دراسات وبحوث

زواج الحسين بن علي (ع) وعلاقته بنظرية فارسية التشيع / صالح الطائي

استغلوها ليخلقوا التشيع لمحاربة الإسلام، وتهديمه، والقضاء عليه، وإعادة أمجاد دولتهم الغابرة!)

إن قصة الزواج لا تقل في غرابتها عن قصة قتل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد رجل فارسي، فمع أنها واقعة حقيقية كما هو قتل الخليفة عمر على يد رجل فارسي واقعة حقيقية، إلا أن الذين اعتمدوها أساسا لتأكيد صحة فارسية  التشيع وقعوا في نفس الأخطاء التي وقعوا فيها عندما تحدثوا عن مقتل الخليفة. وقد أشار المؤرخون المسلمون إلى حقيقة هذه المصاهرة، ولكن ليس بالشكل الذي أراد أن يوصّفها ويوظفها فيه بعض الباحثين للطعن بالتشيع! مع أن المصاهرة  لم تكن حدثا منتقى بذاته وصولا إلى غاية مرجوة، وإنما جاءت كناتج عرضي للمستجدات التي ولدها فتح العرب المسلمين لبلاد فارس، وقصص الفتح الغريبة.

 

قصص الفتح العجيبة

وقبل الحديث عن ملابسات المصاهرة، أود الإشارة إلى أمر مهم وهو أن المكاسب العظيمة التي تحققت من فتح بلاد فارس الذي امتدت معاركه على رقعة تاريخية طويلة  بدأت من 12 هجرية  واستمرت إلى نهاية عصر عمر وبدايات عصر عثمان، جاء بالمدهش والغريب وما لم تألفه الأمة، ولذا كان خليفة المسلمين يبادر عادة إلى سؤال بعض الصحابة عن مستحدثات المسائل التي لم يسبق أن مر عليه في حياته مثلها دونما حرج، وقد تكرر سؤاله لهم أكثر من مرة، وفي الأقل هناك مجموعة قصص روتها كتب التاريخ في هذا السياق لا بأس من ذكر بعضها وصولا إلى بيت القصيد أي قصة زواج الحسين من امرأة من سبايا الفتح الإسلامي، وعلاقة ذلك الزواج بقيام ونشوء المذهب الشيعي!

 

القصة الأولى: قصة بساط عجيب من غنائم فتح فارس قال عنه الطبري: (فلما قدم على عمر المدينة رأى رؤيا فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه واستشارهم في البساط وأخبرهم خبره فمن بين مشير بقبضه وآخر مفوض إليه وآخر مرقق، فقام علي حين رأى عمر يأبى حتى انتهى إليه فقال: لِمَ تجعل علمك جهلا ويقينك شكا؟ إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت قال: صدقتني فقطعه فقسمه بين الناس، فأصاب عليا قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا، وما هي بأجود تلك القطع) [1]

 

القصة الثانية: جاء في كتاب "أخبار البلدان" لابن الفقيه: (والأهواز افتتحها أبو موسى الأشعري في ولاية عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) وآخر مدينة افتتحت من الأهواز "السوس" فلما أفتتحها وأخذ المدينة، وسبى الذرية، وظفر بالخزائن، فبينما هو يحصي ما فيها كان في قلعتها نحو من ثلاثمائة خزانة، فرأى خزانة منها وعليه ستر عليه الدهن، فأمر خزان القلعة أن يفتحوه فجعلوا يبكون ويحلفون أنه ليس فيه شيء من الذهب أو الفضة، فجعل أبو موسى لا يزيده ذلك إلا حرصا على فتحه حتى هم بكسر الباب ن فلما رأى الخزان ذلك قالوا: نحن نصدقك عما فيه، قال: قولوا، فقالوا: فيه جسد دانيال، قال: وكيف علمتم ذلك؟ قالوا: أصابنا القحط سبع سنين متوالية حتى أشرفنا على الهلاك، وكان هذا الجسد عندنا وقوم من النصارى يستسقون به إذا أجدبوا، فيسقون ويخصبون، فأتيناهم وطلبنا إليهم أن يعيروناه فأبوا علينا فرهناهم خمسين أهل بيت منا على أن نستقي به عامنا ذلك ونؤده، فدفعوه إلينا، فلما استقينا به سُقينا وأخصبنا فضننا به وحبسناه عن أصحابه ورغبنا فيه فهو عندنا نستسقي به في الجدب. فأمر أبو موسى بفتح الباب فإذا في البيت سرير عليه رجل ميت واضح مرفقه على ركبته اليمنى. فكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب يعلمه فتح المدينة ويقص عليه خبر دانيال عليه السلام. فسأل عمر رضي الله عنه من بحضرته من المسلمين، فأخبروه أنه نبي، وأن بخت نصر لما غزا بيت المقدس وسبى أهله كان دانيال ممن سبي ونقل إلى أرض بابل فلم يزل بها حتى مات. فكتب عمر إلى أبي موسى يخبره بالذي انتهى إليه من أمره وأمره بأن يحنطه ويكفنه ويدفنه من غير أن يغسله، ويكون دفنه إياه في جوف الليل) [2]

 

 القصة الثالثة: وأصلها رواه "الزمخشري" في ربيع الأبرار بقوله: إن الصحابة لما جاءوا بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب كان في السبي ثلاث بنات ليزدجرد ملك الفرس فأمر عمر (رض) ببيعهن مع السبايا فاعترض عليه علي (رض) وقال له: إن بنات الملوك لا يعاملن كغيرهن .

 فقال الخليفة : كيف الطريق إلى العمل معهن ؟ فقال: يقومن ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن. فقومن فأخذهن علي فدفع واحدة إلى "عبد الله بن عمر بن الخطاب" وهي التي أولدها ولده "سالم" صاحب الحديث، والثانية دفعها إلى ولده "الحسين" وهي التي أولدها ولده "زين العابدين علي" الإمام المشهور والثالثة دفعها إلى "محمد ابن أبي بكر" وهي التي أولدها ولده "القاسم" فهؤلاء جميعهم أولاد خالة وأمهاتهم بنات يزدجرد [3]

هذه الرواية تكذب ما ادعاه البعض في إشارته إلى أن مصاهرة الحسين للفرس كانت السبب الذي ربط الفرس بآل البيت ذلك الرابط الذي أستغله الفرس ـ كما يدعون ـ  للدخول إلى الإسلام وخلق التشيع انتقاما لزوال ملكهم ودولتهم، إذ لو كان السبب يعود إلى هذه المصاهرة بالذات لكان من الأولى به أن يشمل المصاهرتين الأخرتين أيضا فيجمع الفرس مع آل عمر بن الخطاب ويجمعهم مع آل أبي بكر كما جمعهم مع آل النبي لأن المصاهرة يومذاك لم تقتصر على الحسين بن علي وحده بل على قطبين آخرين من أقطاب المجتمع هما قطب أبي بكر الذي يمثله ابنه محمد، وقطب آل الخطاب الذي يمثله عبد الله بن عمر بن الخطاب.

فضلا عن أن كثير من الباحثين يرون أن هذه الزيجات بالذات فتحت آفاقا جديدة لعلاقات العرب بالإماء، وغيرت نظرة المجتمع الإسلامي لموضوع التسري بالسبايا من نظرة معادية كارهة، إلى نظرة محبة راغبة، وإلى ممارسة إنسانية، وفي هذا المعنى يروي الكاتب المعروف أحمد أمين عن كامل المبرد قوله: (وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله  ففاقوا أهل المدينة فقها وورعا، فرغب الناس في السراري) [4] وفي هذا القول اعتراف ضمني بزواج هؤلاء الرجال الثلاثة من بنات كسرى، أي أن موضوع الزواج لم يكن مقصورا على الحسين بن علي وحده.

لكن مع وضوح هذه الحقائق وتكرار ورودها في كتب التاريخ والسير، تبين أن هناك من لا ينهجون نهجا أكاديميا في بحوثهم فيختارون ما يروق لهم بانتقائية مفضوحة، ويتركون ما لا يوافق هواهم، ومن هؤلاء الباحث عبد الملك الشامي الذي غمط الحقيقة حقها وأبى إلا التحريف والتدليس من خلال الخلط التاريخي الذي اعتمده في بحثه، حيث يقول: (نرى أن الشيعة الأمامية قد جعلوا الأئمة من نسل الحسين رضي الله عنه وبدون أي دليل، ومن سريته الفارسية "شهربانو" بالذات بنت كسرى يزدجرد. فعندما فتح المسلمون بلاد الفرس أسر المسلمون "بنات كسرى" فأهدى عمر رضي الله عنه  الحسين بن علي رضي الله عنه واحدة منهن فولدت له علي بن الحسين وقد رأى الفرس في أولادها من الحسين وارثين لملوكهم الأقدمين ورأوا أن الدم الذي يجري في عرق علي بن الحسين وفي أولاده دم إيراني من قبل أمه ابنة يزدجرد والذي هو من سلالة الملوك الساسانيين المقدسين عندهم). [4]

ومن أدلة خلط  الباحث وتدليسه: أنه مع اعترافه بأن المسلمين أسروا بنات كسرى إلا أنه أغفال الحديث عنهن كلهن وقصر حديثه على زواج واحدة منهن فقط، كما إنه لم يذكر القصة كما رويت في كتب التاريخ، ولم يتطرق إلى سؤال الخليفة للصحابة، ولم يذكر زواج ابني أبي بكر وعمر من أخواتها!

 

الفرصة الأوفر حظا

إذا نحن نقف في هذه المسألة المشتركة التي يتنصل البعض من شمولها للآخرين أمام عدة احتمالات قابلة للتفاضل منها: السياسي/ المنطقي / العقلي، لنعرف من المرشح الأوفر حظا ليصبح واسطة الفرس في تنفيذ مشروعهم المزعوم.

في التفاضل السياسي: نجد أن عبد الله بن عمر كان أوفرهم حظا فهو الأكبر سنا ويحمل من طباع أبيه القيادية الكثير حتى توقع له كثيرون أن يكون خليفة للمسلمين من بعده، بل وسعى البعض ومنهم (المغيرة بن شعبة) من اجل ذلك، وأقترح على عمر أن يجعله خليفة للمسلمين بديلا عنه فرفض، كما انه كان متصديا للفتيا وعالما بالشريعة وراوية مكثرا، ولو كان دافع النسب هو الذي جمع الفرس بآل علي لكان من الأولى به أن يجمعهم بآل عمر، حيث يبدوا عبد الله أوفر حظا. فلماذا تركه الفرس وتمسكوا بعلي بن الحسين لتدمير الإسلام؟

أما في التفاضل العقلي: فنجد أن أهل فارس قبل تشيعهم (تشيعوا في القرن العاشر الهجري) كانوا من أتباع المذاهب الأربعة، والمتعصبين لها، وهذا يعني أن من الأيسر لهم أن يعدوا أبناء عبد الله من زوجته الفارسية وارثين لملوكهم الأقدمين  بدل محاولتهم خلق أو الانتماء إلى مذهب صغير، أو حتى من تأسيس مذهب تقف بينه وبين تحقيق طموحاته المذاهب الأربعة، فضلا عن أن المذاهب الأربعة في الحقبة التي يقول البعض أن التشيع ولد فيها كانت كيانات جاهزة، منتظمة الصفوف، قوية الأتباع، واسعة الانتشار ومن السهل اختراقها وتطويع نصوصها لخدمة هذا الهدف أو ذاك بينما يحتاج تأسيس مذهب جديد ليقف قبالة هذه المذاهب القوية أو ليقف قبالة الإسلام الأقوى ـ حسب زعمهم ـ  إلى زمن طويل لمجرد أن يقف على قدميه، بله أن يقلب نظام الحكم ويعيد أمجاد فارس الغابرة! فلماذا لم يتحرك الفرس من بين صفوف هذه المذاهب لتقويض الإسلام وفضلوا صنع مذهب آخر لتنفيذ هذا المخطط؟

وأما في التفاضل المنطقي: فنجد أن نظرة العرب والمسلمين للزواج بالأعجميات لم تشبها شائبة تاريخيا، فما دامت المرأة الأعجمية أنصع وأنظر وأبهى وأجمل وأكثر ثقافة وجرأة من العربية فهي بالتأكيد الأوفر حظا بكسب قلوب رجال أدمنوا تعدد الزوجات  والتسري بملك اليمين والتعلق بالجنس حد الهوس. ثم من قال: إن المسلمين والعرب كانوا يتحرجون من الزواج بالفارسيات خوف التأثيرات السياسية، أو التأثير العرقي لتكون حادثة زواج الحسين بن علي فريدة ومميزة وتملك كل هذا التأثير؟

ولمن يعترف أن رسول الله صلى الله عليه وآله سبق وأن تزوج باليهودية وبالقبطية وبمن كان أهلها لا زالوا على شركهم يوم تزوجها، لكي يتآلف قلوب هؤلاء أقول: لماذا لا يكون  زواج الحسين وعبد الله ومحمد من هذا الصنف أيضا فيسهم في تأليف قلوب الفرس مع العرب كما أسهم زواج النبي من تلك النسوة؟

ولو كان الأقدمون يفكرون بنفس هذه النمطية الساذجة ويتخوفون من كيد الفرس لهم أو للإسلام لما وجدنا الزواج بالفارسيات فاشيا في أكثر حقب تاريخنا العربي تعلقا بالعروبة وهي حقبة الأمويين (حكومة العرب) حيث نجد أن رجال الطبقات الأولى من الحكام أنفسهم كانوا يعدون الزواج بالنساء الفارسيات من المفاخر، ويعتقدون أن استيلادهن يثمر عن أولاد مميزين. وقد قال ابن أبي شيبه في المصنف عن خالد بن محمد القرشي:(قال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية! ومن أراد أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية! ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية! ) [5] ثم تبين أن عبد الملك ابن مروان لم يقل هذا عبثا أو مزاحا بل عن تجربة وممارسة وخبرة حقيقية كان نتاجها مولودا ذكرا حكم العالم الإسلامي وأصبح "خليفة للمسلمين" و"أميرا للمؤمنين" (فيزيد بن عبد الملك بن مروان أمه (شاهفرند بنت فيروز ابن يزدجرد ) [6] ويزيد هو أحد حكام الدولة الأموية المشهورين جدا، ولا أدري لماذا لم ير فيه الفرس وارثا لملوكهم الأقدمين وتقاليدهم القومية بدل أن يروا هذه الوراثة متمثلة فقط بعلي بن الحسين الذي عاش مطاردا ومحاصرا بعد أن أخذ أسيرا إلى يزيد بن معاوية في الشام بعد معركة الطف، ثم لما عاد من الأسر أعتزل مجتمع المدينة وسكن الصحراء، ولما أذن له بالعودة عاش معتزلا الناس منشغلا بالعبادة؟

وإذا ما كان للمصاهرة مثل ما يدعون من أثر لكان من السهل علينا جميعا اتهام الفرس بالغباء المطبق كونهم لم يستغلوا مصاهرة عبد الملك بن مروان بالذات للنفاذ من خلالها إلى قلب ابنه يزيد الذي تربطهم به علاقة النسب لتدمير الإسلام، هذا لو كانت عندهم مثل هذه النية المبيتة، ولاسيما بعد فشل تجربتهم مع الشيعة وعدم تمكنهم من تحقيق غاياتهم التخريبية من خلال التشيع حتى ذلك التاريخ. وإذا ما كان هناك من يدعي أن يزيد بن عبد الملك كان خليفة قويا تخشى الفرس أن يكشف مخططهم ويقضي على آمالهم ورجالهم فهناك بدائل كثيرة أخرى كانت قد شغلت منصب الخلافة أيضا ولكنها كانت أضعف وأقل خبرة منه وكانوا متزوجين من إماء أعجميات، فلماذا لم يستغل أحد ما هذه الفرص الذهبية لا من الفرس ولا من أهل البلدان الأخرى التي جاءت منها هؤلاء النسوة الأعجميات لكي يعيد أمجاده الغابرة وينتقم من المسلمين الذين قوضوا حكمهم؟ ألم تكن أم الخليفة الأموي إبراهيم بن الوليد "خشف" أو نعمة البربرية؟ ألم تكن أم آخر خلفاء الأمويين مروان بن محمد بربرية أيضا وكانت سنوات حكمه تنذر بسقوط دولة الأمويين التي أصابها الضعف والفتور والتشتت؟ فلماذا لم يستغل الفرس هذه الفرصة؟

لقد كان حب الخلفاء الأمويين للنساء ولاسيما الإماء منهن مشهورا ومعروفا ولذا كانت جميع أمهات الخلفاء الأمويين في الأندلس من الإماء ابتداء من عبد الرحمن الداخل وأمه "راح" البربرية إلى الرضي وأمه "حوراء" والمرتضى وأمه "زخرف" ومحمد بن عبد الرحمن وأمه "نهتز" والمنذر بن محمد وأمه "أثل" وعبد الله بن محمد وأمه "عشار" والناصر لدين الله وأمه "مزنة" والمستنصر بالله وأمه "مرجان" والمؤيد بالله وأمه "مزنة" والمستعين بالله وأمه " ظبية" والمستظهر بالله وأمه "غاية" والمستكفي بالله وأمه " حوراء" والمعتمد بالله وأمه "عاتب"

هؤلاء النسوة كلهن كن من الإماء الأعجميات وقد حكم أبناؤهن العالم الإسلامي كله كما في زمن يزيد بن عبد الملك وإبراهيم بن الوليد، وحكم آخرون جزء مهما من العالم الإسلامي كما في زمن الأمويين في الأندلس، فلماذا لم يسرع الفرس لاغتنام هذه الفرص الذهبية بدل الانشغال بتأسيس مذهب جديد والدخول من خلاله إلى منظومة الإسلام لتدميره؟

أما في زمن العباسيين فقد استشرت ظاهرة إستيلاد الإماء ومن ثم تعيين أولادهن خلفاء للعالم الإسلامي، ومن بين العدد الكبير من خلفاء بني العباس كان هناك نفرا قليلا ممن كانت أمهاتهم عربيات، أما الغالبية منهم فكانت أمهاتهم من الأعاجم بما فيهم الفرس، وكانت الفرصة متاحة للتغيير عن طريقين:

الأول: البرامكة الذين علت سطوتهم على كل العرب وكان لهم نفوذا كبيرا في البلاط  العباسي, ولاسيما أن زوجة "يحيى البرمكي" الفارسي كانت قد أرضعت هارون الرشيد طفلا،  فأصبحت أمه بالرضاعة، وأصبح ابنها "الفضل" أخا له بالرضاعة, وتولى يحيى تربية هارون الرشيد وتثقيفه، ومع ذلك لا توجد أي إشارة إلى أن الفرس استغلوا هذا الوضع الفريد لتدمير الإسلام وإعادة أمجاد دولتهم المهزومة إلى أن تمت إبادة البرامكة في سنة 803 ميلادية!

الثاني: إن غالبية خلفاء بني العباس كانت أمهاتهم وزوجاتهم أعجميات ابتداء من المنصور وأمه "سلامة بنت بشير" البربرية وزوجته كانت تركية هي ابنة ملك سمرقند، ثم الهادي والرشيد وأمهم " الخيزران" الجرشية، وتزوج الرشيد من أمتين هما "مراجل" و"ماريد"، فالمأمون أمه "مراجل بنت أستادسيس الباذغيسي" الفارسية، وكانت أم الأمين تركية،  والمعتصم بالله أمه "ماردة" التركية، كما أنه تزوج من تركية هي "شجاعة خاتون"، والواثق بالله أمه "قرطيس" والمتوكل على الله أمه "شجاع الخوارزمية" والمنتصر بالله أمه "حبشية الرومية"، والمقتدر بالله كانت أمه تركية وكانت لها سطوه غريبه على رجال الدوله في خلافه ابنها وكان الوزراء يهابونها ويرتعدون خوفا منها، وكان بإمكانها تيسير مهمة دخول الفرس أو الأتراك إلى عاصمة الدولة وتدمير الإسلام! والمستعين بالله أمه "مخارق" الصقلبية، وقد أطلق يدها في أمور ألدوله وبمعيتها اثنين من قاده الأتراك هما "أتامش" و "شاهك" والمعتز بالله أمه "قبيحة" الرومية، والمهتدي بالله أمه "قرب" الرومية، والمعتمد على الله أمه "فتيان" الرومية، والمعتضد بالله أمه "غنجك" التركية، وتزوج من تركيتين هما "سغاب" و "قطر الندى" التي هي حفيدة أحمد بن طولون، والقاهر بالله أمه "قتول" البربرية، والراضي بالله أمه "ظلوم" الرومية، والمتقي بالله أمه "خلوب"،والمستكفي بالله أمه "غصن" والمطيع لله أمه "مشعلة" الصقلبية، والطائع لله أمه "عتب – هزار"، والقادر بالله أمه "دمنة" والقائم بأمر الله أمه "بدر الدجى"، كما وتزوج من "خديجه أرسلان خاتون" وهي تركية من أصفهان، وابنة شقيق "طغرل بك" مؤسس ألدوله السلجوقيه، والمقتدي بأمر الله أمه "أرجوان" الأرمينية، وتزوج من أعجميات هن "سفري" ثم "ماه ملك" ابنه السلطان السلجوقي "ملك شاه"، وكذلك تزوج من  "التون خاتون" التركية،  والمستظهر بالله أمه "الطن" التركية، وتزوج من "كوموش عصمت خاتون" وهي الإبنة الثانية لملك شاه، والمسترشد بالله أمه "لبابة"، وتزوج نساء تركيات منهن "أمينة" و "تورك خاتون"، والراشد بالله أمه "الحبشية" والمقتضي لأمر الله أمه "بغية الناس ـ نسيم" الحبشية، والمستنجد بالله أمه "طاووس" الحبشية، والمكتفي بالله تزوج "فاطمة خاتون" حفيدة السلطان السلجوقي "ملك شاه"، والمستضيء بالله أمه "غضة" الأرمينية، كما وتزوج المستضيء  "زمرد خاتون" التي قدمت من تركستان إلى بغداد كجارية في القصر العباسي وأعجب الخليفة بجمالها فتزوجها سنه 552 هجرية,وأنجبت الخليفة احمد الناصر لدين الله، والناصر لدين الله أمه "زمرد ـ نرجس" التركية، وتزوج الناصر من "سلجوقه خاتون" التي ولدت ولدها السلطان "قلج الثاني"  في قونيه بالأناضول التركية،  وصادف الخليفة الناصر "سلجوقه خاتون"  في مكة المكرمة في موسم الحج ففاتحها بالزواج، فوافقت، وعملت بعد ذلك على توطيد العلاقات بين الترك والعباسيين , والمستنصر بالله أمه تركية والمستعصم بالله وأمه "هاجر" الحبشية.

 وكان لأمهات الخلفاء و زوجاتهم نفوذا كبيرا في شؤون لدولة، فلماذا لم يترك الفرس تعلقهم بالمذهب الشيعي بعد الفشل الذريع الذي أصاب سعيهم  لإعادة الأمجاد المهانة، ويذهبون إلى المذاهب التي كان يرعاها هؤلاء الخلفاء لتقويض الإسلام وتهديمه مستغلين تواجد هؤلاء النسوة في القصور وتأثيرهن على الخلفاء؟

ثم ألم يتعرض الإسلام على يد هؤلاء الخلفاء المهووسين بالجنس الوافد الناعم الرقيق إلى التشويه والتدمير بما يكفي ويزيد، ولاسيما على يد الأعاجم الذين استعمروا الأمة الإسلامية بالعنف مرة، وبرضا الحكام العرب مرة أخرى؟ فلماذا لا نتحدث عن هذا التدمير الحقيقي الذي قاسينا ويلاته بكل مذاهبنا، ونقصر حديثنا على أمر وهمي من صنع خيال مريض يقول: إن الفرس أسسوا التشيع للكيد بالإسلام!؟

تعالوا نقلب صفحات التاريخ ونتابع بجد ومثابرة حكم الأعاجم للأمة المسلمة عبر التاريخ، وسنجد السلاجقه تلك السلالة التركية تحكم العالم الإسلامي في المدة المحصورة بين السنوات 1038-1194 ميلادية، والسلالة الأيوبية وهي سلالة كردية أصلها من أرمينيا حكمت المسلمين في السنوات 1171 ـ1250 ميلادية، وهم الذين مهدوا للـ "الزنكيين" و "المماليك" الذين استقدموهم صغارا من تركمانستان وأذربيجان و غيرها لحكموا مصر والشام والجزيرة العربية خلال المدة 1250 ـ 1517 ميلادية، والصفويون تلك السلالة التركية التي حكمت بلاد فارس والعراق ومناطق أخرى ونجحوا في ضم البحرين 1601  والساحل الشرقي للخليج العربي وحكموا من 1501  إلى 1722ميلادية  ،  والمغول تلك السلالة التركية، والإخشيديون وهم أيضا من السلالات التركية المستعربة حكموا مصر والشام  من عام 935 إلى عام 969 ميلادية، والطولونيون وهم أيضا من  السلالات التركية المستعربة وقد حكموا مصر والشام وفلسطين من عام 868 إلى905 ميلادية، والعثمانيون وهم سلاله تركية أخرى  قدمت من منغوليا لمساعده السلاجقة، ثم حكمت العالم الإسلامي من عام  1280 ولغاية سنة 1922 وأمتد حكمها من  تركيا إلى كل بلاد الشام وفلسطين ومصر ثم الجزيرة العربية والعراق ودول المغرب العربي: المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومعظم البلدان العربية والإسلامية الأخرى.

فهل كانت كل هذه الأقوام الأعجمية الاستعمارية مؤمنة، شريفة، نزيهة، حريصة على الإسلام ووحدته وقوته وبقائه، والفرس وحدهم من بينهم كانوا يسعون لتدميره انتقاما لدولتهم المنهارة؟

ولا أدري لماذا يرى البعض من ضيقي الأفق أن الفرس وحدهم يكيدون للإسلام، ويغمض عينه عن كل تلك المصائب الجسيمة التي جرها استعمار باقي الأعاجم للأمة الإسلامية على المسلمين العرب وعلى الإسلام كله؟

مما تقدم يتأكد لنا أن في منظومة الحكم العربي الإسلامي مئات المنافذ والمناطق الرخوة التي كان من اليسير الولوج منها إلى الإسلام لتدميره إلى الأبد، فلماذا لم يستغلها الفرس وبقوا متمسكين بالولاء لأل البيت وحدهم رغم ما جره عليهم هذا التمسك من عذاب وألم وتشريد ومطاردة؟

 أليس في هذا كله تأكيد على أن إدعاء فارسية التشيع سواء جاء تحت غطاء حجة زواج الإمام الحسين من فارسية، أو غيرها من الحجج، إنما جاء في مراحل لاحقة لتلك التواريخ ولا علاقة له بهذه الحقائق التاريخية الدامغة .

لقد تأكد لدي من خلال البحث والتقصي أن بعض المستشرقين هم أول من استنبط موضوع المصاهرة بمعناه التكويني هذا، أو أنهم استخرجوه من ركام الأحداث، ثم أخذه الآخرون عنهم. وقد وجدت من يشير إلى هذا الأمر على لسان المستشرقين مثل الدكتور علي حسني الخربوطلي الذي قال : ( يعزوا المؤرخ أرنولد إقبال الفرس على اعتناق الإسلام إلى زواج الحسين بن علي من إحدى بنات يزدجرد الثالث آخر أكاسرة الفرس الساسانين وقد رأى الفرس في أولاد الحسين منها وارثين لملوكهم الاقدمين كما رأوا فيهم ورثة لتقاليدهم القومية وهذا الشعور الوطني يفسر لنا تعلق الفرس الشديد بعلي) [8]

هذا الرأي يخالف الواقع ويمثل خلطا تاريخيا لا يمكن السكوت عنه، لأن الفرس إنما دخلوا الإسلام في بداية أمرهم لأنهم كانوا أمام واحدة من ثلاث: إما "الإسلام"، أو "الجزية"، أو "الحرب"، فاختاروا لجهلهم وعنجهيتهم وقصر نظرهم الحرب، ثم لما انهزموا فيها دفعوا الجزية صاغرين، ودخلوا في الإسلام عنوة، ولا علاقة لزواج الحسين من قريبتهم بدخولهم في الإسلام.

 ثم إنهم لو كانوا قد دخلوا الإسلام لهذا السبب بالذات أي لإعادة أمجادهم فمن المفروض بهم أن يتبعوا نهج الحسين  الديني، بينما يعرف الجميع أن من تبع نهج الحسين منهم كانوا قلة نسبة إلى من تبع نهج المذاهب الأخرى، بما كان من ميسرات ولوجهم إلى عالم السياسة من أوسع أبوابه لأنهم كانوا قريبين من النهج الذي كان يقود الإسلام سياسيا!

ثم تعالوا لنعد إلى تاريخ أقدم من هذا  وبالتحديد على عصر البعثة المشرفة ونبحث في أصول زيجات رسول الله صلى الله عليه وآله،  فالتاريخ ينقل لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله تزوج: بجويرية بنت الحارث بعد أن قتل المسلمون أباها وأخوتها وقومها، ثم بعد خيبر تزوج صفية بنت حيي بن أخطب الأسيرة اليهودية التي قتل وشرد المسلمون قومها، وتزوج كذلك ماريا بنت شمعون المسيحية القبطية أم ولده إبراهيم. فهل كان النبي جاهلا بوجوب اجتناب مثل هذه الزيجات التي تمثل خطورة شديدة على العقيدة لأنها قد تستغل من قبل أهل الزوجة لتدمير الإسلام انتقاما مما أوقعه بهم المسلمون، هذا إذا ما أخذناها بنفس المقياس الذي اعتمده من أعطى لزواج الحسين عليه السلام من امرأة فارسية قومها معادون للإسلام كل تلك الأهمية؟

 لماذا لم يقولوا: أن الإمام علي عليه السلام حينما أشار على الخليفة عمر رضي الله عنه بوجوب تزويج هؤلاء النسوة بخيرة شباب المسلمين إنما كان يهدف إلى ما هدف إليه النبي صلى الله عليه وآله في زواجه من تلك النسوة، وأن زواج هؤلاء الشباب من بنات ملك الفرس يزدجرد إنما جاء من سنخ زواج النبي من تلك الزوجات الموتورات بأهلهن وقومهن لكي يحنن قلوبهم ويتآلفهم؟

إن مجرد أخذ الحالة النبوية مثلا لربط زواج الحسين المثير للجدل بها أو مقاربته معها يؤكد أن أصحاب القول الذي يدعي أن فارسية التشيع ولدت بفعل زواج الحسين من فارسية واهمون جدا، وبعيدون عن الحقيقة، وجاهلون بسنن التاريخ الذي سطر حروفه خلفاء وملوك وسلاطين وكتاب المسلمين، ولم تكن للشيعة يد في كتابته.

قصدي من هذه الدراسة البسيطة أن أشجب سعي بعض من يدعون أنهم مسلمون ولكنهم يهدمون الإسلام ويقوضون بناءه من الأسس بسعيهم الحثيث لتفريس التشيع الذي كان من أنقى المذاهب عروبة، أو التشكيك بعقيدته، ويغضون الطرف عن المخاطر الحقيقية التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون في العالم كافة.

 

..............................

الهوامش

[1] تاريخ الطبري، 2 / 672

[2]نصوص لم تحقق من كتاب أخبار البلدان لابن الفقيه، ص 110 

[3] ينظر أيضا: فجر الإسلام - احمد أمين - طبعة مصر 1955 - ص 91 و ألائمة الاثنى عشر لشمس الدين محمد بن طولون - ص 76 وهوية التشيع للشيخ الوائلي - ص 75

[4] فجر الإسلام، أحمد أمين، جزء1، ص 113

[5] شبكة الدفاع عن السنة، الرابط http://www.dd-sunnah.net/records/view/action/view/id/2877

 بحث للكاتب عبد الملك الشامي بعنوان (الأثر الفارسي في عقيدة التشيع الإمامي) تاريخ النشر 22/7/2010

[6] تاريخ الخلفاء - جلال الدين السيوطي - ص 221

[7] تاريخ الخلفاء، ص 252

[8] عشر ثورات في الإسلام - علي حسني الخربوطلي - دار الآداب بيروت 1978 - ص 38

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1597 الاحد 05 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم