قراءات نقدية

حسين الساعدي: توظيف الرمز الأسطوري في نص الشاعرة اللبنانية سامية خليفة (كلُّنا سيزيف)

(إنني أخرج من العبث بثلاث نتائج

هي تمردي، حريتي وشغفي)

"ألبير كامو"

النص// (كلُّنا سيزيف)

كلُّنا سيزيفُ

رغمَ أنَّنا لم نكبِّل مثلَهُ، إلهَ موتٍ

لم نسعَ مثلَهُ، لحياةٍ أبديَّةٍ

نحن فقط، آثرنا الظلمةَ على النّورِ...

*

آثارُ الأقدام الملوّثة

بروثِ عهرِ التّسلّطِ والطُّغيانِ،

قادتنا في سرنمةٍ،

وعلى الظهور حمّلتنا

صخورَ التّبعيّةِ .

أطبقنا على البصائر

مع صخور نزاعات لا تنتهي...

تدحرجنا

والقاع سحيق..

*

كلنا سيزيف

تكدست أمامنا الهفوات،

كل هفوةٍ كانت أشبه بذرةِ طينٍ

تجمّعت الذّرّاتُ في صخورٍ ...

مع كل سيزيف

هناك مشهدٌ مختلفٌ يتكرَّرُ

هنا وهناك، تنتشرُ الصُّخورُ،

ويستمرُّ العقابُ.

*

هنا سيزيفُ تتمرَّدُ عليهِ صخرةُ الغربةِ،

يضجُّ في صدرهِ الحنينُ للوطنِ

يلاصقُ صخرتَهُ .

عقابُهُ أنَّهُ نسيَ يومًا وطنَهُ

هجره...

وهل يُنسى الوطنُ؟

*

هنا سيزيفُ آخرُ، يحملُ صخرةَ الفقرِ

وفي أحشاء بلاده، كنوز الخيراتِ.

عليك أن تسدد ديونك لإلهِ الجشعِ الذي لا يشبعُ...

لكنْ منْ صنعَ هذا الإلهَ؟

*

هنا سيزيف الممتلئُ أحلامًا ورديَّةً

باعَ أحلامَه بمئةِ دولارِ

في انتخاباتٍ وهميّةٍ!

من يمثِّلكَ يا حالمًا بالجنانِ

سيتركُكَ غارقًا في الأوهامِ.

كم عقابك عسير

في أوطانٍ ماتَ فيها الضَّميرُ!

يا حالمًا عقابُكَ الأبديُّ

حمل صخرةِ الأوهامِ،

ستموت جنونًا،

أو هذيانًا، أو قهرا.

سيّان....

قدْ فاتَ الأوانُ

من يبيع الوطن

تسلب منه الأحلام.

***

القراءة

تعتبر الأسطورة من أهم نتاجات حركة الحداثة، ومن أبرز مظاهر التجديد في الشعر العربي المعاصر ومصدر إلهام للكثير من الشعراء الحداثيين أمثال بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ونازك الملائكة وغيرهم، الذين وظفوا الرمز الأسطوري في نصوصهم فكان سمة مشتركة بين غالبية الشعراء الذين غرفوا من معينه صوراً فنية أغنت نصوصهم الشعرية وعمقتها فكرياً وجمالياً، لأجل أعطاء منحى تجريبياً في بناء نصوصهم الشعرية، وإثرائها بالدلالات وشحنها بالمعاني الرمزية وإضفاء عليها لمسة فنية وجمالية، حتى أصبحت سمة أسلوبية بارزة في الشعر العربي المعاصر، وأداة من أدواته التعبيرية والجمالية والفنية، فلا يكاد تخلو مجموعة شعرية من الإشارات الأسطورية، كنوع من المحسنات الإبداعية، ومصدر قوة للغة الشعرية، من خلال الصور الشعرية التي تميزها فنياً وجمالياً.

لقد أولت الفلسفة الحديثة اهتماماً بالأسطورة، فهناك تعالق بين الأسطورة والفلسفة، لأن الأسطورة بناء فلسفي وجدت من أجل أحداث مقاربة بين الواقع والخيال. وفي الفلسفة المعاصرة (تقرأ الأسطورة على وجهين، وجه عبثي، ووجه قيمي)، فجاء الأهتمام الفلسفي بالأساطير نتيجة طرح تساؤلات في صيغة إشكالات فلسفية. كذلك هناك تعالق بين الأسطورة والشعر، كلاهما يشكل خطاباً شعرياً على مستوى اللغة والدلالة، مما يجعل من الأسطورة تحظى بمكانة مهمة في الأدب والفلسفة.

لقد عدت الأسطورة فرع من فروع المعرفة يُعنى بدراسة الأساطير وتفسيرها، ووضع لها علم سمي علم الأساطير أو ما أصطلح عليه (ميثولوجيا)، وقد تعددت تعريفات الأسطورة كمصطلح، ومنها التعريف القائل بأن (الأسطورة هي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان)، "فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دراسات في الميثولوجيا والديانات الشرقية، ص14". حتى عدت الأسطورة من أحدث المناهج النقدية، فهي غنية بالقيم الجمالية والدلالية، وممثلة لتراث الحضارات القديمة، التي تحمل تجارب الشعوب ورؤيتهم للحياة، وتتمتع بقداسة في الثقافة التي أنتجتها تلك الحضارات.

لقد قدمت الأسطورة في الشعر العربي المعاصر الكثير من الرؤى والمعاني والدلالات النقدية. فهي بلا شك أن توظيفها في الشعر العربي المعاصر من أهم الآليات التعبيرية والجمالية التي اهتدى إليها الشاعر. وهذا التوظيف للأسطورة جاء تعبيراً عن الواقع، وإعادة قراءة التأريخ من منظور هذا الواقع، أضافة إلى أن (توظيف الشّاعر المعاصر للتّراث يضفي على عمله الإبداعي عراقة وأصالة)، "فريدة سويزف، توظيف التراث في شعر عبد الصبور".

استحضرت الشاعرة "سامية خليفة" أسطورة سيزيف، كثيمة محورية في النص، الذي يعد شخصية أسطورية، فهو أكثر الشخصيات الأسطورية مكراً في الميثولوجيا الإغريقية، وصفه الشاعر الإغريقي الأسطوري "هوميروس" بأنه أمكر أهل الأرض وأكثرهم لؤماً، يُقال عنه كان لئيماً شريراً متمرداً، عوقب لدهائه، وكانت عقوبته مثيرة للجنون، لأنه خدع إله الموت وكشف فضائح ونزوات كبير الآلهة "زيوس" فأغضبه وحكم عليه، فعقوبة أن يحمل صخرة ضخمة من أسفل الجبل إلى أعلى قمته، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، ليعود مرة أخرى يرفعها ويبدأ من جديد، ويظل هكذا إلى الأبد، فأصبح بذلك سيزيف رمزاً للعذاب الأبدي في الأساطير الإغريقية، حتى وصفت هذه العقوبة بأنها (عبثية وحيرة أبدية). يصف "ألبير كامو" هذه العقوبة : (ليس هناك عقاب أفظع من عمل متعب لا أمل فيه ولا طائل منه - فهو يجسد - الهراء والسخف واللا منطقية واللا عقلانية الحياة الإنسانية).

يعتبر العنوان من أهم عناصر النص، فهو يلخص المحتوى ويعطي فكرة عامة عما يتناوله النص. فشكل عنوان النص (كلُّنا سيزيف) عنواناً رمزياً مواكباً للنص وبوابة له. فهو العتبة النصية الأولى و(خلاصة دلالية لما يظنّ الشاعر أنَّه فحوى قصيدته أو الهاجس الذي تحوم حوله)، "عبد الله الغذامي، ثقافة الأسئلة، مقالات في النقد الادبي".

فجاء العنوان مشحوناً بدلالات تكثف المحتوى وتعمق فكرة النص ومضمونه. ومن هذا المنطلق يمكن أن نشخص وجود علاقة جدلية وترابط دلالي وثيق بين النص وعنوانه (كلُّنا سيزيف) بصفته بنية إشارية ونصاً موازياً، يمكن الولوج من خلاله إلى عوالم النص. والعنوان في نص الشاعرة "سامية خليفة" يوجه القارئ مباشرة إلى دلالة العنوان كجملة خطابية تتكرر مرتين، في أول النص وفي منتصفه، فتتعالق مع متن النص الشعري لغوياً ودلالياً. فكان أسلوب التكرار لجملة (كلُّنا سيزيف) مرتين، زيادة في كثافة المعنى وشد انتباه المتلقي إلى دلالاته الأسطورية. لقد أعطت الشاعرة "سامية خليفة" (سيزيف) موقعاً مميزاً في بناء النص وأغنت هذا الرمز، فصار أكثر تكثيفاً، وأكثر إيحاءً. فكان توظيف هذا الرمز، دلالة على عمق ثقافة وسعة اطلاع الشاعرة.

إن قراءة النص تجعلنا نبحث في أجابات لجملة من التساؤلات، نشرها "ألبير كامو" عام 1942 في مقالة له بعنوان (أسطورة سيزيف) ودلالاتها الرمزية والفلسفية، تساءل فيها (هل يمكن أن تحل بالإنسان حياة عبثية أكثر، من حياة عبثية كهذه؟ أوليست حيواتنا التي نحياها في هذا العالم تشبه إلى حد كبير هذا الشقاء الذي حُكم على سيزيف به؟). ونحن كذلك بدورنا نتساءل مع "ألبير كامو"، هل سيزيف وحده الذي يعاني من ذلك العذاب الأبدي؟ وهل سيزيف رمزاً للإنسان المقهور في كل زمان ومكان؟ وهل سيزيف وحده الذي يحمل صخرته دون غيره؟ وما الفرق بيننا وبين سيزيف؟.

النص الذي أمامنا يتشكل من (ست) مقاطع، استحضرت فيه الشاعرة "سامية خليفة" أسطورة سيزيف. تجوب في عوالم أسطورة "سيزيف" من اجل اكتساب دلالات جديدة، توصيل المعنى بشكل أعمق فنياً ودلالياً، وبعث الروح فيه من جديد.

(يقوم الرمز على مبدأ اكتشاف نوع من التشابه الجوهري بين شيئين اكتشافا ذاتياً)، "رماني ابراهيم، الرمز في الشعر العربي الحديث". و"سيزيف" في النص رمزاً لا خلاف حول أسطورته، أرادت الشاعرة أن تضفي على نصها بعداً أسطورياً فهي ترى في توظيف أسطورة سيزيف معادلاً موضوعياً لمعاناة الإنسان، فكـانت تبحث في المشتركات بين رمزية الأسطورة ومكونات الواقع واتجاهاته، فتضفي على الواقع سمة أسطورية حتى يبدو شبيهاً بالعالم الأسطوري.

يرصد النص وبأسلوب رمزي، الواقع ودلالاته وايحاءاته وفق رؤية فنية وجمالية ودلالية تكشف عن تناقضات هذا الواقع. فقد جسدت الشاعرة في النص الآلام الروحية والنفسية التي يكابدها الإنسان وما تحس به الذات من معاناة، وإثبات أن هذه المعاناة لا نهاية لها، فحال الإنسان في هذا الواقع كحال سيزيف وهو يحمل صخرته. لفظ (الصخرة) تكرر (ثمان مرات) في النص (صخور التبعية/صخرة الأوهام/صخرة الفقر/صخرة الغربة/صخور نزاعات)، فمثلت معاناة الانسان وثقل (التبعية/الأوهام/الفقر/الغربة/النزاعات).

سيزيف ظل يحاول أن يوصل الصخرة للقمة، مع أدراكه أن مهمته أبدية، إلا أنه استمر في المحاولة، رغم السقوط، فهو لا يكل ولا يمل من المحاولة. أما سيزيف (الإنسان المعاصر) يعاني من المعوقات التي تعيق وصوله الى الهدف، فهو يعاني من أعباء حمل (صخور التبعية)، وسيزيفُ آخر (تتمرَّدُ عليهِ صخرةُ الغربةِ/ يضجُّ في صدرهِ الحنينُ للوطنِ)، وآخر أطبقت عليه (صخور نزاعات لا تنتهي)، ثم (سيزيفُ آخرُ، يحملُ صخرةَ الفقرِ/ وفي أحشاء بلاده، كنوز الخيراتِ). و(سيزيف الممتلئُ أحلامًا ورديَّةً/باعَ أحلامَه بمئةِ دولارِ/ في انتخاباتٍ وهميّةٍ!)، وسيزيف أخر (حمل صخرةِ الأوهامِ) الذي سيموت (جنونًا، أو هذيانًا، أو قهرا).

فالصخرة لم يعد يحملها "سيزيف" وحده بل يحملها كما يقول الشاعر المصري "أمل دنقل"؛ (سيزيف لم تعد على أكتافه الصخرة، يحملها الذين يولدون في مخادع الرقيق)، فهو عنده رمزاً لإستعباد الإنسان وقهره. أما "ادونيس" في قصيدته (رسالة إلى سيزيف)، أقسم أن يحمل الصخرة كما حملها "سيزيف"؛

(أقسمتُ أن أحمل مع سيزيفْ

صخرتَه الصمّاءْ

أقسمتُ أن أظلّ مع سيزيفْ)

أعتمدت الشاعرة "سامية خليفة" تقنية التداخل بين مكونات النص، حين أفرغت تمظهرات الأسطورة وسكبتها في جميع أركان النص (سيزيف/إله موت/الصخرة/العقاب/تدحرج/ القاع)، لأنها رأت في أسطورة سيزيف مثلاً يحتذى به، في تشخيص الواقع، فاستطاعت أن تفجر دلالات النص التي استوحتها من الأسطورة.

حاولت الشاعرة "سامية خليفة" أن تجعل من الأسطورة أداة جمالية تخدم الـنص الشعري، وتساعد على إثراء‌ الدلالات لتعميق المعنى الشعري، لان البناء الفني للنص اعتمد البناء الأسطوري وفق رؤية الشاعرة وقدرتها على استيعاب الانزياحات الأسطورية واسقاطها على الواقع.

إن للنص صياغاته الجمالية والدلالية، من خلال الصور الشعرية واللغة الإيحائية، التي أعتمدت الخيال، وتوظف اللغة.

عند التدقيق في النص نلاحظ أن (سيزيف وصخرته) يشكلان نقطة ارتكاز في أحداث النص التي تتموضع في حيز واحد يتجلى في تساؤلات "ألبير كامو" الوجودية ربما يكون هذا التجلي تجسيداً حياً لعالم عبثي، فوضوي بلا جدوى ولا معنى، (إن العبث لا يأتي من كون العالم عبثي، بل في عدم خضوعه لمعايير العقل والعقلانية).

الشاعرة "سامية خليفة" لا تكتفي بسرد الأسطورة أو ذكر أسمها، بل تعيد قراءتها وفق معطيات وجودية معاصرة بمساعدة أدوات (التشبيه والأستعارة والکنایة).

إن تأثير النص يكمن في اللغة التي تثير القارئ الذي وجد نفسه أمام شحنة دلالية وإنفعالية من خلال تفكيك الأسطورة وتقديمها إليه، مع بساطة اللغة وعمقها وسهولة الوصول إلى مضامين النص، لتجسيد المأساة والإحساس بالتذمر والمرارة أمام ما يحدث من فوضى عارمة وإحباطات وانكسارات الواقع.

هناك توافق في الدلالة الرمزية والمعنى في محتوى النص مع ما ذهبت إليه اسطورة سيزيف، لقد استثمرت الشاعرة أسطورة سيزيف بحمولتها الدلالية، الشيء الذي ميز النص في مستواه الفني والجمالي، وعمق معانيه على المستوى الدلالي ومنحه قوة التأثير عند المتلقي. ألسنا في الوقت الحاضر (كلنا سيزيف)، فما أشبهنا بسيزيف!! وما اشبه همومنا بصخرة سيزيف، بكل ما تعنيه من عذابات رمزية. فنحن نحمل كل يوم صخرة ثقيلة إلى القمة، رغم علمنا أن مصير تلك الصخرة هو السقوط، التي تأبى الاستقرار في قمة الجبل.

تتكئ الشاعرة "سامية خليفة" في كتابة النص على قوة خيال الأسطورة في التشبيه والأستعارة، والتراكيب اللغوية في النص، والبحث في معاني الأسطورة ودلالاتها. لقد لامست في نصها ذات الشكل السردي الانزياح الأسطوري والإشارات الحسية المجازية لامست الواقع والإحساس بمأساة الإنسان، والتوغل في اعماق النفس، والأخذ بالقارئ إلى دلالات النص، لأن بطلها غارق في الحزن والبؤس.

يبقى النص غني بمادته الشعرية ذات الآفاق والإيحاءات المتعددة (النفسية والوجدانية)، وذات الرؤية الفنية التي تتناغم مع مكونات النص، وامتزاج الواقع مع الخيال، من أجل نقل المتلقي إلى عالم شعري غير مألوف في إطار رمزي تتكشف فيه صورة الإنسان المعاصر المقهور الذي يعاني حالة التمزق.

***

بقلم: حسين عجيل الساعدي

في المثقف اليوم