضورها كوجود عياني مصور على الجدران بكثافة، ولم يكتف الإخراج بصورة عارض البيانات (داتاشو) للفئران وحركتها، بل أظهر الفئران بهيئة شخصيات متعددة ارتدت السواد وتحركت على أربع أرجل حينا وعلى اثنين أحيانا اخرى، الفئران تمشي على الجدران وعلى الارض انها منتشرة في كل مكان، لأن أفراد عائلة أبو عبدالله سمحوا لها بالتسلل الى البيت بسبب عزلتهم عن بعضهم، ودون أن يشعروا بوجود الفأر الكبير الذي اقتحم البيت منذ البداية عندما تسلق الجدران، ما الذي جاء بالفئران؟ (جاءت الفئران، تسلقت الجدران، نهشت الإنسان) قالب الجبن موجود على مائدة طعام عائلة ابو عبدالله، والفئران تحب الجبنة. حدث هذا كله تحت رقابة عين كبيرة بحجم السايك الخلفي للمسرح تبدو حينا وتختفي حينا آخر، انها عين ترى كل شيء ولا تراها الشخصيات.3232 مسرحية بيت ابو عبد الله

تحركت الجدران وانفتحت في بداية العرض وتم إنشاء تكوين البيت، ثم زحفت الجدران لتضيق على ساكني البيت وتبتلعهم، ولكنهم خرجوا من بينها من جديد بقوة إرادتهم، مما استدعى حضور الطبيب لمعالجة الموقف بحقنة نشطت الشخصيات وعادت لفعل جديد آخر.

لم تعش الشخصيات بسلام ووئام، كانوا منعزلين عن بعضهم رغم انهم يعيشون مع بعضهم، يتآكلهم هَمٌ وتوتر يجعلهم غارقين في كآبة مفرطة، حتى لم يعرفوا الضحك ولا الابتسام ليس طيلة الخمسين دقيقة من زمن العرض وحسب، بل طيلة حياتهم، وما يميزهم هو أنهم متشبثون بالحياة، يبدو انهم وُجِدوا هكذا منذ زمن.

تصاعد إيقاع العرض إلى إحدى ذرواته وصولا إلى صوت إطلاق الرصاص، وسقوط الشخصيات الثلاث كجثث هامدة، ولكنهم ينهضون ويبدأون من جديد بفعل جديد.

لم تنطق الشخصيات بكلمة واحدة، فقد أوقفت لغة الحوار العادي، الشخصيات لا تمتلك لغة مشتركة، وتم إعلاء الفعل والايماءة والحركة ولغة مفردات المنظر ومنها: الغسالة - الحبال المتدلية - مقعد التواليت - منضدة الطعام - - الكراسي الثلاثة - آلة الچلو - كيس الملاكمة - الوسائد الثلاثة - المايكروفونات الثلاثة - والجدران وهي الكتلة الضخمة التي تفككها أيادي مجهولة وتحركها بتكوينات عديدة منها (ثلاث جدران متباعدة، تشكل ثلاث خطوط متوازية، تصطف متلاصقة بخط مستقيم، اثنان منها يشكلان زاوية منفرجة ثم حادة ثم تنطبق الجدران على الشخصيات حتى تبتلعها وتختفي داخلها، كانت هذه المفردات فاعلة وحاضرة وجميعها متحركة بفعل الجرذان وفاعلية الشخصيات، لا شيء ساكن وثابت، حتى بوابة خشبة المسرح الخلفية فتحت وألقت بضوء الخارج بوجه المتلقي ولكنها سرعان ما سدت بأحد الجدران، استبدلت لغة الكلام بلغة شعر مكونات الفضاء المسرحي والحركة والايماءة وحركة الممثل والجدران والفئران وكل شيء، بالتداخل مع صوت التأوهات وصرخات الألم واللهاث والتصريح للإعلام أمام المايكروفون بلغة مبهمة، أما الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي كانت السيادة فيها لصوت (صرير الفئران) فقد أصبح معتادا بسبب مرافقته لفعل العرض منذ البداية، ولم يتم الانتباه للموسيقى بصورة منفردة لأنها كانت على درجة من الانسجام مع فعل الشخصيات وتكوينات المنظر.

لم تكتفِ الاضاءة بوظيفتها التقليدية بجعل الرؤية ميسرة، والإسهام بإنشاء الجو النفسي العام، بل تعدت إلى تكوين علامات بحسب التحولات المشهدية وكانت العلامة البارزة صورة الخطين المتقاطعين (x) أو (+)3234 مسرحية بيت ابو عبد الله

صورة الشخصيات بالأزياء اليومية العادية وسلوكهم الغارق في الطبيعية (استخدام المرافق الصحية والتقيؤ) لغرض تقديم صورة (الإنسان الذي تُقتحم كينونته ويُضيق عليه، ليتسرب الملل إليه، ويُقهر وتُنتهك كرامته ليصبح بلا ملامح أو هوية) اذ لم يحدد المخرج من هو عبد الله ولا ابو عبدالله ولا ام عبدالله، وأوحى بأن الجميع (الشخصيات والمتلقي) يعيش في بيت ابو عبدالله.

ينتمي العرض إلى اتجاهات قوّضت مسارات الحكاية واستبعدت الفعل التصاعدي نحو الذروة ثم الحل، ولا يبني الحدث المحوري ولا حتى بنية واضحة للشخصيات وأبعادها، إنه عرض يفكك القيم الدراماتيكية ويعيد تركيبها على وفق جدلية عرض مسرحي أكثر منها فكرة مركزية، انها جدلية الثيم المتعددة التي تعيشها وتخضع لها الشخصيات في البيت الذي تزحف جدرانه على ساكنيه الآن، قدم العرض حالات شعورية معدية للمتلقي أكثر منها افكار، خرج المتلقي من العرض محملا بطاقة شعورية ناتجة عن عبء تعرضه لجملة من الصدمات التي تلقاها من كل شيء، من مفردات العرض الكثيرة وكل مفردة أفضت إلى علامة ينبغي أن تصل إلى وعي المتلقي ليمتلك دلالتها ويربطها بما سبقها وما يلحقها من دلالة العلامات وهكذا، لقد وصل العرض باضطراد العلامات وكثافتها وسرعة ارسالها - ربما - لحد لم يتمكن المتلقي من اللحاق بدلالاتها، فصارت عبارة عن شحنات مشاعر وانفعالات.3233 مسرحية بيت ابو عبد الله

قال العرض لتقاليد الدراما الأرسطية وما بعد الأرسطية: اذهبي بعيدا، لنؤسس لما بعد الدراما، أو يمكن أن تندرج تحت مصطلح (ما فوق الدراما) وهو أسلوب اختص بالتأسيس له عدد من المخرجين في العالم، ومنهم (انس عبد الصمد) وقد يشكل هذا الأسلوب مرحلة - ربما - لم يألفها المتلقي العادي - وقد ينفر منها عدد من المعنيين بالدراما المسرحية ويرجمها بفيض من كلمات النقد التقييمي دون الذهاب إلى النقد القائم على التحليل - ولكن حالما تصبح تيارا واضح الأسس سيتم تقبله والإقبال عليه بشغف التحليل النقدي لمجمل شفراتها، دون التخلي عن عناصر الدراما الأصيلة، والروائع الكلاسيكية والتقليدية التي كانت ولا زالت قيمة معرفية ومرجعية لكل ما جاء بعدها.

قال أنس عبد الصمد -الذي استأثر بالإمساك بثلاث تفاحات بيد واحدة - التأليف والإخراج والتمثيل - قال مع فريقه:  لنؤسس روائع على تماس مع حياة المتلقي المعاصر، الذي يعيش معنا الآن، من خلال شخصيات غير مستقدمة من عمق التاريخ، أو مستعارة من بيئات اخرى، ولنبني شخصيات حية تمت صناعة وجودها الدرامي اليوم، لإيصال دلالة مفادها: أن هذه الشخصيات تعيش معك في هذه البيئة، وقد تكون أنت واحدا منها أيها المتلقي، وما هذه إلا حقيقة نكشفها أمامك، ولسنا معنيين بوضع الحلول والمعالجات، انسجاما مع التحديد النهائي لهدف الفن الذي وضعه (هيغل) بقوله: " إذا كنا نريد أن نعزو إلى الفن هدفا نهائيا، فإنه لا يمكن أن يكون سوى هدف كشف الحقيقة، وتمثيل ما يجيش في النفس البشرية تمثيلا عينيا ومشخصا. وهذا الهدف مشترك بينه وبين التاريخ، الدين"(1) وهذا ما تم البوح به بقوة وقسوة من قبل فرقة مسرح المستحيل، عندما أمتعت المتلقي بجدلية (الإنسان/ العائلة قبالة الفئران والعناكب) وجعلت ذاته -أي المتلقي- تنصهر في العرض لأنه وجد شيئا من ذاته ماثلا أمامه- لينتهي العرض بعد أن بثَّ دهشة شعورية وصدمات نفسية وعَمِلَ على ترسيخ تساؤلات.

***

د. حبيب ظاهر حبيب

.........................

- هيغل: المدخل إلى علم الجمال – فكرة الجمال، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط3، 1998، ص100.

في المثقف اليوم