قراءات نقدية

نزار حنا الديراني: الأنوية الفاعلة في "النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان" لأمان السيد

الأنوية الفاعلة ودلالاتها في انعكاسات المرايا المتكسرة في مجموعة (النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان..)

منذ العتبة الأولى والتي هي عنوان لاحدى قصائد الشاعرة أمان السيد تجد نفسك أمام صورتين تجعلك في دوامة التساؤل وانت تفكر وتقول ما الذي يجمع بين النهر والافعوان الذي هو ذكر الأفعى وتنسبه لنفسها وهي الأنثى ... في إطار السياق النصي لهذه العتبة، تظهر طبيعة التعالق القائمة بينها وبين نصوص مجموعتها من جانب ومدى التعالق والترابط العضوي القائم بينها وبين مصير شعبها المجهول من جانب آخر  بحيث أصبح العنوان في هذه التجربة يشكل نواة بنية دلالية تدل على مضمون نصوصها . فعتبتها هي التي سترشد القارئ وتدلّه على ممارسات فعاليات النص الشعري والذي هو  بحد ذاته الداّل الكاشف، في توضيح دلالات النص، واستكشاف في معانيه، ومن ثم، فالعنوان هو المفتاح الضروري لسبر أغوار النص، والتعمق في شعابه التائهة، والسفر في دهاليزه الممتدة .3554 النهر انت يا حبيي امان السيد

تقول النهر أنت ياحبيبي ومن ثم تعود لتقول في قصيدتها (النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان):

ذلك النهر هو حبيبي تتريّى فروعُه،

وصدرُه، وعنقـُه بالشهوات والحكمة،

هو أنا

حين يكشف عن شَبقه الأزرق،

وجنون جسده الضاجّ بالغوايات

فقط كي ينعش الضباب،

هو أنا.

حين أستدعي العالم المثالي إلى بساتيني

لا أجد مكانا لي

إلا في أحلام البائسين.

من هنا يتبين مدى التصاق أناها بالآخر  وكأنهما وجهان لصورة واحدة لذا تقمطت أناها الأنا الكلية لتتحول نصوصها من الغنائية الأنوية الى النص المفتوح وتتمرد حتى على الشعرية لتقدم لنا نصاً يتقمط الحكاية والتساؤل وهو قادراً على التأويل الى حيث يصب نهرها ويتوقف أفعوانها عن الجريان . نصاً يجرف معه ما يتلقاه من صور مبعثرة صنعتها مخيلتها النشطة وتعكسها لها مراياها المهشمة وكما نهرها الهادر والمارّ بالنّفايات والطحالب والأوبئة يجرفها بالبراكين (كما تقول) هكذا هي نصوصها تفجر ما في دواخلنا كي تتمرد حتى على ذواتنا فتتكسر قيودها لتنطلق نحو فضاءً جميلاً ملؤه المحبة فتقول في نفس قصيدتها .

هل على خطو وقع العسكر:

حبلت القرى والمدن بعشق التمرد والحرية؟!

هل على وقع خطو العسكر:

رموش العيون صارت أحذية وأجسادا

ملقاة على المزابل،

وفي حُمّى الفراغات؟!

من العنوان نستكشف العلاقة بين أنا وأنت ومن خلال مرآتها المتكسرة والمتعددة السمات والصفات رسمت لنا مجموعة صور تجسد لنا انعكاسات أناها فيما يخص الوطن والبحث عن الذات الجريحة كما في قصيدتها (ومن الأبيض تندلع الحياة):

في مكان ما

قفز أطفال فوق الطفولة،

في سورية.

أيها الوطن:

كيف يداك تستطيعان

أن تغسلا وجهك كل صباح

وأبناؤك صاروا أوراق حَور في المسافات؟

فجاءت صورها الشعرية المبعثرة بكل ما فيها من رموز أنعكست فيها صورة الأنا في ذاتها لترى فيها الآخر الذي أصبح صوتا داخليا يجسد مدى معاناتها الى حد فقدت بريقها بسبب التهشم  فحملتها بدلالة القسوة وجعلتها صامتة.

تكشف الشاعرة في تكرار صورها في النص الواحد انشغالها بالعلاقة الجدلية بين الأنا (الأفعوان) والآخر (النهر) عبر بوح يكاد يكون متقطعا في إصغائها الى نداءات أناها، فحملت نصها معالجة نصوص عديدة تكاد تتقابل في خطوطها الصور، وتتفرع في وحدات نصية، تمثل معادلة التقابل والتضاد والتماثل والافتراق، اي ان بنية النص لدى الشاعرة أمان السيد يقوم على استنبات قطبين متنافرين وتشكل مستوياتهما الدلالية واقعاً مؤلماً ينفتح على صورة كلية هي الوطن وكما في قصيدتها (ويبحثون عن الخرافة):

وجدوا القمر مصلوبا

هناك في زواياه الأربع

الذئب يعوي

وفوق البحر تتكدس الجماجم

البحر يودع الجماجم

يكسوها بالخزف..

يحدق الأطفال بلا وجل

 في الجماجم يحدّقون

جماجم الأطفال ينبت فيها الجمان..

مراياها المتهشمة تعكس لنا مجموعة صور  هي بحد ذاتها أوجه للصورة الواحدة (القمر  مصلوبا ، الذئب يعوي ، البحر والجماجم ، الأطفال ، الجمان ، ...) إنها صورة شعبها وهو يغامر ويمتطي البحار الى حيث المجهول . فمن خلال أنويتها الفاعلة ومراياها المتهشمة تكشف لنا في نصوصها عن ما خزنته ذاكرتها الشعرية من تلك الصور التي يفوح منها الألم والأنكسار والحزن وهي تتأرجح في أعماق بؤرتها الشعرية والتي تحاول دوما التحرر من قيودها لتخرج وتعبر عن إرهاصات ذاتها الشاعرة في أقسى حالات الشعور والوجدان الشخصي وهي تنظر وتتحسر كي ترى صورة الحب لتكون الصورة المغايرة لما تراه الان من صور مآسي الحرب . وكما في  قصيدتها (لو أن هذا الحرف يسقط):

حبّ، حرب

حرفُ الراء سكين،

خنجر،

شهقة مِقصلة.

لو أن هذا الحرف يسقط

لعادت الشرفاتُ تسكب الياسمين.

ولكن كيف لهذا الحرف أن يسقط ويتحول الى حب إن كانت الآشباح تلاحقها من كل صوب ليتقاسمان ما بقي من ظل وطنها:

يناديكَ شبح

تُصبحان اثنين بينكما ظلّ امرأة تتقاسمانِه.

الغُرف كأسرار الجريمة،

ووحدكَ المتكاثرُ،

الطازجُ كأعشاب الخريف.

القلق الذي ينتابها من انعكاسات مراياها المتهشمة لمشاهد صور الأغتراب والأندثار للوجود تتكشف في نصوصها من خلال تقمط نهرها وأفعوانها لماهية الأحساس الوجودي الذي تسعى لتوظيف فعالياته داخل حركة نصوصها وعلى كافة المستويات الدلالية والجمالية .

من خلال الغوص في نصوص مجموعتها هذه تراءت لي تدفق صورها الشعرية على شكل الامواج التي تعلوا عل ظهر نهرها في عنفوانه الشتائي أو تموجات حركة أفعوانها وهي تتسارع لتلتقي أناها بالآخر مُشَكلة لنا عنصراً مهماً من عناصر توليد الشعرية وتكثيف الأيحاء والشعور عبر دفق إيقاعي ينسجم والبعد النفسي والوجداني للذات الشاعرة مما يدفعها دوما أن تتقيئ صورها لما في داخلها من إحساسات نصوص تحمل ما في باطنها من شحنات انفعالية لتكون ترجماناً أميناً عما تحسه، وتتأمله، وتشعر به، تجاه مدينتها اللاذقية والتي هي صورة مصغرها لوطنها ، ومن هذا المنطلق، فإن للكلمة، أو الجملة الشعرية ناموسها الخاص وكما تقول في قصيدتها (اللاذقيّــــــة):

المدينة الآن ترتع بالدخان.

 نسوة شفافـــات في تلك المدينة المحاصرة بالدخان

كالكريستـالِ شفافـات،

يشبهن المراكب الشراعية، في النهر يسبحن

ويسرن عاريات يتفرسن في حزن.

إن تجربتها السردية  منحتها بداهة الحركة الشعرية وصيرورتها، إذ أن نموذج النص المفتوح فرض مآثره على امتداد صورها الشعرية ففرز لنا سياقاً جمالياً متكاملاً

استلهمت الاديبة أمان السيد معطيات كلا منهما في الصورة والمشهد واللقطات

السردية، فنجم عنها مزيج تشعيري مدهش في النماذج النثرية .

فقصائدها تقمطت الغنائية الكلية مما جعلت أناها تتقمط الأنا الكلية لتتجه نحو محاكات الاخر بصورة مباشرة بعيداً عن التوظيفات المعقدة لتقدم الى القارئ صورا جميلة سهلة الهضم تدغدغ مشاعرنا .. نصوص مفتوحة تسير الى حيث يسير النهر والافعوان تلبس المكان والزمان الذي تعانقه وكما في قصيدتها (سنجري حديثا مطولا):

أعرف أنّ كلينا

يدعو الآخر إلى التأمل.

أعطني ذكورا

أعطني قدمين

أُعطكَ بحرًا من السخرية والجنون.

وفي مكان آخر تقول:

سنجري حديثا مطولا

أعطني موجا،

أعطك الأراجيح

أعطني الغضب،

ألقنك دروسا في الحب والرحمة.

أعطني اليقظة،

أعطك عينين أوسعَ من شطآنك.

أعطني الحكمة،

أمنحك جسدا أشهى

من شعابك المـرجانية.

حاولت من خلال نصوصها النفاذ إلى ما هو باطني وجوهري في الوجود والحياة؛ لذا وظفت إمكانياتها الشعرية والسردية لاقتحام الحدث ومناوشته بقوة من خلال تعريته ، ومن أجل ذلك اسنخدمت التعدد في صورها والتجاوز في مدلولاتها مما دفع نصها أن يتقمط الصيرورة وهو في طريقه للبحث عن إمكانات إيقاعاتها كي تنسجم مع الموقف الوجداني الذي تعيشه كما تقول في قصيدتها (من الذي يقرع نافذتي):

في هذا الليل البعيد:

ندف، أم مطر يقرع نافذتي

لا فرق،

الاثنان معا صديقان

يؤنسان غربتي

نصوصها تجمع الخيال والحقيقة في إطار يتحدى القواعد الثابتة من اجل تقديم تشكيلة من المشاهد تعبر عن معاناتها وحلمها . تحاول في نصوصها الكشف عن الجوانب الغامضة للحواس مما يراه في الاخر من خلال تصويرها للجوانب اللاواعية والأحلام والرغبات المكبوتة في دواخلنا نحن الذين أجبرنا على ترك أوطاننا والركوب جدائل موجات البحر والتي صارت سمة مميزة في حياتنا،.كما تقول في قصيدتها (نزيف الغابـــــــات):

هنا حيث الغابات أكثر كثافة من سواد الليل

هنا حيث المنفيون

يكثرون من المجيء أعدادا هائلة.

من علّم الحروب في هذا العصر

أنّ هذي الغابات قد كانت منافي

من قبل للمسجونين وللمنبوذين

وأنّ المدن المفتوحة

يفرح بها المنتصرون

وترقص قلوبهم

في نزيف أصحابها

وفي الختام أقول:

لقد أبدعت الشاعرة أمان السيد في تقديم نصوص جميلة عابرة للقارات مثل الصواريخ كونها أفعال حدسية تعكس نظرتها إلى العالم وهي تقف على مرتفَع وإلى جوارها مشاهد لبعض الفارين وهم يعانون من وجع مبرّح في أناهم المهشمة وهم يصرخون كلٌّ منهم في الآخر. لقد أبدعت في مزج مكونات الواقع المتنافرة في نصوصها، وهكذا لا يعود الفردوس والجحيم مكانين منفصلين في نصها الواحد بل المكان الواحد ذاته وكما الحال في الانا والاخر وحيث يمعن الأفعوان والنهر كلٌّ في عيني الآخر بينما تحترق مدنها أو تغرق السفن التي تحمل ابناء شعبها الفارين في عرض البحر. أليس هذا هو العالم الذي نعيش فيه؟ ننهض في الصباح والطيور تشدو والشمس تشرق لكي نشاهد في التلفاز مدنا تزول عن بكر أبيها بسبب تعطشنا للكرسي والمال .

ولا بد لي أن أتساءل:

هل كان النهر صورة مصغرة في تدوين رحلة العذاب والألم لشعبها وهم يرحلون حتى دون وداع الأمهات وبلا توقف قاصدين أرجاء المعمورة عساهم أن يسقوا الأراضي المزروعة في تلك البلدان في حين كان أفعوانها متقمطا الحكومات وحراس الحدود الذين يعملون جاهدين للدغ شعبها المتشرد كي يتوقف عن العطاء؟ تساؤل مشروع يسأله القارئ .

***

نزار حنا الديراني

 

في المثقف اليوم