قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: قطوف الشعر.. الشعرُ بوصفه ذاتاً ومصيراً

قراءة رمزية هيرمينوطيقية في مرايا فرحان الخطيب
مقدمة تأويلية: في "قطوف الشعر" لا نقرأ قصيدة فحسب، بل نصّاً يتناوب فيه الشاعر على التماس الجمالي مع المطلق، ويتخذ من الشعر ملاذاً للذات، ومرآةً كونية للوعي. القصيدة ليست مجرد تأمُّل شعري في فعل الكتابة، بل تشييدٌ رمزي للذات عبر اللغة، وانبثاقٌ وجودي للكينونة في لحظاتها الأكثر هشاشة وأناقة. يتكئ الشاعر على إيقاع داخليّ رقيق، ويعبر بين رموز الحلم، والأنوثة، والطفولة، والموت، ليجعل من الشعر طريقًا نحو المطلق، ونحو الخلاص الإبداعي من شقاء الحياة.
البنية الأسلوبية – الشعر كذات ناطقة
يبتدئ النص ببيت افتتاحي يضع الذات الشاعرة في مركز الكون يقول الشاعر فرحان الخطيب:
"ليس للشعر منزلٌ مثل ذاتي
فيه يسمو إلى ذُرا المكرماتِ".
الأسلوب هنا تصريحي تقريري، لكنه لا يخلو من فخامة رمزية، حيث تُقام علاقة احتواء بين الذات والشعر، فليس الشعر مكاناً خارجيّاً بل مسكناً داخليّاً، وكأن الشاعر يعيد تشكيل "أناه العليا" لتكون وعاء الخلق، لا مجرد ناقل للمعنى. وهذه العلاقة ليست زهواً، بل إعلان وجوديّ يقول: "أنا الشعر، ومن دوني لا مكان له."
القصيدة تميل إلى استعمال أفعال حيوية: (أقطف – أداري – يجيء – يطل – طرّز)، ما يمنح النص حركة ديناميكية، تُخرج القصيدة من التأمل الخالص إلى الفعل الشعري الإبداعي المتجدد.
البنية النفسية – الشعر كبديل عن الألم
يتجلّى في القصيدة خطاب نفسيّ مزدوج: من جهة، الشاعر في حالة نرجسية إبداعية، يرى ذاته مركزاً للشعر؛ ومن جهة أخرى، هناك اعتراف خفيّ بالهشاشة والتعب يقول الشاعر الخطيب: " يا شقيَّ الحياةِ طرّزَ شعري، بوحُكَ الثرُّ عن شقاء الحياةِ" .
في هذا البيت يُوجَّه الخطاب إلى الحياة باعتبارها كياناً يتقاطع مع الشاعر في المعاناة. الشعر هنا هو رد فعل نفسي عميق على شقاء الوجود، محاولة لمداواة الصدع الداخلي عبر التجميل اللغوي: "طرّز شعري". ثم يعلن الشاعر الخطيب مرارًا عن تلك الجدلية بين الرغبة في الصعود والألم المصاحب له ، يقول: " يا نديمَ الصعودِ نحو شهيٍّ
من دوالٍ تضجُّ بالمترفاتِ" .
الصعود هنا رمز للتسامي، للارتقاء عبر الكلمة، ولكن هذا الصعود محفوفٌ بالمعاناة والرغبة واللذة، في آن. الشاعر لا يهرب من الحياة بل يستدرجها إلى القصيدة، فيفككها رمزيّاً ليعيد تركيبها على نحوٍ جمالي.
البنية الرمزية – الشعر ككائن مركّب
القصيدة تزخر بالرموز التي تتنقل بين الطبيعة، والأنثى، والطفل، والموت. كل بيت تقريباً يحمل طبقة رمزية قابلة للتأويل، يقول الشاعر فرحان الخطيب:
"وبناتُ الأفكار عندي صبايا
يتحممنَ في ضُحى المفرداتِ" .
الفكرة هنا لا تأتي بصورة ذهنية، بل ككائن أنثويّ حيّ. "بنات الأفكار" لسن مفاهيم عقلية، بل صبايا يتحممن، أي أن الشاعر يمنحهن بعداً جسديّاً وحسّياً. هذا التمثيل الرمزي للفكر كأنوثة يمزج الجمال العقلي بالجمال الجسدي، ويجعل من الشعر تجربة حسّية عقلية في آن. يقول:
"يا غزالاً من الكلامِ تشظّى
بين معنى وبين لفظِ اللغاتِ".
الغزال هنا رمز للجمال الهارب، للحقيقة التي تتشظى، وللكلمة التي لا تثبت على معنى واحد. هذه صورة شديدة العمق في توظيفها الهيرمينوطيقي: الكلمة ليست وعاءً لمعنى نهائي، بل تفرُّق دائم، وهي بذلك مرآة للشاعر نفسه، المتشظي بين لغاتٍ ومعانٍ.
التأويل الهيرمينوطيقي – القصيدة كنصّ مفتوح على إمكان المعنى
إننا في هذه القصيدة أمام نص مفتوح التأويل. القصيدة تقول، لكنها تترك لنا أن نفهم. لا تُغلق أفق المعنى، بل تتوسّله وتتجاوزه. نقرأ:
" إنهُ الشّعر بعض موجٍ وغنجٍ
وحكايا على ضفاف المماتِ".
الشعر هنا ليس شيئاً محدّداً، بل "بعض"، أي جزء من مجهول أكبر. إنه تموّج وغنج (دلال أنثوي)، ثم سرد يمسّ حدود الموت. نحن في فضاء تأويلي بين الحياة والموت، الجمال والفناء. هذا التوتر هو ما يمنح النص قوته الوجودية.
وفي بيت ختامي مؤثر يقول الشاعرالخطيب:
"أيّها الشعرُ سوف نبقى نغنّي
كالعصافير للرّياضٍ لآتِ".
هنا تتخذ القصيدة بُعداً أنطولوجياً خلاصياً. فالشعر، رغم المأساة، هو ما يبقينا أحياءً، وما يجعلنا نغنّي للعالم حتى في أوقات التلاشي. إننا نغنّي كما تغنّي العصافير، لا لأن الواقع ورديّ، بل لأن الغناء مقاومة، وانتظار لفجر يأتي.
الإيقاع والموسيقى – سيمياء الصوت والمعنى
القصيدة مكتوبة على بحر الكامل (وهو بحر الانسياب والعنفوان)، ما يمنحها انسيابية موسيقية تُوازي جمالية الصور. تكرار القوافي المنتهية بـ "اتِ" (المكرماتِ – الجهاتِ – الفاتناتِ – الأمنياتِ – ناضراتِ...) يصنع إيقاعاً طقسيّاُ، وكأن الشاعر الخطيب يرتّل الشعر كما يُرتّل صلاة. الموسيقى هنا ليست مجرد تجميل لغوي، بل بنية سيميائية تمكّن من تفعيل الأثر الجمالي للمعنى.
خاتمة:
الشعر بين الذات والكينونة
في "قطوف الشعر" لا ينشد فرحان الخطيب العالم، بل يُنشئه. يصوغ من الشعر ليس حكاية فقط، بل وجوداً بديلاً، يتجاوز الحياة العادية نحو الحياة الشعرية. إنه شاعر يؤمن بأن الشعر ليس وسيلة، بل غاية في ذاته، مرآة للذات، وجسر إلى العالم الآخر، حيث "الغزل، والموت، والطفل، والغابة، والبوح" يجتمعون في قصيدة واحدة.
إن هذه القصيدة عملٌ تأويليّ بامتياز، تنفتح على معانٍ لا تنفد، وتدعو القارئ إلى مقاربتها لا بوصفها منتجاً لغويّاً، بل ككائن حيّ يتنفس الجمال، ويرتجف من الألم، ويواصل الغناء، لأن لا شيء يبقى غير القصيدة.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
..........................
قطوف الشعر
ليس للشعر منزلٌ مثل ذاتي
فيه يسمو إلى ذُرا المكرماتِ
أقطفُ الشعرَ من جنونِ رياحي
وأداريهِ من دُوَارِ الجهاتِ
وبناتُ الأفكار عندي صبايا
يتَحممنَ في ضُحى المفرداتِ
إنّهُ الشّعرُ نجمةٌ في خيالي
ومرايا توشوشُ الفاتناتِ
كل فجرٍ يجيءُ ضوءاً شفيفاً
وندىً بين وارف الأمنياتِ
كل صبح يطلُّ ورداً وعطراً
من جنانٍ مُخضلّةٍ ناضراتِ
**
يا شقيَّ الحياةِ طرّزَ شعري
بوحُكَ الثّرُّ عن شقاء الحياةِ
يا نديمَ الصعودِ نحو شهيٍّ
من دوالٍ تضجُّ بالمترفاتِ
يا غزالاً من الكلامِ تشظّى
بين معنى وبين لفظِ اللغاتِ
إنّه الشّعرُ للمحبّينَ جسرٌ
من هديلٍ يسندسُ الأغنياتِ
إنهُ الشّعر بعض موجٍ وغنجٍ
وحكايا على ضفاف المماتِ
نامَ طفلاً على وسادة عمري
وأفقْنَا على رؤىً عابساتِ
كم رأينا، ولم نكنْ نتمنّى
صورَ الموتِ في مُدَىً دامياتِ
أيّها الشعرُ سوف نبقى نغنّي
كالعصافير للرّياضٍ لآتِ