قراءات نقدية

علي فضيل العربي: مكانة المرأة الريفيّة ودورها في ثورة التحرير الجزائريّة

صدرت رواية زواج بالجبل، للأستاذ محمد عياشين سنة 2022 م، في طبعتها الأولى عن دار حمدة للنشر والتوزيع ببوقادير، ولاية الشلف الجزائريّة. توزعت على 128 صفحة، مدعّمة بمجموعة من الرسوم الرصاصيّة الموحيّة.

تدور أحداث رواية "زواج بالجبل" للروائي والسيناريست محمد عياشين في مناطق الريف الونشريسي وجباله الممتدة من البليدة و مليانة إلى تسيمسيلت والظهرة، أما حيّزها الزماني، فقد استغرق فترة الثورة التحريرية وما بعد الاستقلال والحرية ومحنة العشريّة السوداء.

استمدّ الروائي والسيناريست محمد عياشين أحداثها، كما صرح في ديباجتها من الواقع المرّ الذي عاشته منطقته (سهل الأصنام (الشلف) أثناء الثورة التحريرية، فهي رواية قال عنها صاحبها في مقدّمة لها: " رواية زواج بالجبل قصة في مجملها واقعية، جرت بين أحضان الونشريس والأصنام (الشلف حاليا) والبليدة وإن تغيّرت فيها بعض الأسماء أو بعض الأماكن. فهي جزء من معاناة الشعب الجزائري إبّان الاستعمار الفرنسي فإلى بعد الاستقلال ثم العشريّة السوداء، حتى يدرك أخي الطالب (ة) معنى الاستعمار ومخلّفاته " ص 3. فجاءت روايته مرآة عاكسة، بصدق، لبيئته الطبيعيّة والاجتماعية آنذاك. وهي بيئة سيطر فيها المحتلون الفرنسيّون وأذنابهم من الحركى على الساكنة الريفيّة، وأذاقوها مرارة البؤس والحرمان والجوع والأمراض القاتلة والفتّاكة.

و لأنّ العنوان هو عتبة النص، ومفتاحه، فقد اختار الكاتب عنوان "زواج بالجبل"، للدلالة على تمازج الثورة بالحب. وبين الثورة والحبّ، تكامل وتماثل، فإنّ الثورة هي عشق للحريّة توق ومحبة لها. أما الحبّ، فهو كيمياء كل حركة ثوريّة نبيلة، زادها التضحيّة، وغايتها العيش الكريم في كنف العزّة والسؤدد.

لقد كانت خاتمة الرواية، صورة مشبعة بالتفاؤل، رامزة وموحيّة لجزائر النور و الحب والتغيير، والتي افتكت حريّتها واسترجعت استقلالها وهويّتها بأزيز الرصاص والقصاص، وشلالات من الدماء التي ارتوى بها قلب الثرى.

صورة المرأة الريفيّة في الرواية: عكست أحداث الرواية دور المرأة الريفيّة البطلة في دحر الغازي الفرنسي، وتحقيق النصر والحريّة. فها هي الشخصيات النسائية (خيرة المرشوقية، فاطمة المكرازية، مريم الدرقاوية، الطبيبة بختة، (بختوتة المليانية)، يمثلن قلب الثورة ويؤدين دورهنّ في المقاومة والجهاد بمختلف الوسائل.

لقد كان الريف الجزائري ملجأ للثوار والمجاهدين، وكانت مظاهر الطبيعة ؛ من جبال وفجاج ووديان وشعاب الحصن الحصين لهم. وكانت الجبال، بالخصوص، معقلا للمجاهدين، وقتهم من بطش الغزاة، ومن قنابل طائراته (الصفراء) وقذائف مدافعه الغادرة. وقامت المرأة الريفية الفحلة بدورها في استمرار الثورة إلى غاية تحقيق النصر المبين. كانت تحيك وتخيط للمجاهدين قشاشيبهم ورايات الوطن، تطحن وتخبز وتطعم المجاهدين وتخفيهم في مخابيء سريّة، وتوصل لهم مؤونة الغذاء والسلاح.

المرأة في رواية زواج بالجبل لمحمد عياشين زوجة وأم وفلاحة وزند معين لزوجها وعين حارسة ومجاهدة ومقاومة للمحتل الفرنسي الغازي. تؤدي دورا أكثر من الرجل، بل إنّ ما تقوم به من أشغال، لا يجعلها في مرتبة نصف المجتمع ، بل أكثر. لقد تجاوزت النظرة التقليدية للمرأة، وأنجزت ما عجز عنه الرجل. لم تعد آلة نسل وعجن وطبخ وكنس فقط.

جاء على لسان الروائي في وصف خيرة المرشوقية : " حان وقت الحلول. خيرة المرشوقية لا يمكن لها أن تترك أرضها بورا، قد تعودت على حرث وحصاد قطعتين منفصلتين بسفح جبل الونشريس لزرعهما شعيرا تقتات منهما وعلف الحمار والمعزة " ص 30

و هاهي المرأة الجزائرية الريفية تكتب بأناملها وإرادتها وإيمانها ووطنيتها ودهائها ملحمة النصر والحرية ، وتساهم في دحر المحتل الفرنسي.

" قدور لطرش يحفر كازمة بمعية زوجته فاطمة المكرازية، وجدتي مريم الدرقاوية تحرس ساحة البيت وطرقها من هضبة سيدي عبد الرحمان. فاطمة المكرازية أعدت سعفة قديمة مملوءة بزبل البقر وضعتها بجانب الدار. السعفة الثانية تراب نقي ينثرانه على حقل زرع مجاور للبيت. تبادل بين الزوجين في غدو ورواح تحت حراسة مشدّدة، ثلاثة أسابيع والحذر مطلوب لدى العائلة إلى أن انتهت الأشغال به.." ص 28.

إنّ ما قامت به فاطمة المكرازية وخيرة المرشوقية ومريم الدرقاوية لدليل على القوة الفلاذية للمرأة الجزائرية، في زمن المحن والمصائب والجوائح. لقد وقفت إلى جانب أخيها الرجل في قلب معركة التحرير. وبفضلها تحقّق النصر .

" أمّا فاطمة المكرازية، كانت هي الأخرى داهية وكثيرة الحيل في هذا المقام، أغلقت فوهة مدخل الكازمة بلوحة خشنة، وأفرشت حصيرا باليا عليها، ووضعت فوقه صندوقا خشبيّا مفلس القفل، بداخله برنوس زوجها وجبة نساء قديمة وفولارة (خمار) وقنينة عطر فارغة وحبيبات من الكافور، غطت الصندوق بعطاء قديم، عليه بول أولادها، كل أسبوع تذري عليها قليلا من الفلفل الأسود والأحمر مسحوقين خوفا من الكلاب المدربة للجيش الفرنسي على شمّ رائحة الفلاقة " ص 29.

يصف لنا الروائي جانبا من شجاعة خيرة المرشوقية وتحديها للمحتل الفرنسي واعتزازها بهويتها: " نعم أنا خيرة المرشوقية بنت أحمد بم محمد من أشراف الجزائر حسبا ونسبا.. " ص 45.

أجل، هي نسخة من بطلات الجزائر أثناء المقاومة الشعبية الباسلة وسليلتهن، لالة فاطمة نسومر. وغيرها من البطلات المجهولات والمنسيات في مسيرة المقاومة الشعبيّة الباسلة.

تقول خيرة المرشوقية متحسرة " صرنا تحت حكم الرعاة، البارحة متسوّلون واليوم في الحرير يتنعّمون " ص 45.

و رغم أشكال القهر والأميّة والاستعباد التي مارسها المحتل الفرنسي على الشعب الجزائري، وحصاره الشديد للريف أثناء الثورة التحريرية، فقد استطاعت المرأة الريفيّة المقاومة أن تؤدي دورا بطوليا، عجز عنه بعض الرجال. فكانت خير معين للرجل في السلم والحرب.

وما قامت به بختوتة المليانية، القادمة من مدينة (مليانة) العريقة، دليل على تلاحم المجتمع الجزائري، بريفه وحضره. فكان عهل الريف خدم لأهل الحضر، والعكس. كما قال الأمير عبد القادر: الناس للناس من بدو وحضر.. بعضهم لبعضهم خدم وإن لم يدروا.

لم يعتمد الروائي محمد عياشين في مجرى أحداث روايته على فرديّة البطل، وإن كانت شخصية خيرة المرشوقية هي الطاغية على الأحداث، وتقمّصت دور البطولة. لكن شخصيات النساء الأخريات (فاطمة المكرازية، الممرضة بختة المليانية، مريم الدرقاوية..)، وإن كانت شخصيات ثانوية، لكنها حاسمة في أدوارها.

الحوار في الرواية: إذا كان عنصر السرد في الرواية هو أساسها والحامل لأحداثها، فإنّ عنصر الحوار يمنح الرواية زخما من التفاعلات تعمّق الصراع الدرامي بين الشخصيات ن وتبرز ملامح الشخصيات ومشاعرها وتوجّهاتها الإيديولوجيّة، بل وتجسّد السلوكات اللاشعوريّة إلى العلن بوساطة الإسقاط أو الفلتات اللسانية. إنّ ما يعطي للرواية حيويتها الفنيّة وعبقريّتها التميّز، هو نمط الحوار المنسجم مع روح البيئة (الزمان والمكان). وهذا ما نلمسه في رواية (زواج بالجبل) للروائي والسيناريست محمد عياشين. فقد كان الحوار بين شخصيات روايته مفعما بالحيوية، ومعبّرا عن الجوانب السيكولوجيّة لكل شخصيّة. ولنتأمّل هذا المقطع من الحوار الذي دار بين الحركي وخيرة المرشوقية ص 40 / 41:

- (خيرة المرشوقية): يا أعداء الله سرقتم قشّابة سيدكم، الدار قلّبتم عاليها عن سافلها.

- (الحركي): امشي معنا يا خبيثة، توكلي (تطعمين) الفلاّقة ؟

- (خيرة المرشوقية): ابعد وجهك يا جرو فرنسا.

- (الحركي): عشر خبزات في فوطة تحت الجفنة قرب الكانون، هي لأمّك يا ستّوتة (شيطانة).

- (خيرة المرشوقية): تلك وعدة (صدقة) نخرجوها أول سكّة حرث (بداية الحرث)

- (الحركي): تأكلها الذئاب، تعيشين مع ولد واحد وسط الغابة، وتقولين السكة الأولى. أين روينة صالح ميمون ؟ أو نسيت عادات جدودك ؟

- (خيرة المرشوقية): لا يوجد لي قمح لأصنعها.

- (الحركي): امشي قدّامي يا جرثومة.

يجسّد هذا الحوار الواقعي جدّا، صورة واضحة لمعاناة المرأة الريفيّة أثناء الثورة التحريرية من ظلم الحركى (الخونة)، وجبروت المحتل الغاصب الذي سلّط عليها القهر والفقر والعوز والحرمان، وجرّدها من إنسانيتها، فهي في نظره جرثومة وشيطانة. ولكن رغم كلّ ذلك القهر الجسدي والنفسي، لم تتأخر عن دورها في إطعام المجاهدين، رغم الخصاصة. فكانت تؤثر على نفسها وأبنائها، وتطعم المجاهدين من أجل استرجاع الحريّة والاستقلال، ولم تثنها أساليب القهر الاستعماري عن دورها الجهادي.

لقد جابهت المرأة الجزائرية مختلف أساليب البربريّة الفرنسيّة الصليبية. معنوية، من خلال نعتها بألفاظ بذيئة ومشينة (ستّوتة { شيطانة }، جرثومة، خبيثة، ذئبة) وسياسة التجهيل، وماديّة (الجوع والبرد والأمراض الفتاكة، والسكن البدائي ونزع الأراضي الخصبة، والحصار في المحتشدات الشائكة بغرض عزلها عن المجاهدين). كما جاء على لسان الجدة مريم الدرقاوية، وهي تواجه العسكري الفرنسي : " لم يبق فينا إلا هذا الثوب الممزق الذي يسترنا، جوّعتمونا ن شردتمونا، قتلتم رجالنا ونساءنا " ص 55.

لكنّها لم تستسلم أمام الطاغوت الفرنسي الاستعماري وأعوانه من الحركى، جراء فرنسا (ابعد وجهك يا جرو فرنسا.).

و في المقطع التالي يرسم لنا الروائي محمد عياشين صورة أخرى لبسالة المرأة الريفيّة وشجاعتها وروحها المقاومة. من خلال شخصية الجدّة مريم وخيرة المرشوقية: " جدتي مريم تحرس البيت، رشاقة خيرة المرشوقيّة أسرع بكثير من قدور لطرش، اعتمادها على النفس، علّمها الحرث والمنجل والفأس والشاقور، إضافة إلى أشغال البيت، استخرجتا القمح من المطمورة، فغسلاه وجفّفاه على طاجين، تحته نار دافئة فإلى الرحى . لم تمض ساعة ونصف حتى كان الدقيق جاهزا، وضعاه في كيس وأخفياه في ضروة غير بعيدة من البيت " ص 55.

امتاز الحوار في رواية " زواج بالجبل " للروائي محمد عياشين، بالإيجاز اللفظي المفضي إلى الغرض في مواضع عديدة ، وقد مزج فيه الروائي بين اللغة المحليّة المحكيّة (الحكي الشعبي المحلي)، وهي اللغة اليوميّة لساكنة الرقعة الجغرافيّة التي داوت فيها أحداث الرواية (من المتيجة إلى جبال الظهرة والونشريس). وما ميّز هذه اللغة الحواريّة، هو بساطتها وسلاستها وعمقها التعبيري وأدائها المباشر وانسجامها مع الجوّ النفسي لشخصيات الرواية. وهي لغة مباشرة وسليلة بيئة أحداث الرواية و أقرب إلى فنّ السيناريو السينمائي والمسرحي .

سيميّائية الشخصيات النسائيّة :

أبرز شخصيات رواية " زواج بالجبل " للروائي محمد عياشين، شخصيّة، خيرة المرشوقيّة، وهي الشخصيّة الرئيسة (البطلة) في الرواية . وعندما نتفحّص ملامح هذه الشخصيّة النسائيّة، من جوانبها النفسيّة والبدنيّة والعقليّة، نخلص إلى صورة امرأة ثوريّة ومجاهدة وقويّة وومؤمنة بقضيّتها التحرّريّة وشجاعة وحكيمة وصامدة ومتحدّية، لم ترهبها آلة القمع الفرنسي ، رغم فظاعتها وبشاعتها. فقد جمعت خيرة المرشوقيّة بين قوة الإيمان بقضيّة وطنها المحتل وحبّ التضحية بالنفس والنفيس. وتيقنت أن الجهاد لنيل الحريّة والكرامة والاستقلال لا تعني الرجل دون المرأة، بل هي مسؤولية مشتركة. إنّ خيرة المرشوقيّة امرأة تامة العقل والدين. امرأة في خلقها البيولوجي، لكنّها تحمل كل معاني الرجولة الحقّة ، لا تنطبق عليها مقولة " النساء ناقصات عقل ودين ". فهي خير، ألف مرّة، من ذلك الحركي، ومن الذكور المتقاعسين، والواقفين على الحياد دون انتماء." ما رفعت رأسها في عين رجل سوى زوجها. امرأة متوسطة العود.. " ص 43.

تقول نفسها بنبرة افتخار واعتزاز وهي تواجه الباحث العسكري عندما يسألها: " أنت خيرة المرشوقيّة ؟ " ص 44.

" نعم، أنا خيرة المرشوقية بنت أحمد بن محمد من أشراف الجزائر حسبا ونسبا... " ص 45.

" تركت خيرة المرشوقية رضيعها أمام الكانون، وهبّت تركض في اتجاه جبل الموت. هكذا يسمّى، لأنّه حصد الكثير بسبب صيد النحل والضرابين. قدماها تقطران دما، لم تنتبه للأشواك ولا للأحجار السكنية التي سنتها الطبيعة سنا قاطعا منذ عقود.. بعد ساعة طوي صعودها وهبوطها وتسلّقها لتقف على جثة صامتة كستها الدماء بين شجرة عرعار وصخرة في شقّها عصا حديدية (العتلة) " ص 13.

مريم الدرقاوية: تتّسم شخصيّة الجدّة مريم بالشجاعة والقوّة والاندفاع. فهي امرأة تغالب نوائب الدهر، وتجاهد بكل قواها البدنيّة والنفسيّة والعقليّة. إنّ أميّتها لم تعقها عن أداء دورها في محيطها الاجتماعي كأم وجدّة ومجاهدة. يوميّاتها، كلّها، تنم عن روح المقاومة والصمود والتحدّي. " جدتي مريم الدرقاوية تصحبنا إلى مرعى المسخوطة. تحيطه شرقا وغربا غابات كثيفة وفي أسفله وادي بورورو." ص 24. " وصيتها الوحيدة ألا نقترب منها أو ندخل الغابة، ستتركنا بعد قليل وتعود إلى البيت. كنّا نراقبها من بعيد، تضع أثقال الحمل وتشحن الشواري حطبا في بضع دقائق وتعود مع دربنا. الاستغراب والشكوك يراودني عسى الشكوى وما في طيات الشواري للجنون مقابل حزمات من الحطب. جدّتي تتعامل مع الجنون. أتذكر حين مرضت خالتي أحضرت طالبا (راقيا)، قرأ عليها سورا من القرآن وأورادا من الأدعية، حينها شُفيت " ص 24 / 25.

فاطمة المكرازية: امرأة من خيرة حرائر الجزائر، مجاهدة شجاعة، لم ترهبها آلات التعذيب والقهر، نسخة من رفيقاتها، خيرة المرشوقية ومريم الدرقاوية . " أمّا فاطمة المكرازية، كانت هي الأخرى داهيّة وكثيرة الحيل في هذا المقام، أغلقت فوهة مدخل الكازمة بلوحة خشنة، وأفرشت حصيرا باليا عليها، ووضعت فوقه صندوقا خشبيا مفلس القفل بداخله برنوس زوجها وجبّة نساء قديمة وفولارة (خمار) وقنينة عطر فارغة وحبيبات من الكافور، غطت الصندوق بغطاء قديم عليه بول أولادها، كل أسبوع تذري عليها قليلا من الفلفل الأسود والأحمر مسحوقين خوفا من الكلاب المدرّبة للجيش الفرنسي على شمّ رائحة الفلاقة " ص 29.

لقد نسجت المرأة الجزائرية الأصيلة ملحمة الجهاد في الأرياف والقرى والمدن. وسجّل التاريخ بطولتها وصمودها ودورها الريادي في نيل الحرية والاستقلال. وقد ملأت أخبار جميلات الجزائر الآفاق، وتحوّلت بطولتهنّ إلى ملاحم ينشدها الثوار ويترنّم بها الأحرار وتتردّد على ألسنة الكبار والصغار في كل مكان. ولولاها ما كانت الثورة لتصمد وتستمر وتحقّق النصر المبين.

" فاطمة المكرازية تزيل لوحة باب الكازمة، يستخرج مسطاش أربعة وعشرون بندقية صيد وعدد كبير من الخراطيش وآلة راقنة وأغطية متنوعة الحجم والشكل، فتشحن في شاحنة إلى جبال الونشريس بللو (الأزهريّة حاليا) " ص 100.

بختوتة المليانية: شابة جمعت بين الحبّ العذري و المواطنة والتضحيّة . أحبّت وطنها، فوهبته نفسها. فطم عشقها للثورة في سنّ مبكّرة، و أينع وعيها الثوري . مارست مهنة التمريض في أحضان الجبال والفجاج والشعاب. تحدّت الشدائد والمصاعب. آمنت بأنّ النصر آت لا ريب فيه، مهما امتدّت ليالي الاحتلال الغاشم ، ومهما طالت وحشيته واقترفت أياديه الآثمة المجازر والجرائم الفظيعة.

قدّمها الروائي محمد عياشين كشخصيّة مخضرمة . عاشت أطوارا من الثورة، وشهدت فرحة الاستقلال وشاركت في أعراس الحريّة.ن التي كانت طرفا في صنعها. فكانت مثال المرأة الواقعيّة و الرمزية ، التي عكست صورة المرأة الجزائريّة الفحلة، الكريمة، العاشقة بعقلها قبل قلبها.

" لم تبخل طبيبتنا في تطبيب أهل القرية، لرجالها ونسائها وأطفالها في قبوسة جدّتي مريم الدرقاويّة (القابوسة غرفة صغيرة توقد فيها النار شتاء)، كل من دخل غرفتها ترحّم عليها وعلى جدّي قويدر، كأنّهما أحياء بينهم، ذكرياتهما، سخاؤهما " ص 107.

" لم ينقص من عزيمة بختوتة المليانية شيئا أمام صور وذكريات بطلها الشهيد، النمس، بل تفانت في تربية أبنائها وإتقان عملها. ابنها الأكبر (منور) حلمها قد تحقق صار مهندسا معماريا مصمم العمارات والقصور والجسور والمصانع.. " ص 128.

لغة الرواية: ما يلفت انتباه القاريء لرواية زواج بالجبل للروائي والسيناريست محمد عياشين، هو مزجه بين الفصحى واللغة المحكيّة (العاميّة) المستمدّة من البيئة المحليّة في بناء عنصر الحوار، أيّ اعتمد لغة وسطى . ممّا أضفى على الأسلوب السمة الواقعيّة، والتشويق. إنّ المتأمل للغة الحوار يدرك دوره العميق في تجسيد الانتماء الوطني، وإظهار الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي. لقد عكست طبيعة اللغة هويّة المنطقة التي كانت مسرحا للأحداث، كما عبّرت بصدق عن التفاعلات السيكولوجيّة في علاقة الشعب الجزائري بالمستعمر الفرنسي وأذنابه. فإذا كانت المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العام والخاص – كما أشار إليه الجاحظ – فإنّ بناء الأسلوب، هو جزء من عبقريّة الكاتب والقاص والروائي والشاعر، بل إنّ الأسلوب (الألفاظ والجمل)، هو الذي يكسب صاحبه التميّز والعبقريّة، ويمنح المعاني والأفكار الحركة والفاعليّة. (قواطن – الدالية – التويزة – عتروس – الخنز – البتيتة – الكنوري – ربي جابك عندي – سليقاني – بعثوك أسيادك – صاحب الفيرمة – كيفكيف – الكازمة – هر،هر - فلاقة – الله لا تربحك – ستّوتة – ديقاج – الخنونة –الجدارمية – مرآة الهند - المطمورة – الخاوة.... الخ "

اعتمد الروائي على الجمل القصيرة والأسلوب المباشر واللغة المحليّة، المحكيّة، فكان أسلوبها أقرب إلى أسلوب السيناريو. ولعل، مردّ ذلك راجع إلى كون الروائي محمد عياشين يعتبر من كتاب السيناريو. لهذا السبب كتب روايته " زواج بالجبل " في قالب السيناريو، وطغت النظرة الواقعيّة على عالم الخيال الفنّي.

و خلاصة القول، إنّ صورة المرأة في رواية " زواج بالجبل " للروائي والسيناريست محمد عياشين، تجاوزت عتبة النمطيّة المتعارف عليها في الثقافة العربيّة، وارتقت بالمراة إلى درجة السمو الروحي والاجتماعي. هي امرأة ثائرة وقويّة وواعيّة، جمعت بين واجبها المنزلي - كزوجة أو أمّ أو جدّة أو عمّة أو خالة - ورسالتها الجهاديّة. الرجال الأبطال، حملت السلاح وخاضت المعارك الحربيّة إلى جانب الرجل، وخاضت معركة البناء بعد الاستقلال دون تردّد . المرأة عند الروائي والسيناريست محمد عياشين، ليست آلة للجنس والنسل والطحين والطهي والغسل فقط ، وليست ناقصة عقل ودين، وليست وسيلة إغواء للرجل، بل هي إنسانة حرّة ومسؤولة. فقد تحرّرت من القيود الاجتماعية والعادات الباليّة والنظرة الدونيّة والتهميش والإقصاء . لقد فاقت أعمالها اعمال رجال كثيرين في الحرب والسلم. وهذا ما عبّرت عنه الناقدة العراقية نسرين ابراهيم الشمري في مفال لها بعنوان (صورة المرأة في شعر يحي السماوي) بقولها : " نرى أن السماوي تعامل مع المرأة من خلال الدور الذي تشغله، إذ تجلّت لما حرّة طليقة، مشاركة للرجل في ساحات القتال، ثائرة لا ترضى الخنوع، ما يعني أنّها كانت تعود بفائدة نفعية للمجتمع، وبدت كذلك مربيّة ومؤسسة لجيل، تساهم في تكوين بنية المجتمع، وهذا ما يؤكد أنّ المرأة نصف المجتمع وهي عضو فعّال في تكوينه. "1.

يمكن إدراج هذه الرواية " زواج بالجبل " من حيث التكوين، ضمن سلسلة الروايات التاريخية العربيّة، كروايات جورجي زيدان، وروايات صبحي فحماوي، و غيرهما.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

.....................

هامش:

(1) مقال، صورة المرأة في شعر يحي السماوي، للأستاذة الناقدة نسرين ابراهيم الشمري – صحيفة المثقف / 23 تموز / يوليو 2023.

في المثقف اليوم