قراءات نقدية

أناهيد الركابي: شجرةُ بيروت حكايةُ شجرةٍ تحتضنُ الوجود

(مقاربةٌ نسقيةٌ ثقافيةٌ في شعرِ سعد ياسين يوسُف)

سعد ياسين يوسف شاعرٌ عراقيٌ مبدعٌ وأكاديميٌ مقتدر، يعيش الكتابة الشعرية كونها ملاذاً وأكسير حياة، اكتشف ثمرة شعره الناضجة في شجرة روحه اليانعة بالإبداع منذ منتصف السبعينات، حتى أضحى شعره فردوسه الذي يظلله وعالمه الخاص به، فأضحت الشجرة تيمة من تيمات شعره في مجاميعهِ ودواوينهِ، عبر في شعرهِ عن مشاكل الإنسان ومآسيه في هذا الوجود، وقد لفت انتباهي في مجموع شعرهِ عتباته النصية التي عالجت مشاكل الإنسان مع الزمان واستشرافه المضيء لحياتنا القاتمة، عندما نقرأ شعره ما أن نبدأ به حتى يأخذنا لعوالم مختلفة لا تنتهي إلا بإيعاز شديدٍ منا. ومن خلال قراءتي لقصيدة شجرة بيروت والتي نشرها في مجموعته الشعرية شجر الأنبياء في تموز /٢٠٠٦، وظف الشاعر في هذه القصيدة (بيروت)حتى غدت صورة مصغرة عن (لبنان) بل واقعاً عن لبنان بل لبنان نفسه بل لبنان في حضوره وشخصه وذاته، وقد حاولت في هذه القصيدة أن استشفَ حركية الأنساق المضمرة، وتعالقها مع الأنساق الظاهرة في الخطاب الشعري، لأنهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، ولا يمكن أن ينفصل أحدها عن الآخر .

يستهل الشاعر قصيدته الموسومة ب (شجرة بيروت)استهلالا مكانياً محدداً (بيروت):

بيروت

روح البحر

قلادته الملأى بجواهره

الزرقاء

بحكايا الحوريات

على رمل شواطئه

شهوته الحرى .. لحياة

لا تشبه أي حياة

 تحيل هذه العتبة الاستهلالية المتلقي إلى أنساق نصية مضمرة،تكمن في نفسه الشاعرة لتجسيد غربته النفسية، خلال التيمة المكانية المشخصة في تعالق تشبيهي استعاري مكثف، حيث تتوالد الصور الاستعارية التشخيصية من التشبيه الكلي أو التمثيلي، وهو من خلال تلك التشبيهات يكشف النقاب عن الهوية المتفردة بكيانها وصورتها الفكرية، التي تحقق تمثلاته الثقافية إذ إِنٌ الحزن والوجع واحد في بلاد الرافدين، من خلال إبراز تلك المهيمنات الثقافية بأنساقها اللفظية الظاهرة، والتي تُضمر للدلالة عن رفض شعوري وسياسي لأي سلطة واعتداء صهيوني لهذه المدينة التي وسمها بروح البحر، تتضمن القصيدة العديد من الإشارات والإيماءات التي تتكشف مدلولاتها من خلال التوليد التصويري في تشبيهات وتعالق استعاري مكثف، لتصوير مواجهة بيروت في معركتها الشرسة مع الاعتداء الصهويني بصفاتها وعروبتها الشامخة. فكان الشاعر حاذقاً في اختياره للفضاء المائي في تجسيد تلك التجربة الشعرية، لما يمتلكه ذلك المهيمن الفضائي المائي (البحر) من كوامن وأنساق ثقافية مضمرة، تجسد تلك العوالم البيروتية القاهرة للعدو بعطائها الشبيه بالبحر. وقد اختار الشاعر المشبه به العقلي (روح البحر) ليحيل المخيلة المتلقية إلى عوالم من العطاء الذي لاينضب للمشبه (بيروت)، ثم تتوالى الصور التمثيلية التشبيهية الحسية فيشبهها بقلادة البحر في تعالق استعاري مكثف، حيث الجواهر الزرقاء ومايحيل إليها هذا الرمز اللوني إلى الصفاء، والعطاء المشترك .بين لون السماء، ولون البحر، وماينضوي عليه من دلالات الصفاء والعطاء، ثم تتوالى التيمات البحرية في توالٍ منسقٍ يستكشف عن مضمرات تخيلية مرتبطة بعالم الأسطورة، والطفولة، والحكايات الشعبية، عن الحوريات، وعروس البحر، في تجسيد لواقع بيروتي قبل الاعتداء مسترجعاً ذلك الواقع الصافي غير الملوث، من خلال تلك التيمات التي تعكس تلك الإيجابية الواقعية المعيشة، فالحياة ليست كأي حياة في ذلك الفضاء الرائع برونقه.

صخب الموج،

 هدير الريح،

نسمات ترقص غنجا

بليالي الصيف تهب

" من أطراف الوادي "

 يجئ صقيع الخبث

تستيقظ شهوةُ موت

الغرباء

كعادتها تقطرُ

موتاً وقذائف

 فيمزق شجر الأرز حبال الثلج

يمد غصونا بردا

 غارا

يا "سيدة نجاة" الجبل،

البحر

هاتي من كفيك زيتا

امسح وجع الجبل

البحر

ويقول أيضاً :

أنيرُ مرافئه الثكلى

وأهلة عشق مآذنه

الذهبية

أُسكتُ صفارات الإنذار

امسح قلب الأطفال،

 بهدأة عينيكِ

 بهدأة عينيكِ

وافتح أبواب الجبل

سلاما طلتك

سلاما همسات الروشة

كل مساء

صباحك يا"صنين "

أغاني الخبز الطالع من أفرانك

عند الفجر الأشهى

من شفتي الشاطئ

عند غروب الشمس

عند نزول الشمس

على شرفات الحمراء

فوق بيوت الضيعة،

في المتن

حيث الريحاني يغني

أخر أغنية للعشق

يشتعل القرميد

يميد الحبق المنثور

بممرات بيوت القرويين

بكهوف جعيتا

حيت أساطير ملوك

 وممالك تصعد تنزل

حفلات من رقص رخام

تتوالى الصور السمعية بدلالاتها الرمزية في هذه النصوص التي تجسد عطاء الطبيعة في مضمر خفي، إلى عطاء المدينة وواقعها قبل الاعتداء الصهيوني، ثم نسمات الصيف الراقصة غنجاً ودلالا في صورة استعارية تخييلية إبداعية، ثم يأتي الواقع المفروض بسلطة الاعتداءوالتدمير، فيوظف الشاعر صور الطبيعة القاسية، لتحيل وبذاكرة جغرافية ثقافية إلى تلك السلطة القاسية التي تصورها بالصقيع الخبيث، وبشهوة الموت في رؤية تجسيمية استعارية دالة،فينقلب الهدوء والطبيعة الرائعة إلى أجواء صقيعية، وموت، وقذائف،وصفارات إنذار، فتصبح المرافئ ثكلى لتلك الذكريات المورقة، ثم يستطرد الشاعر ثانية إلى ماضي بيروت في ذاكرة تجسد الهوية البيروتية، في تيمات تصويرية تحيل بأنساق مضمرة إلى ذلك الماضي البيروتي المورق قبل الصقيع والثكل والاعتداء الصهيوني، حيث شرفات الحمراء، وبيوت الضيعة، ونزول الشمس عليها وغروبها، وأغاني الريحاني، ويمتد ذلك الاسترجاع بعمق ثقافي إلى تأريخ بيروت حيث أساطير الملوك، والعصر الباروكي، وخيول وفرسان، وغجر، لتبقى بتأريخها شامخة في إبداعها:

العصر الباروكي

تصدح موسيقاها

شُرَفٌ مشرعةٌ

 وجميلاتٌ يتقنَ التلويحَ

خيولٌ، فرسان،غجرٌ

ألقى البحرُ عليهم

سحره، جمدوا

علَّ السحر يذوب، يفلُ،

تولد مدنٌ أخرى .

تتوالى في هذا النص التكرارات اللفظية لبعض التيمات الدالة كـ(الشمس، البحر، الجبل، سلاماً، المساء) المترجمة لذلك الاغتراب النفسي عن كل شيء، وقد تجلت الرؤية الشعرية للشاعر المتمخضة من الحالة الوجدانية، من خلال الاستهلال المكاني (بيروت)في سياقات تصويرية مجازية متعددة، تحقق تلك الرؤية لواقعين معيشين ماض مورق، وحاضر أليم، ثم تزداد الشحنات الانفعالية لتبلغ قمتها في تكرار عناصر الطبيعة بصورها الإيجابية والسلبية، لتجسد الواقعية المكونة لرؤية زمكانيةمجازيةمتفردة، تعكس مشاعر الحزن والأنين الثكلى لتلك المدينة الضائعة، ثم يختم تلك الصور النصية المتراكمة في تراكم تأريخي، يعكس تأريخ عريق وتراثي لبيروت الحبيبة، إذ إِنّ هذه الصور جسدت ذلك الغياب الحاضر الموجع، من خلال تقابل الثنائيات (الحضور، والغياب) حيث الوجه الغائب الحاضر المبعثر في ضباب الغياب، في حين لاشيء يظهر إلا ذلك الواقع الأليم، حيث يتماهى الغائب الماضي المورق، ويتجلى ذلك الإبداع التصويري التوليدي من خلال الاسترجاع الزمني،مسترجعاً ومستذكراً الأزمنة الماضية المورقة الشاخصة في قلبه، فضلا عن ذلك لايخفى ما للفونيم الصوتي للحروف المجهورة كالراء، والسين، والحاء من شحنات صوتية جسدت الطاقة التكرارية للراء المتكررة، حيث الوجع المتكرر النفسي للأنا التائهة المبعثرة في متاهات الآخر (بيروت)، ذلك الوجع المتمخض عن تجربته الوجدانية الموجعة، من الثنائية الضدية الماثلة بالدمع الكثير والأمل القليل في علاقات لغوية ولغة شعرية، تحيل إلى تراكمات نسقية ثقافية لتحقق ذلك الفقد والوجع الجمعي، فيغدو ظلام بني صهيون مغلفاً بالكوابيس الطبيعية حيث الصقيع والريح المقتلعة وصفارات الإنذار. فيوظف الشاعر عناصر الطبيعة لتكون معادلا موضوعياً في تجسيد الماضي والحاضر البيروتي، والذي يفضي إلى التردد والتكرار المنسجم مع دلالة التكرار المشهدي، لذلك الحزن والثكل والذكريات بمشهدياتها المختلفة، والطيف المنشود بالتحرر من الظلم والقمع، فضلا عن الواو العاطفة التي تكررت في النص، والتي حققت التواصل المشهدي النصي . إذ إِنّ ذلك الامتزاج والتراسل الحسي بين عناصر الطبيعة المختلفة والفضاء المكاني (بيروت)، يشكل رمزاً فاعلا وحياً لوحدة الحواس المنهمكة بالدال (بيروت)، وذلك ما ينسجم والدلالة النصية. وتتراكم الصور التجسيدية لتكون الذكريات الماضية ملاذاً مؤاسياً في تراصف وتجاور لفظي، حيث صورة ذبول الأمل، والفراغ الآهل بالحسرات، فتنبثق الصورة المائية لتشكل إيحاء رمزياّ فاعلا،في الدعاء بالسقيا والانبعاث لبيروت الضائعة، فتلك السقيا بدلالاتها ما هي إلا رمزاً ومعادلا للدعاء بالخلاص من الظلم والقمع.

وأخيراً أقول تشي نصوص سعد ياسين الشعرية بالقدرة على توليد الصور المبهرةوالمدهشة وغوص بالمعنى، يجعلنا نحلقُ بفضاءات المدى الوجداني والروحي، مع إيقاعات داخلية مموسقة في نسق النص، لأنه رهين لحظته الشعرية .

ملاحظة: شجرة بيروت قصيدة نشرها الشاعر في مجموعته الشعرية شجر الأنبياء، ص ١١٠ والصادرة عن دار الينابيع للتوزيع والنشر، دمشق -٢٠١٢ وقد كتبها إبان الاعتداء الصهيوني الآثم على جنوب لبنان في تموز عام ٢٠٠٦.

***

أ. د. أناهيد الركابي

الجامعة المستنصرية

في المثقف اليوم