قراءات نقدية

صالح الطائي: وجيهة السطل شاعرة متعددة الجهات

تنماز الحركة الشعرية النسوية المعاصرة بوفرة وغزارة في الإنتاج، وتنوع في الأغراض والموضوعات وتفاوت في الجزالة واللفظ، وقد خلقت هذه الكثرة نوعا من التنافس بين جماعات نون النسوة، تنافس نجح في بعض زواياه في تحريك راسب الطين في عموم حركة الشعر النسوية التاريخية، فنشطها وأعطاها زخما حركيا نافعا، وتسبب بعض منها في تأجيج خصومات وخلق عداوات بينهن، ولاسيما منهن اللواتي لم ينجحن في تخطي الخط الأخضر؛ الذي لا تصبح المرأة شاعرة إلا إذا اجتازته بلا عون من أحد، فتلك النسوة بقين محتفظات بمستوى واحد يقبل النزول ويأبى الصعود، ولكنهن لم يعترفن بالهزيمة، ولاسيما بعد أن فتحت شبكة الانترنيت لهن أبوابها، وفسحت المجال لهن كلهن لينطلقن في كل الاتجاهات دونما رقيب، وينشرن نتاجهن دونما تقييم أو تقويم. وإن كان لشبكة الانترنيت من حسنة تذكر فهي السماح لهن للاطلاع على نتاج بعضهن ولكنها لم تعلم الكثير منهن على فضيلة أن على المرء أن يعرف مقدار نفسه، مثلما سمحت لنا الشبكة الاطلاع على مجمل النتاج النسوي ومتابعته من واقع حيادي لا انحراف فيه.

الشيء الذي أعجبني في ساحة المنافسة التي يخضن نزالاتهن فيها أن بعضهن تصدرن السباق بشعر غاية في الروعة والجمال، واختيار المفردات، ونسق الصياغة، وجزالة الفكرة، ونمط التوصيف وتعدد الأغراض، والعمل المثقف، وبعضهن قصرن عن اللحاق بالركب، فبقين يراوحن في مكان قصي اخترنه ملاذا، وكأنهن يرفضن تطوير أنفسهم، أو لا يملكن عوامل قدرة التطوير التي تدفع بهن للأمام ولو بضع خطوات.

وكانت الشاعرة الدكتورة وجيهة السطل واحدة من اللواتي أجدن وابدعن، وحققن تقدما لا يجارى، ولهذا أسبابه، فهو ربما كان بسبب تخصصها العلمي، فهي تحمل درجة الدكتوراه في علوم اللغة العربية من جامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٦، وربما بسبب النشأة والمعاناة التي تعرضت لها، فهي فلسطينية الأصل من يافا، نشأت وترعرع، ودرست وتعلمت في سورية، وتحمل الجنسية المصرية. فتنوع جغرافية النشأة والمؤثر المجتمعي يزود المرء عادة بدفقات من مواريث مختلفة لكل منها خصوصيته ومواطن جذبه.

غير هذا أعلل تقدمها ربما لأنها باحثة علمية نجحت في إصدار مجموعة مؤلفات تخصصية مثل: كتاب جسم الإنسان في معاجم المعاني. وكتاب مدخل إلى اللغة العربية - منهج ميسر؛ دروس في النحو والصرف مع تدريباتها وحلولها. وربما بسبب كونها محققة سبق وأن حققت كتاب الملمَّع للحسين بن علي النمري، وغير هذا وذات إصدارها في وقت مبكر ديوان حديث العشق. وربما اجتمعت كل هذه الخصال لتعطي شعرها دفقات الروعة والعذوبة والفصاحة والجمال.

وآخر شعر اطلعت عليه من نتاجها المعرفي قصيدة "ما لا يُحتوى ببيان"، التي كتبتها في نهاية شهر آذار من عام 2023، ثم قامت بتعديلها في العشرين من شهر تموز من العام نفسه.

ما لا يُحتوى ببيان قصيدة اقتبست الشاعرة فكرتها من كتاب السيرة النبوية لابن هشام، وهي تحكي مواقف ومقاطع من سيرة سيدنا النبي الأكرم ﷺ شعرا؛ ابتداء من اللحظة التي كفله فيها عمه أبو طالب:

الله كرّمه وفي القرآن

خصَّ اليتيمَ، بعطفه الربّاني

*

آوى اليتيمَ إلى حماهُ فأثمرت

سنواتُ عمرٍ فاحَ كالريحان

وبعيدا عن التسلسل الروائي يمكن للحصيف أن يشخص فرادة منهجها البنائي منذ صدر البيت الأول من القصيدة، فهي تتأرجح على الفكرة وتراهن على بساطة الكلمات لتوصل معنى متفردا في عليائه، نافرا مرة وطيعا مرة أخرى، وكأنها تريد الإشارة إلى أسس البساطة المدعومة بالقوة المؤمنة المثقفة التي سينشرها الوليد المقدس الجديد في الكون، لتحل بدلا عن التعقيد الذي أنهك إنسانية الإنسان في مجتمعات طبقية يتحكم فيها الاستبداد والأسياد برقاب الأغلبية المسحوقة.

لم تكن الدكتورة الشاعرة موفقة في اختيار بداية القصيدة فحسب، إذ سارت بعد تلك البداية الموفقة الواعدة مع نمو وتجلي هذا النور السامق والوعد الشارق خطوة خطوة، فوصفت طفولته واشتغاله في رعي الغنم في بادية بني سعد، وعرجت على فتوته واشتغاله مرة أخرى في رعي الغنم بأجياد في مكة:

كبُر اليتيمُ، وصارَ أجملَ يافعٍ

ولَذكرهُ نغمٌ معَ الخلّان

*

راعٍ يقدِّمُ للرعاةِ دروسَه

ولكلّ نبعٍ في الفصاحةِ داني

*

وقريشُ كانت بالقلوبِ تحوطُه

والأهلُ منه على المدى بأمان

فالرعي لا يتيح مددا للتأمل فحسب نتيجة الخلوة، بل ويتيح تعلم وممارسة القيادة، والقيادة فن وممارسة وتطبيق وتطوير، ومن ينجح في تدجين حيوان أبكم لابد وأن ينجح أكثر في محاولته بناء إنسان جديد من عدم الإنسانية البالية التي أنهكها الجور.

وفق المنهج التسلسلي ذاته انتقلت بعد تلك الشروح لتتحدث عن تجربة اشتغاله ﷺ بالتجارة، في إشارة إلى ذهابه مع عمه أبي طالب إلى الشام ولقائه بالراهب بحيرا الذي توسم فيه دلائل النبوة:

ثم ارتقى   لتجارةٍ معَ قومِه

وإلى الشآم مضى مع الرُّكبان

والتجارة هي الأخرى تجربة حياتية تنماز بكونها فن وخبرة وأسلوب تعامل ومقدرة على التمييز وانتقاء الأكثر نفعا وعدم الاستهانة حتى ببسيطات الأمور، وهي كلها عوامل تربوية ونشأوية كانت ممهدات تطورية أسهمت في بناء شخصية القائد المؤمل الموعود الذي تنتظره البشرية ليعيد لها ثقتها بإنسانيتها.

بعدها اقتبست قصة زواجه من الوجيهة القرشية أمنا الطيبة السيدة خديجة بنت خويلد، وهو زواج خارج سياقات المنطق مثلما وصفته الروايات التاريخية التي تحدثت عن فارق كبير في السن بينهما، مما دفع آخرين لنقي تلك الأخبار وإبطال تلك الروايات، وكلاهما لم ينتبه إلى أن هذا الزواج أصلا كان بأمر إلهي ولم يخضع لأي مقاييس، وفيه إشارة إلى رؤية الإسلام الذي ينتظر الولادة على يديه المباركتين، بالمرأة كعنصر بناء لا يقل دورها وتأثيرها عن الرجل وهي تزاحمه منزلة، فقالت:

سمعَتْ به ورأتهْ بنتُ خويلدٍ

عشقتْ أمانته، وحُسنَ تفاني

*

ولطيبِ سيرتِهِ أصاخت وارتوتْ

ممّا   رَوَوْا عنه من استحسان

بعد هذا الوصف التفصيلي، انتقلت الدكتورة وجيهة إلى مرحلة النأي عن الناس والخلوة بالروح والقلب لاستحضار حقيقة الوجود البهي الذي يشرق في أرجائه نور الله الباهر، انتقلت لتتحدث عن مرحلة الاعتكاف في غار حراء، فأبدعت في وصف دقائقها وأجزلت البوح:

هذا حِراءٌ سوف يسمعُ وحيَه

ليتيهَ   غارٌ   فوق   كلِّ مكان

*

ويظلّ   مُعتكِفًا    سنينَ   مفكّرًا

وعطورُ   ذاك الفكرِ في الوُجدان

ولأن النور أشرق في الغار، ومن الغار كانت البداية، انتقلت الشاعرة لتتحدث عن نزول الوحي الأول بكل ما تمثله تلك اللحظة التاريخية من وجل يخلع الألباب:

ناداه    جبريلٌ   وردّدَ آمرًا

(اِقرأ) محمّدُ!  يا لَرعبِ جَنانِ

*

لا!  لست ممن يقرؤونَ ولم تكن

خطَّتْ يمينيَ أحرفًا بمعاني

*

(اِقرأ) وباسم الله سوف تقولُها

ربِّ الجميعِ معلِّمِ   الإنسان

ولأن كتب السيرة كانت قد أشارت إلى أن النبي بعد أن حُمِّل الرسالة أصابه الرعب فنزل من حراء ولجأ إلى زوجته الأمينة يقص عليها ما حصل، وهو ما وصفته الشاعرة بقولها:

فمضى وخبَّأ خوفَه في حجرِها

فجَرَتْ إليه    ودثّرَتْ    بحنان

مع أن هناك من يرى أن التصديق بتلك الروايات يُعدُ من الأمور التي تخالف المنطق والعقل، إذ يستحيل أن يصاب من كان ينتظر الوحي بلهفة وشوق بكل ذلك الهلع، وهو الذي اعتزل الناس كلهم ولجأ إلى "حِراء" يتأمل ويتعبد وينتظر اللقاء.!

إجادتها وجميل نظمها واستيعابها للروايات التاريخية خلق عندها نوعا من السمو العرفاني شعرت معه بنوع من التقصير، يشعر به كل من يتطوع لمدح رسول الله، فالنبي كيان إلهي يختلف عن كل الكيانات، نعم هو القائل: " إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" ولكن ولادات نساء كل الدنيا لا ترقى لأن تكون في مصاف تلك الولادة العظمى التي أنار لها الكون، ولذا قالت وكأنها تطلب السماح، فهي لم تطلب أكثر من رشفة كوثرٍ من كفه الكريم، وطمأنينة عظمى بأن الشفاعة تشمل الطيبين:

مهما تبارَى المادحون بمدحِه

فهو المُفدَّى والعظيمُ الشان

*

وبذكره تصفو النفوسُ وترتقي

فالنورُ في الأرواحِ والأبدان

*

يا مؤمنًا صلّى عليه   مُسلِّمًا

وتلا الشهادةَ عند كلّ أذانِ

*

ستنالُ رشفة كوثرٍ من كفّهِ

وتفوزُ بعد شفاعةٍ بجِنان

ولتعليل هذا القصور المتخيل، قالت وكأنها تعتذر عن قصورها في بلوغ المعنى:

يا سيِّدي يامَنْ بذكرِك أحتمي

وألوذُ مرتجيًا رضا الرحمن

*

يا أيها المبعوث فينا رحمةً

ألهمتني فعزفْتُ ما أشجاني

*

فالحرفُ في قلبي يضيء جوارحي

وهواك في روحي يصونُ كياني

وإيغالا في الاعتذار سعت الشاعرة وراء تبيان سبب كتابتها لهذه القصيدة، فقالت:

قد قلتُ ما أمْلتْ عليّ مشاعري

وسكبتُه فيضًا بلا كتمان

*

ورسمتُه مثلَ الضياء قصيدةً

في مدح أحمدَ سيد الأكوان

وفي التفاتة نادرا ما تحدث الفقهاء عنها، ولاسيما بعد أن شذت بعض الفرق واعتبرت مرتكبها مشركا، وأقصد بها موضوعة "التوسل بالنبي"، إذا اختلف الفقهاء بين من قال: إن التوسل جائز إجماعا، ولم ينكره أحد لا من السلف ولا من الخلف، ومن ذهب إلى أن التوسل لا يجوز إطلاقا، ونهوا عنه، وقالوا: لا يسأل بمخلوق، رغم هذا النشاط التضادي بدا وكأن الشاعرة أرادت التمرد على الثقافة الاقصائية الخالية من الروح وجهرت بعالي الصوت متوسلة برسول الله، فقالت:

ربّاه قد أكرمتَنا بمحمّدٍ

برسالة الإسلامِ والإيمان

*

أسبِغْ إلهي مِنْ نعيمِك راحة

وامنح عبادك نعمة الغفران

*

واقبل عبادًا تائبين لربهم

وأعتق رقابهم من النيران

*

وارحمْ إلهي في الثرى شهداءَنا

وانصرْ بحقِّ نبيٍنا العدنان

وفق هذه الصياغة بدت القصيدة في بعض جوانبها تقريرية تعليمية أكثر منها وجدانية، وفي جوانب أخرى مغرقة بالوجدانية والروحانية، فجمعت بين نقيضين بشكل محبب مع اعتناء في البناء والإخراج، أما موضوعها المحبب فقد جعلها مقربة للنفوس وأعطاها مقبولية أدبية واجتماعية، فبدت وكأنها أنشودة ينشدها أطفال في غسق ربيعي.

***

الدكتور صالح الطائي

في المثقف اليوم