دراسات وبحوث

علاقة الفلسفة والكلام في علم الموسوعات الإسلامي (2-2) / ميثم الجنابي

فقد أوقفت الجاهلية القلب أمام محراب الكلمة، وجعلت من الفعل الأخلاقي القبلي معيارها الجمالي. وهو واقع أضمحل في الكلمة وجزئيا في الفعل. وكان من المستحيل بالنسبة للبديل الإسلامي الشامل أن يتبلور بين ليلة وضحاها. لقد كان ينبغي له أن يمر بين "شرور" العقل من أجل اكتشاف مضمون الشر نفسه. مما أعطى لجدل هذا المرحلة مأثرتها التاريخية في تذليل سكون الجاهلية وتجربتها العملية. فقد كان هو في الأغلب جدل الإفحام لا جدل الإقناع. وهو تناقض واقعي عبر فكريا ولغويا عن طبيعة الفعالية الملازمة لمراحل الانتقال العاصفة.

وفي هذه العملية جرى التهذيب المنطقي للمفاهيم والمصطلحات وكذلك قدرة العقل الجدلية. حقيقة إن هذه القدرة كانت في بدايتها خليطا من مكونات عدة لم تستقل في بنيتها النظرية. لهذا لم يتخذ الجدل الأولي صيغة منظمة. فهو لم يستند إلى تقاليد عريقة خاصة به. ولم يكن بإمكان هذه التقاليد أن تتجذر دون استقلال الفكر واللغة. من هنا استمرار "العنف" اللغوي ولغة الجسد في الجدل. فقد أدى ضعف بنية الجدل في اللغة والفكر إلى اشتراك الجسد بمختف حركاته الممكنة، بدء من التهور الخليع وانتهاء بالزهد للبرهنة على هويات الروح الأخرس. ويشير هذا الواقع إلى أن الجسد والروح يتحسس كل منهما ويفهم لكنه يعاني من صعوبة تصنيف وتصفيف ما يراه ويسمعه ويتذوقه ويفهمه في منظومة فكرية متجانسة. وأدى هذا الإعياء الروحي لتذليل عبء الكلمة الثقافي إلى إرهاص البحث عن صيغتها المثلى. وفي هذا التجاوز السريع "لنقص اللغة القادرة على التمام" يكمن سر البحث عن الكلام الذي ميز ثقافة الإسلام.

ونعثر على ما سبقت الإشارة إليه في ظاهرة الاهتمام المفرط بالعبارة والمجاز والكلمات والمصطلحات، واللغة ككل. فإذا كانت مدارس الأدب والشعر قد وجدت في تراث الجاهلية معينها الذي لا ينضب، فإن تراث الجاهلية اللغوي لم يعد بالنسبة للجدل العقلي أكثر من أداة شكلية وضرورية. ولم يعد مضمون الكلمة في أصلها العربي، بل في فحواها الديني والإسلامي. وكان هذه الاختلاف الشكلي الكبير وتناقضه النسبي من ملامح "الانتقال" الثقافي، الذي فقد معناه مع ارتقاء الكلمة إلى مستوى الفكر. وهو انتقال ساهم في إنجازه علم الكلام من خلال جدله العقائدي واستناده إلى تراث اللغة الآخذ في التطور. مما جعل الشهرستاني يفترض في تفسيره لمعنى اسم علم الكلام أما "لأن اظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم المنطق. والمنطق والكلام مترادفان".

وتحول الجدل في "كلام الله" إلى علم. وأصبح هذا العلم أداة التعامل مع "كلام الله". وشكل ذلك حلقة دار فيها علم الكلام مغتنيا بعناصر المنطق الملازمة لأدب الجدل وقواعده. فمن المعلوم أن الجدل لا يكتفي في حالات الصراع الفكري الحاد بمشاعر الإفحام ودحر الخصوم، وإلا لأدى به ذلك للهبوط إلى حضيض الشتائم. وإذا كان الكلام قد أصيب بهذا الداء في وقت لاحق، فإن مراحل تطوره الأولى سارت ضمن تيار الانتعاش الباحث عن "علة في كل شيء". مما أستدعى بدوره مهمة التدليل في الجدل.

واستثار هذا الواقع نفسية البحث الدائم ومعضلاته من جهة، وافتراض وجود حقيقة واحدة مع مساعي البحث المتعددة عنها من جهة أخرى. وهو واقع لازم وما يزال يلازم الوعي نفسه. وحصل هذا الواقع في ثقافة الخلافة آنذاك على هيئته الضرورية الأولى في مختلف فنون الرفض والانتقاد والاعتراض، أي في المظهر السلبي بوصفه أسلوب الجدل الباحث عن الحقيقة. ولم يكن هذا قدرا لفئة دون أخرى، كما لم يكن أسلوبا لتعامل المسلمين مع أهل الذمة بقدر ما انه ميز الجميع مع الجميع. فعندما جسد الجاحظ في بعض كتبه النقدية نماذج دقيقة "للمغالطة" الإيجابية في بلاغتها والرفيعة في عقلانيتها، فإنه يكون بذلك قد ذلل عناصر المغالطة نفسها. لكنه تذليل ارتبط بالحدود الصارمة التي أبدعتها ثقافة الإسلام في التعامل مع الحق والخلق وليس بتأثير العقلانية كما هي. فقد طالبت هذه الحدود المرء بالبحث عن الصلة الدائمة بين المثال والواقع. وسواء اتخذ ذلك نموذجه في "مشبهة الأفعال" أو "حلولية الصفات"، فإن كل واحد منهم ظل يرى "بعينه العوراء" المدى الأبعد لاستعدادها الذاتي. ويكشف ذلك عما في هذه العين "الواحدة" تاريخيا من قدرة هائلة على أحادية الرؤية. أي أنها تتوهم بحدة مبالغ فيها كل ما لا يمكن رؤيته ببساطة في ظل اشتراك حواس الجسد جميعا.

ولو أهملنا هذه المقارنة الحسية وارتقينا من خلالها إلى إشكاليات الثقافة الكبرى حينذاك، فإننا نلاحظ اثر الآلية التي أقنعت أغلبية الباحثين بالفكرة القائلة، بان من الصعب بلوغ الحقيقة دون المرور بدروب الآلام. وكان ذلك يعني صيرورة حالة جديدة في الوعي التاريخي أخذت بإخضاع كل شيء لمبضع الجدل. وترتب على ذلك صيرورة واقع ثقافي لا يقرّ بالمقدس دون استفسارات واتهامات وشبهات وتلبيسات وترجيحات العقل الجدلي. فالمفارقة التي أراد رجال المرحلة حلها أغرقتهم في إشكالاتها الجديدة. لقد طوروا ثقافة كانت تطالبهم بالمزيد. وشكلت هذه الاستزادة مقدمة وحافز الثقافة في مساعيها الحثيثة لبلوغ الحقيقة. وأدى ذلك إلى تنوع المعرفة وتعمق محتواها وتكلسها في اختصاصات فرعية أيضا. وهي مشكلة طبيعية من مشاكل التطور الثقافي نفسه، وبالقدر الذي كان يمكن حلها بطرق مختلفة، كانت أيضا متحررة من الخضوع لقدر لا تلوى خطاه.

فمن المعلوم إن الثقافة الإسلامية لم تصنع رجل الدين بالمعنى النصراني، بل علماء الدين. ولم يكن هؤلاء "وسطاءها" و"سدنتها" بل أوعيتها. لهذا كان من الممكن تجمعهم في "طبقات" الأدباء والمتكلمين والفقهاء والشعراء والحكماء والصوفية وليس في هرم كنائسي. ذلك يعني أن الاستزادة في "المعرفة" أدت إلى تفريع وتفريخ "ثقافات" داخل "الثقافة" جعلت من صدامها في حالات عديدة قدرا محتوما. ومع أن الثقافة الفلسفية لم تكن غريبة على ثقافة الإسلام، فان الصراع معها كان شكلا من أشكال صراع الثقافات داخل الثقافة الكبرى. ذلك يعني انه كان صراعا بين قوى متباينة في بحثها عن الحقيقة، تحدد وأدى في نفس الوقت إلى اختلاف نمط التفكير وأدوات البحث. فإذا كانت الفلسفة في مظهرها تبدو "غريبة"، ففي مضمونها كانت تساير وتجري وتنافس وتتحدى وتوازي الكلام. وهي حالة ميزت الثقافة الإسلامية منذ أن استتبت علومها الخاصة. لقد كان بإمكانها، وهو ما حدث بالفعل، أن تتخذ صيغا متباينة. لكنه لم يكن بإمكانها أن تضمحل نهائيا، لأنه لا ضرورة لذلك ولا معنى. ولم يكن هذا الاستنتاج الجازم مبنيا على أساس تأمل بقائها في كتابات الماضي، بل وفي استمرارها الفعلي في إبداع الفكر الإسلامي. أما العلاقة الشاذة بين الكلام والفلسفة، فإنها كانت لحد ما نتاجا للصراع الضروري بين القوى "المتشابهة". والتنافر في حالات عديدة يستلزم تشابها على الأقل جزئيا إن لم يكن كبيرا. لأنه يستلزم وجود ما هو مثير لتنافس القوى يدفعها إلى حافة المواجهة. فالكلام هو الأخر فلسفة. والفلسفة تتضمن كلاما (منطقا)، فيما لو استعملنا عبارة الشهرستاني. وفي هذا يكمن سر اللقاء الخصب بين المتكلمين والفلاسفة. إذ لم يشعر المتكلمون الأوائل بشعور الدونية وامتقاع الصبيان أمام علم "الأوائل" و"القدماء". وسواء تعاملوا مع أفكار الفلسفة القديمة باعتبارها أفكارا مستقاة من "مشكاة النبوة" أم لا، فإنهم وجدوا فيها ما هو معقولا في العقل ومرذولا في الشريعة. وفي هذه الثنائية المرنة كمن أحد حوافز تأثيرهما المتبادل وصراعهما الظاهر والمستتر.

وهنا يجدر القول إلى إن محاولة البحث عن مصدر أفكار الفلاسفة القدماء في "مشكاة النبوة" كانت صيغة أقرب إلى مفاهيم الكلام والتصوف منها إلى تصورات وأحكام الفلسفة (الإغريقية). إلا أنها شغلت حيزا لا يستهان به في الفلسفة الإسلامية. ودخلت لاحقا في علم الملل والنحل الإسلامي كجزء من أحكامه النظرية. لكنها لم تكن على الدوام من حيث حوافزها وغاياتها فلسفية خالصة. ونعثر على ذلك في المقارنات التي يقدمها الشهرستاني في استعراضه لآراء بعض الفلاسفة. فقد وجد في آراء تاليس عن الماء باعتباره مبدأ التركيبات الجسمانية ما يناسبه في سفر التكوين للعهد القديم وما يقابله في بعض الآيات القرآنية مثل: "وكان عرشه على الماء" وغيرها. وكتب بهذا الصدد يقول "وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية". منها "اقتبس وبعبارات القوم التبس". والشيء نفسه يمكن قوله عن حكمة فيثاغورس، التي وجد فيها أيضا شيئا مأخوذا من "معدن النبوة". بينما وجد في آراء انكسمانس عن العنصر الأول والعقل ما يمكنه أن يقابل في القرآن كلمات "القلم " و"اللوح". وعلق على ذلك قائلا: "وهو أيضا من مشكاة النبوة"  

لم يجد المتكلمون الأوائل في قراءتهم للفلسفة ما يتعارض مع "كلام الله". مما جعل منها علما مقبولا للكلام والمتكلمين. وهو واقع نعثر على صداه في تقييم مؤرخي الفكر والأديان وإشاراتهم الدائمة إلى تأثر هذا المتكلم أو ذاك بآراء الفلاسفة. بل يمكن القول، بأن أهل الكلام الأوائل وجدوا في الفلسفة عروة جديدة للدفاع عن العقيدة وتثبيت دعائم الكلام نفسه. لكن هذا التآلف المبدع بين الكلام والفلسفة لم يدم طويلا. واتخذ لاحقا مختلف الصيغ منها الانضواء الكلي تحت لواء الفلسفة ومنها إخضاع الفلسفة للكلام ومنها محاربتها بصورة قاطعة ومنها مجاراتها و"المساومة" معها. ولم تكن هذه الصيغ معقولة على الدوام، إلا أنها تخللت حوافز التفكير الكلامي والفلسفي على السواء.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكلام بعد لقائه بالفلسفة لم يعد كلاما "إسلاميا" خالصا، كما لم تظل الفلسفة "إغريقية" بالشكل والمحتوى. وأدى تطورهما إلى إفراز كل الصيغ المشار إليها آنفا. ومن الممكن القول، بأن فلاسفة الإسلام بدء من الكندي كانوا بمعنى ما ممثلي الانضواء الكلي تحت لواء الفلسفة، بينما تمثلت الأشعرية صيغة إخضاع الفلسفة للكلام ، في حين مثلت المدارس الحنبلية وأشباهها صيغة محاربتها بصورة قاطعة ،أما صيغة مجاراتها و"المساومة" معها فهو التيار، الذي لم يقلد مدرسة أو مذهب ما محدد بصورة خالصة كما هو الحال عند الغزالي قبل انتقاله إلى التصوف.

وقد كان هذا التزاوج التاريخي بين "علوم الإسلام" و"علوم الأوائل" إحدى صيغ التفاعل الثقافي الذي عمق إرث الحضارة الروحية العالمية وأثراها بمعضلات جديدة. ولعل أكثرها إشغالا لبال الفكر الإسلامي هي القضية المتعلقة بإدراك ماهية وقيمة اللقاء التاريخي والنظري بين الفلسفة والكلام عند من عارضها ومن أيدها. فإذا كان المتكلمون قد وجدوا بادئ الأمر في الفلسفة ما يمكنه أن يكون عروة إضافية للعقيدة المتناثرة في جدل المتكلمين أنفسهم، فإنهم أخذوا يعون لاحقا خطورتها المهشمة لعقائد الإيمان. فالفلسفة هي ليست فقط حبا للحكمة، بل والعلم الباحث عن أسباب الظواهر وعللها، أي أنها استجابت لحال "القدري" وذهنيته الباحثة عن علة في كل شيء. لهذا بدت بالنسبة لأغلب ممثلي الكلام (باستثناء المعتزلة) الأسلوب العقلي لتهشيم العلاقة الوجدانية بين الإنسان والله، والعلاقة الضرورية بين العقل والإيمان. ولم تكن هذه "السلبية" جلية وبسيطة على الدوام. إضافة لذلك استلزم إدراكها، كحد أدنى، ضرورة التمكن من أدوات الفلسفة المنطقية وأساليبها في التحليل والنظر. فإذا كانت قضية الله والإنسان من "مآثر" الفكر الصوفي ومعضلات عشقه الدائم وأنسه الوجداني، فإنها اتخذت في علم الكلام صيغة تحديد الموقف من قضية المعقول والمنقول. وبغض النظر عن الإجابات المتباينة والمتناقضة أحيانا حولها، إلا أنها عكست أسلوب الكلام في تحديد موقفه من الفلسفة بوصفها علما عقليا. وبهذا يكون علم الكلام قد تضمن على هذه المواقف بصورة منفية في معضلات المعقول والمنقول. ذلك يعني أن الخلاف الذي ميز "اللقاء" الأول بين الكلام والفلسفة، لم تحدده أساليبهما وغاياتهما فحسب، بل وخصوصية نشوئهما ونماذج رؤاهم في ثقافة الخلافة.

***   ***   ***

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2122 الاربعاءء 16 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم