دراسات وبحوث

الحيثيات الشخصية للامام الكاظم / غالب الشابندر

مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا 1، وطبق الكليني إنه: (وُلِد عليه السلام بالابواء سنة ثمان وعشرين ومائة) 2 .

وحذا حذوه المفيد في الارشاد  3، وابن شهراشوب يفصِّل أكثر بقوله: (ولد عليه السلام بالابواء، موضع بين مكة والمدينة، يوم الاحد لسبع خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومائة) 4، ويروي الطبرسي في أعلام الورى: (ولد عليه السلام بالابواء، لسبع خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومأة) 5، ويروي الاربلي في كشف الغمة: (قال كمال الدين أثابه الله ... أمّا ولادته فبالابواء سنة ثمان وعشرين وماة من الهجرة وقيل تسع وعشرين ومأة ...) 6، وفي مكان آخر يقول: (قال ابن الخشاب: ذكر الأمين موسى بن جعفر ... وبالاسناد الاول، عن محمد بن سنان، ولد موسى بن جعفر بالابواء، سنة ثمان وعشرين ومأة ... وفي رواية أخرى بل كان مولده سنة مأة وتسعين وعشرين من الهجرة، حدَّثني بذلك صدقة، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب) 7، وفي رواية أخرى يقول: (وقال الحافظ عبد العزيز: ذكر الخطيب أنَّه ولد موسى بن جعفر عليه السلام بالمدينة في سنة ثمان وعشرين، وقيل تسع وعشرين ومأة)8  .

إن متابعة المصادر من شيعية وسنية تكاد تجمع إلا نادرا، بان ولادته سلام الله عليه كانت سنة 128 للهجرة، اما أن ولادته في سنة 129 للهجرة  فنادرا ما تكون الإشارة إليها، أما شهر ولادته فهو شهر صفر، هذا ما نقراه في  مناقب ابن شهراشوب، وأعلام الورى،  وروضة الواعظين، والدروس للشهيد الثاني، ويشذ من رواة الشيعة في هذا التاريخ ابن جرير الطبري الشيعي في دلائل الإمامة حيث يؤرخ ولادته  في شهر ذي الحجة من سنة مائة وسبعة وعشرين للهجرة،  ويروي لنا ابن خلكان أن ولادته كانت يوم الثلاثاء قبل طلوع الفجر سنة تسع وعشرين ومأة، ولم يعين الشهر 10، وأول ترسيم كامل للولادة بالسنة والشهر واليوم كان برواية ابن شهراشوب في كتابه (مناقب آل أبي طالب) ويبدو أن الآخرين أخذوا منه، وعليه تكون ولادته على الارجح يوم الأحد  لسبع خلون من صفر سنة 128، ولكن التاريخ الذي يتمتع بشيء من الرصانة في هذه الناحية من  حياة الامام هو ما نصَّ عليه الاربلي (ت 693)،  في كشف الغُمَّة لانه مسند وإنْ بسندٍ ناقص، والعجب إنّ الآخرين لم يدعموا  تواريخهم بسند ! وليس من شك في مثل هذه المفارقات والاختلافات في هذا الموضوع ينبغي الرجوع إلى المصادر الشيعية لانها أقرب إليه من غيرها بحكم المعتقد والاهتمام، ومن جمع سريع بين هذه الروايات يمكن أن نقول أنه ولد يوم  الاحد لسبع خلون من صفر سنة 128 .

 

كيفية الولادة 

في كيفية ولادته توجد روايتان، أحدهما من طريق الصّفار في كتابه المعروف (بصائر الدرجات)، والثاني من طريق البرقي  في كتابه الموسوم (المحاسن) .

جاء في بصائر الدرجات: (أحمد بن الحسين، عن المختار بن زياد،  عن أبي جعفر  محمد بن مسلم، عن أبيه، عن ابي بصير، قال: كنتُ مع أبي عبد الله عليه السلام  في السنة لتي وُلِد فيها ابنه موسى عليه السلام ... ) وتستمر الرواية لتحكي لنا ما أخبره الامام الصادق  أبا بصير على لسان الام حميدة بعد أن ساله عن ذلك ابو بصير نفسه فيخبره الامام بان حميدة قالت له بأن الامام الكاظم: (إنَّه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الارض، رافعاً رأسه إلى السماء، فاخبرتها ــ يقول الامام الصادق، اي  أخير حميدة ـ أنَّ تلك أمارة رسول الله صلى  الله عليه وآله وسلم، وأمارة الإمام من بعده)، ولما يسال أبو بصيرالإمام الصادق عن  تلك العلامة أو الأمارة، يجيب الإمام ما نصُّه: (إنَّه لما كان في الليلة التي عُلِقَ بجدِّي فيها، أتى آتٍ جدَّ أبي وهو راقد، فاتاه بكأس، فيها  شربة أرقّ من  الماء، وأبيض من اللبن، وألين من الزبد، وأحلى من الشهد، وأبرد من الثلج، فسقاه إياه، وأمره بالجماع، فقام فرحاً مسروراً، فجامع، فَعَلُقَ فيها بجدِّي ...) 11، عملية التغذية (الاعجازية)  هذه كانت بدأت بأمير المؤمنين عليه السلام ثم تسلسلت تباعا عبر أصلاب الائمة من بعده  حتى انتهت  طبق الرواية إلى الإمام الباقر، ليتولَّد الامام موسى بن جعفر،  فالامام موسى بن جعفر عليه السلام  وليد هذا الغذاء المخصوص، إنَّه لم يتولد من الغذاء الطبيعي، كما هي سنة الله في البشر، بل من غذاء خاص مخصوص، معتنى به ربانيا، بل هو مصنوع لهذه الغاية .

كتاب بصائر الدرجات للصفار المتوفي سنة (290) للهجرة لم يصل للمجلسي بطريق معتبر، قال بذلك صاحب مشرعة البحار، محمد محسن آصف، بل قال بذلك أيضا السيد كاظم الحائري وآخرون، ولكن في السند أبو جعفر محمد بن مسلم، يروي عن أبيه مسلم بن رياح أو رباح  ليس له ذكر في كتب الرجال ! وبالتالي، هذه الرواية من الصعب قبولها .

يروي مثلها البرقي في كتاب (المحاسن) مع زيادات واضافات  12، ولكن (نسخة المحاسن لم تصل إلى المجلسي مسلسلة  ومناولة بل وجادة) 13،  وفي ذلك ضعف كبير، ولم يسلم سند البرقي من نقد أو ثغرة، ففي سنده علي بن أبي حمزة البطائني، وهذ الرجل اول من أوقف على الامام الكاظم كما هو مشهور عنه، ولم تُقبل روايته لا قبل الوقف ولا بعده، فقد جاء في معجم الرجال بعد جولة موسَّعة عن احواله وما قيل فيه، وفي سياق ردِّه على من حكم بوثاقته ـ وهو قول يكاد يكون شاذا ــ يقول: (... لا يمكن الحكم بوثاقته، وبالنتيجة يُعامَل معاملة الضعيف) 14، على أن نفس  (البرقي)  متهم بأنه كثير الرواية عن الضعفاء، وكان يعتمد المراسيل، ولكن يدافعون عنه من جهة ضعف ما يروي وليس من  جهته  هو بالذات، وفي ذلك كلام طويل، لعل منه، إن ذلك يكشف عن خلل بقدرته النقدية والتقييمية، فأي دقة يمتلكها الرجل وهو ينقل لنا ما كان يتداوله الضعفاء ؟ وأي ذائقة نقدية عالية الطيف يتمتع بها الرجل ليبلتي أمّة محمد وعلي بمراسيل ؟!

الرواية تريد التاسيس لنطفةٍ مخطّطٍ لها ربانيا بشكل مباشر، فهذ النطفة تتشكل من غذاء لا يمت بصلة  إلى غذاء  (ماء) البشر، ويبدو أن هذا الغذاء (الماء) هو سبب هذا الطهر المتعالي، والصفاء الروحي، الكأس الربانية مترعة بماء رباني، لا يُدانى لوناً ولا لذةً ولا بياضاً ولا برداً ولا حلاوة، ولغة القياس اضطرارية، وإلاّ هو غذاء (ماء) خارج الوصف !

 

الحيثيات الشخصية

من الروائع في حياة هذا الامام الجليل تصافق المخالف والموالف على وصفه بما يجل ويعظم ويعلو، وهي تتوزع بين تفصيل وأجمال، وقد حرصت المصادر الشيعية  على التفصيل وهذا طبيعي، لأنه الامام السابع في سلسلة أئمتهم الذين يؤمنون بهم أئمة في الفقه والسلوك، بل هم طريقهم إلى الله تعالى، فنحن نقرا في المصادرالشيعية أنه كان يُلقَّب بـ (الكاظم، الصابر، الصالح،الأمين، النفس الزكية، زين المجتهدين، الوفي، الزاهر، البيان، المبرهن،ذو المعجزات ...)، هذا ما نجده في إرشاد المفيد ومناقب ابن شهراشوب، ودلائل الإمامة، والهداية الكبرى للخصيبي،  وهي مصادر شيعية بحتة تقريبا 15، ونقرا في البداية والنهاية لابن كثير: (... ويُقال له: الكاظم) 16، ونقرا في صفوة الصفوة لسبط الجوزي: (... وكنيته أبو الحسن، ويدعى بالعبد الصالح لعبادته واجتهاده وقيامه الليل)  17،ونقرا في الفصول المهمة لابن الصبّاغ: (... وألقابه كثيرة: الكاظم، ثم الصابر، والصالح، والامين) 18، ونقرأ في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: (كان موسى بن جعفر ... يُدْعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده) 19 .

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة الامام: (الإمام،القدوة،السيد أبو الحسن العلوي ... ذكره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق، إ مام من أئمة المسلمين ...) 20 .

من خلال سبر هذا الاخبار يمكننا أن نخرج بالنتائج الآتية: ـ

أوَّلا: كان الامام الكاظم عليه السلام محل توافق بين معظم المؤرخين وأهل التراجم  على أنه رمز أخلاقي رفيع، وقمة سامقة بالسلوك النظيف، ومثل أعلى للحياة الاخلاقية المسؤولة .

ثانيا: أن أهم الالقاب التي أشتهر بها هي: ـ

1: الكاظم، لانه كان يكظم غيظه رغم فداحة الموقف المسيء تجاهه، ليس مرّة أومرتين، بل كان ذلك سلوكا مميَّزا ومميّزا، ففي الكامل للتاريخ: (كان يُلقَّب بالكاظم، لانّه كان يُحسِن إلى من يسيء إليه، كان هذا عادته ابدا) 21، ومضى على هذا التفسيركثير من أصحاب التراجم، ولكن هناك من يفسِّر ذلك عقديا، ففي البحار: (الورّاق،عن سعد، عن البرقي، عن أبيه، عن ربيع بن عبد الرّحمن قال: كان والله موسى بن جعفر من المتوسِّمين، يعلم منْ يقفُ عليه بعد موته،ويجحد الامام بعد إمامته، فكان يكظم الغيظ، ولا يبدي لهم ما يعرفه منهم، فسمِّي كاظم الغيظ) 22، والرواية ضعيفة، فإن مصدر الراوية من جهة الإمام مباشرة لم يوثّق كما في معجم الخوئي جزء7رقم 4529 .

2:  العبد الصالح، نظرا لكثرة عبادته وتهجُده، وعمق تدينه، ورسوخ إيمانه .

وكلا  اللقبين تقررا بسبب الواقع وليس  محض خيال، كما تدل الكثير من  الروايات العملية  التي نصت عليها كتب وأسفار المؤرخين  واهل التراجم والسير، رغم اختلاف مشاربهم المذهبية والكلامية .

3:  باب الحوائج، كان ذلك على لسان أهل العراق، فقد جاء في الصواعق المحرقة: (... كان معروفا عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله)، وقد قال بذلك صاحب الانوار القدسية السنهوتي، وصاحب الفصول المهمة ابن الصباغ، وصاحب نور الابصار الشبلنجي، وصاحب مطالب السؤول محمد بن طلحة الشافعي،  وصاحب الروضة النديَّة الشيخ مصطفى رشدي الدمشقي 23، لكن الغريب أن المصادر الشيعية لم ترد ذلك حسب علمي واطلاعي .

ثالثا: هناك وحدة اخلاقية متجانسة اتصفت بها شخصية هذا الامام الكريم، فكل خلّة كريمة منه استدعت اختها، حتى  برزت لنا شخصية أخلاقية متكاملة، ولم يسجل عليه الخصوم خلّة مشينة على الاطلاق .

رابعا: يبدو أن أهل العراق كانوا متعلقين بهذا الإمام الصالح من خلال تسميته أو تلقيبه بـ (باب الحوائج) .

المصادر

(1)  فتوح البلدان 1 ص 79 .

(2) البهبودي، محمد باقر، زبدة الكافي، طبع الدار الاسلامية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الاولى، سنة 1981، الجزء الاول، ص 55 .

(3) إرشاد الشيخ المفيد، 2 ص 215 .

(4) مناقب آل أبي طالب 3 ص349 .

(5) إعلام الورى، 2 ص 6.

(6) كشف الغّمَّة في معرفة الإئمة 3 ص 2 .

(7) نفسه ص 22 .

(8) نفسه .

(9) دلائل الإمامة ص 146 .

(10) ابن خلكان، وفيات الأعيان، تقديم محمد عبد الرحمن المرعشلي، طبع دار الإحياء للتراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، سنة  2006، الجزء الثالث ص 156.

(11) بصائر الدرجات للصفَّار، صحَّحه وعلق عليه الحاج مرزا محسن كوجة التبريزي، منشورات مكتبة آية الله المرعشي، 1404 قمري، ص 440 ح 4 .

(12) المحاسن للمحدث أحمد بن محمد بن خالد البرقي، تحقيق السيد مهدي الرجائي، المجمع العالمي لاهل البيت، قم، الطبعة الاولى، سنة 1413 هجري، الجزء الثاني ص 314 ح 32 وعنه البحار 48 ص 3 ح3 .

(13) مشرعة البحار 2 ص 33 .

(14) معجم الخوئي، 11 رقم 7832 ص 226 .

(15) عوالم العلوم والمعارف والاحوال، جزء 21 ص 23 ـ 24 .

(16) نفسه ص 24 .

(17) نفسه .

(18) نفسه .

(29) تاريخ بغدد للخطيب البغدادي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بلا، مجلد 3 ص 27 .

(20) سير أعلام النبلاء، للذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت ـ لبنان، مجلد السادس، ط 8، 1992، ص 270 .

(21) الكامل في التاريخ، لابن الاثير، طبع دار صادر، بيروت ـ لبنان، 1982، الجزء السادس ص 164 .

(22) البحار، جزء 48، ص 10 ح 1

(23) عوالم العلوم للبحراني، الجزء 21 ص 24، 25، 26، 27، الهوامش .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2226 الاربعاء 26/ 09 / 2012)


في المثقف اليوم