قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: بلاغة الجوع واحتجاج القصيدة

قراءة نقدية في شعرية المقاومة بنص الجوع الناطق للشاعر محمد ثابت السميعي

يحمل عنوان قصيدة "الجوع الناطق" مفارقة بلاغية لافتة (oxymoron) إذ يحول الجوع من حالة بيولوجية صامتة إلى كيان ناطق وفاعل، و"غاضب"، في انزياح دلالي كثيف يختزل طبيعة القصيدة كلها بوصفها صرخة احتجاج جماعي ضد الجوع والخذلان والصمت العربي المريب. ومن هنا، تغدو القصيدة فعلاً بلاغياً سياسياً تسائل من خلاله الذات الشاعرة مواقف السلطة وتكشف عن بنية التواطؤ التي تعيد إنتاج المجاعة وتصادر الكرامة.

تنطلق هذه الدراسة من فرضية مفادها أن القصيدة لا تقدم الجوع بوصفه حدثاً بيولوجياً، بل كرمز ثقافي / سياسي مشحون بالمعاني. وتسعى إلى تحليل تشكل الخطاب الشعري المقاوم في النص من خلال مساءلة البنية الأسلوبية والرمزية والإيديولوجية في ضوء منهج نقدي مركب يجمع بين المقاربة الأسلوبية والتحليل الموضوعاتي والإيديولوجي.

إنّ أهمية هذه الدراسة تنبع من قراءة القصيدة باعتبارها نصاً احتجاجياً يحمل طابعاً إنسانياً معاصراً يفضح ديناميات السلطة والتهميش، ويعيد للشعر مكانته كوسيط للوعي والمقاومة....

من البنية إلى الخطاب: تمفصلات المعنى في نص الاحتجاج الشعري

تبنى قصيدة "الجوع الناطق" على تسلسل بنيوي داخلي يحاكي منطق التصعيد الدرامي ويُفعّل آلية الخطاب الاحتجاجي في مراحل متوالية. وتظهر القراءة البنيوية للنص أنه يتكون من وحدات دلالية مترابطة تؤسس خطابه من النداء إلى الإدانة:

النداء التحذيري الاستهلالي: تفتتح القصيدة بأسلوب الأمر "قِفَا"، وهو نداء مزدوج مستوحى من استهلال المعلقات ("قفا نبكِ")، ما يضفي طابعاً تراثياً على لحظة التأمل ويفتح أفقاً تأويلياً يحمل النداء بعداً أخلاقياً واستعجالياً .

التوصيف التصاعدي للمأساة: يصور الجوع باعتباره قوة مدمرة تفتك بالشعب في تصعيد درامي يحول الظاهرة من مجرد حالة اجتماعية إلى مشهد كارثي مفتوح يتجاوز الإطار المحلي إلى مستوى الأمة.

التمثيل الرمزي للمعاناة: تتجلى مأساة الجوع عبر رموز موحية كـ"الطناجر المنهكة"، و"الأبنية التي تموت"، و"الدمع"، وهي صور ذات طابع يومي مألوف، لكنها محملة بشحنة دلالية تحيل إلى السقوط الاجتماعي وانهيار البنى الحياتية.

المفارقة الأخلاقية والسياسية: يتسع النص لعرض ثنائية أخلاقية حادة بين "من لبى" و"من خذل"، بين "المنبطحين" و"المقاومين"، ما يعكس اشتغالاً عميقاً على مفاهيم العار والشرف والتخاذل في سياق يعيد ترتيب القيم.

الخاتمة التقويمية والرمزية: النص بصيغة لعن وشجب، حيث يتحول الجوع إلى قوة قضائية ,لا فقط مادية تدين الجميع وتنطق بالحكم الرمزي على المتخاذلين. تحيل "الشباك" هنا إلى رموز مركبة: قد تشير إلى الحصار أو العجز أو حتى الاحتلال ضمن مساحة رمزية مفتوحة على التأويل.

إنّ هذا التسلسل البنائي لا يخدم فقط البناء الجمالي للقصيدة، بل يشكل في جوهره بنية خطاب احتجاجي مكتمل العناصر يحشد فيه الشعري لخدمة الرسالي....

بلاغة الاحتجاج الشعري: تشكيلات اللغة والإيقاع والانزياح في "الجوع الناطق"

تتسم لغة قصيدة "الجوع الناطق" بجزالة فصيحة وتستثمر حقولاً دلالية متداخلة: دينية ("الخزي"، "اللعنة")، سياسية ("الخيانة"، "الخذلان"، "الاقتصاد")، واجتماعية ("الجوع"، "الطناجر"، "المعونات"). الشاعر ينهل من معجم عربي كلاسيكي لكنه يحمله هموماً معاصرة، ما يضفي على النص كثافة لغوية ذات بعد رسالي.

تعتمد القصيدة أدوات بلاغية متعددة، أبرزها الاستعارة والتشخيص، حيث يتحول "الجوع" إلى كائن ناطق وفاعل يمتلك إرادة وغضباً:

"قِفَا.. فالجوعُ يَدفَعُ بالأُلوفِ / لهاوية التدافعِ والهلاكِ"

"قِفَا.. فالجوعُ يَلعنكم ويدعو / عليكمْ بالمجاعةِ.. والشَّاْبَاكِ !"

بهذه الأساليب، يستثمر الجوع بوصفه رمزاً مركزياً للقصيدة تتجمع حوله بقية الدوال في مشهد احتجاجي.

كما يكثف الشاعر التوازي التركيبي عبر التكرار البنائي للأمر "قِفَا"، المستوحى من الشعر الجاهلي ("قفا نبكِ")، ما يمنح القصيدة بعداً نصياً تراثياً في خدمة قضية معاصرة، ويضفي على النصّ نبرة تحذيرية واستنهاضية.

وتبرز المقابلات والصور الجدلية في بنية القصيدة:

"يأكل نصف شعب / يفتك بالبقية" – تصوير مركب لمأساوية الجوع.

"من لبّى / من خذل" – بناء ثنائي أخلاقي واضح.

"تلقّاها بحظ وافر / يعيشون انبطاحاً في تباهٍ" – مقابلة بين الشهادة والمهانة.

إيقاعياً، تنتمي القصيدة إلى البنية الخليلية العمودية، وهي موزونة وهو ما يضفي طابعاً كلاسيكياً مهيباً يناسب البنية الخطابية ذات النفس الاحتجاجي. انتظام التفعيلات وتماسك القافية يسهمان في ترسيخ الرسالة ويقربان النص من نمط الإنشاد الجمعي.

ولعل هذا ما يجعل القصيدة تحقق ما أشار إليه الناقد صلاح فضل في حديثه عن الشعر السياسي، حين قال:

"إن الشعر حين يغدو خطاباً احتجاجياً لا يفقد شعريته، بل يضاعفها حين يستبطن القيم الجمالية في بنيته الأسلوبية."

وبذلك، تتجلى بلاغة القصيدة في قدرتها على تحويل المأساة اليومية إلى شكل فني متماسك، يشتبك مع اللغة من جهة، ومع الواقع من جهة أخرى...

الجوع بوصفه خطابًا كاشفًا: البنية الموضوعية والرمزية السياسية

لا يطرح الجوع في هذه القصيدة بوصفه حالة بيولوجية ظرفية، بل يتحول إلى رمز مركزي يفكك البُنى الاجتماعية والسياسية القائمة. إنه خطاب كاشف، يمتحن من خلاله الضمير الجمعي للأمة، كما تنفضح به هشاشة السلطة وسلوك النخب المتواطئة.

يقول الشاعر: "قِفَا.. فالجوعُ يأكلُ نِصفَ شَعْبٍ / ويَفْتِكُ بالبقيَّةِ في اشتِباكِ"، لتكون الصورة أقرب إلى ملحمة فناء جماعي.

تسير القصيدة في مسار جدلي: من الرصد المأساوي للواقع إلى التحريض، ثم الإدانة الصريحة. يخاطب الشاعر الشعوب والأنظمة على حد سواء، لكنه يمنح "الجوع" ذاته صوتاً كأنّه نبيّ ساخط أو قاضٍ يحكم على الجميع.

وتتّضح هذه النزعة في قوله:

"قِفَا.. فالجوعُ يَلْعَنُكمْ ويدعو / عليكمْ بالمجاعَةِ.. والشَّاْبَاكِ !"

ولعل استعارة "الأسد النائم" تحمل إحالة مزدوجة: فهي تعيد تدوير الصورة النمطية للعرب في الشعر السياسي (عبر النقائض والهجاء)، كما تفضح الغياب السيادي للرد الجمعي أمام المأساة.

من صوت الجياع إلى صرخة الوعي: التشكل الإيديولوجي للموقف الشعري

ينطلق موقف القصيدة من تصور جذري لوظيفة الشعر، لا بوصفه أداة جمالية محايدة، بل فعلاً يتقاطع مع الوعي والاحتجاج. وفي هذا السياق، يصدق ما قاله أدونيس:

"الشعر ليس وسيلة لتزيين الواقع، بل لتفجيره."

وهو ما تقوم به القصيدة فعلياً، إذ تنحاز للمقهورين، وتكشف بنية القهر، وتدين بالصورة الشعرية ما تعجز عنه اللغة المباشرة.

تمتلك القصيدة رؤية واضحة وانحيازاً صريحاً للمهمشين والمقهورين، مقابل إدانة قاسية لمن أسماهم الشاعر بـ"المنبطحين"، أو أولئك الذين "غضّوا عرشهم" عن رؤية المأساة. ويمكن تصنيف هذا الموقف ضمن تقاليد الشعر المقاوم، حيث تنحاز الكلمة إلى الهامش بدل المركز.

يقول: "ومَنْ لَبَّى ولاقى الموتَ عِزّاً / لنُصْرَةَ أهْلِهِ مِثْلَ المَلاكِ"، في احتفاء واضح بالشهادة والبطولة الفردية.

لكن الموقف الأيديولوجي هنا لا يقدم بلغة تقريرية، بل عبر استعارات وانزياحات تنقل الجوع من مستوى الحاجة إلى مستوى "الثورة الكامنة" التي تنتظر لحظة الاشتعال. بهذا، يحول الشاعر قصيدته إلى مانيفستو احتجاجي يتقاطع مع مزاج الانتفاضات الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي.

ويسجل له توظيفه للتكرار، والمقابلة، والانزياح الرمزي ليجنب نصه السقوط في المباشرة، ويمنحه بعداً تأويلياً مفتوحاً....

تمثل قصيدة "الجوع الناطق" أكثر من مجرد رثاء شعري لحالة مجاعة أو أزمة اقتصادية؛ إنها نص احتجاجي مركب يتجاوز الوظيفة التقريرية نحو بناء خطاب مقاومة رمزي ومفاهيمي، يجعل من "الجوع" فاعلاً ناطقاً ومن الشعر نفسه سلاحاً في مواجهة الخذلان المؤسسي واللامبالاة المجتمعية.

ينجح الشاعر في إعادة تشكيل الجوع من كونه حالة بيولوجية إلى كونه رمزاً مركزياً في بنية الصراع القيمي والحضاري، مستنداً إلى مرجعيات دينية وأخلاقية، وشعبية. بهذا التوظيف الرمزي، يغدو النص ساحة صراع بين:

الكرامة والموت

الحق والجوع

الصوت والصمت

الوعي والخيانة

وقد كشفت القراءة، بمستوياتها البنيوية واللغوية والرمزية، عن اتساق النص في تشكيل موقف أيديولوجي صريح، دون الوقوع في المباشرة، بل عبر أدوات شعرية مثل التكرار،و الانزياح، والصورة الاستعارية المركبة.

وهو ما يجسد بدقة ما عبر عنه ت.س. إليوت بقوله:

"Genuine poetry can communicate before it is understood"،

أي أن الشعر الأصيل يحدث أثره حتى قبل أن يفهم، ما يجعل من "الجوع الناطق" نصاً احتجاجياً فعالاً لا في مضمونه فحسب، بل في طاقته الجمالية.

إن "الجوع الناطق" لا يُقرأ فقط كأدب وجداني، بل بوصفه وثيقة شعرية مقاومة تنتمي إلى لحظة تاريخية مشبعة بالألم العربي، لحظة يموت فيها الناس من أجل كسرة خبز، بينما يحيا "البعض" على حساب الصمت والتخاذل.

وعليه، فإن القصيدة تقدم نموذجاً للشعر الذي يعيد مساءلة الواقع من موقع لغوي جمالي، ويمنح "القصيدة" دوراً يتجاوز التعبير إلى المشاركة الفعلية في تشكيل الوعي…

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

.....................

الجوعُ الناطق!

قِفَا..فالجـــوعُ يَدفـــعُ بالأُلوفِ

لهــــــــاوية التدافُــــعِ والهلاكِ

*

قِفَا..فالجوعُ يأكلُ نِصْفَ شَعْبٍ

ويَفْتِكُ بالبقيــــــةِ في اشْتِباكِ

*

وتَمتدُّ المَهـــــــــــالِك راصِداتٍ

لها وَجْــهٌ مُلَطَّـــــــــخُ بانْسِفَاكِ

*

وتَمتدُّ (الطناجِر) مُنْهَكَــــــــاتٍ

تُصَارِعُ للبقــــــــاءِ... ولابـواكي

*

ومَنْ يَشْهَدْ نِـــــداءَاتٍ..ودمعاً

وأبنيـــــةً تموتُ...بلا حِــــرَاكِ

*

سَتُدْرِكــــــــهُ...بيومٍ لامَنَــاصَ

لــــهُ مِنْـــهُ بِخِــــزيٍ..وانْتِهاكِ !

*

ومَنْ لَبَّــــى ولَاقَى الموتَ عِزًّا

لِنُصْـــرَةَ أهْـــلِهِ مِثْلَ المَـــلاكِ

*

تَلَقَّـــاها بحــظٍ وافِـــرٍ...أَحنَى

رِقابَ الكُفْرِ قســـرًا كي يَراكِ:

*

على قدميكِ تبتسمينَ دَهـــرًا

تَؤُمِّينَ الحيـــــــاةَ على هواكِ

*

ومَنْ خَذَلــــوكِ وابتلعوا لِسانًا

وغَضُّــوا (عَرْشَهُمْ) عما دَهاكِ

*

يَعيشونَ انْبِطَــاحًا في تَبَــــاهٍ

لِيَنْتَعِشَ اقتِصادَ الـ(اِحْتِكاكِ)!

*

فما طــارَتْ شَرَارَةُ دون قَـدْحٍ

ولا قـامتْ قيامـــــةُ بالسِوَاكِ

*

وهل نامتْ بِعَيْنِ العُـرْبِ أُسْدٌ

سوى جُـــبْنٍ مُقِيـــمٍ باحتِبَاكِ!

*

قفــا..فالجوعُ حَرْبٌ_إن أَرَدّتُمْ_

فخوضوهــا بِشَـجْبٍ واعْتِلاكِ

*

ولاتَقِفُوا حَيــــارى إنْ مَنَعْتُمْ

عن الجــوعى معونات الفِكَاكِ!

*

متى كُنتُمْ لها سَـنَدًا وعَـــوْنًا

لتهنـأ بالحيــــاة بلاعِــــــرَاكِ!

*

قفا.. فالجوعُ يَلْعَنكُمْ ويدعو

عليكمْ بالمجاعَةِ..و( الشَّاْبَاكِ ) !

***

الشاعر اليمني: محمد ثابت السُّمَيْعي

 

في المثقف اليوم