دراسات وبحوث

الإمام الكاظم بين الخليفتين العباسيين الهادي والرشيد / غالب حسن الشابندر

بقضية الرؤيا وحولياتها، تتكرر هذه الظاهرة بشكل ملفت للنظر، ففي عمدة الطالب نقرا: [قَبض عليه عليه السلام موسى الهادي وحبسه فرأى أمير المؤمنين عليه السلام في نومه يقول: (هل عسيتم أن توليتم ....) فانتبه من نومه، وقد عرف المراد، فأمر بإطلاقه، ثم تنكَّر له من بعد، فهلك قبل ان يوصل إلى الكاظم أذى) 16، الرواية مرسلة، ولكن فيها زيادة هنا تتميز بها عن رواية الرؤيا مع المهدي، حيث تفيد الرواية الجديدة أن الهادي بعد أن اطلق صراح الإمام من السجن راح يسعى للإيقاع به أو إيذائه ولكنه لم يتمكن ! هكذا تتصاعد وتيرة الحدث، الامر الذي يجعلنا على حذر في التعامل مع مثل هذه الروايات .

 

محاولة قتل الإمام

وإرادة الهادي قتل الإمام نقراها في رواية مفصلة في كتاب (مهج الدعوات) ففيه: (أبو علي الحسن بن محمّد بن علي الطوسي، وعبد الحبَّار بن عبد الله بن علي الرازي، وأبو الفضل منتهى بن أبي زيد الحسيني، ومحمَّد بن أحمد بن شهريار الخازن جميمعا، عن محمد بن الحسن الطوسي، عن ابن الغضائري، وأحمد بن عبدون، وأبي طالب بن الغرور، وأبي الحسن الصفَّار، والحسن بن إسماعيل بن اشناس جميعا،عن ابي الفضل الشيباني، عن محمّد بن يزيد بن أبي الأزهر، عن أبي الوضَّاح محمد بن عبد الله النهشلي، عن ابيه قال: سمعتُ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يقول: التحدُّث بنعم الله شكر، وترك ذلك كفر ...)، ثم يستمر الراوي للحديث بشكل مفاجيء عن مأساة حسين فخ ــ الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن ــ على يد الخليفة الهادي، حيث حُمِل إليه الاسرى الابرار، فاخذ الهادي ينشد شعرا، وراح يقتلهم واحدا بعد واحد بيديه ! وفيما كان ينال منهم إلى أن جاء ذكر الامام الكاظم عليه السلام فقال: (والله ما خرج حسين إلاّ عن أمره، ولا اتَّبع إلاّ محبته، لأنَّه صاحب الوصية في أهل هذا البيت، قتلني الله إنْ ابقيتُ عليه)، ولكن شفاعة الفقيه الحنفي ابو يوسف للإمام بل شهادته بالبراءة هي التي أنجت الامام من بطش هذا الخليفة الجبار، فقد أكد الفقيه المذكور للهادي بان الخروج على السلطان ليس من مذهب الإمام الكاظم، لا هوولا واحدا من ولده، ويستمر الراوي ليخبرنا (... وكتب عليٌ بن يقطين إلى أبي حسن موسى بن جعفر عليه السلام بصورة الأمر، فورد الكتاب، فلما أصبح ـ أي الإمام الكاظم عليه السلام ـ أحضر أهل بيته وشيعته فاطلعهم عليه السلام على ما ورد عليه من الخبر وقال لهم: ما تشيرون في هذا ؟) وفيما ينصحه الأهل والاصحاب بالابتعاد عن هذا الطاغية يتبَّسم الإمام، ليخبرهم بعد ذلك أن الهادي يُنعى في أول كتاب ياتي من العراق ! ولمّا يساله الاهل والاصحاب عن مصدر علمه، يخبرهم بما نصٌّه: (بينما أنا جالس في مصلاَّي بعد فراغي من وردي، وقد تنوَّمتُ عيناي، إذ سنح جدَّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامي، فشكوت إليه موسى بن المهدي، وذكرتُ ما جرى منه في أهل بيته،وأنا مشفق من غوائله)، فاخبره النبي بان الهادي العباسي هذا هالك ولن ينل منه شيئا، ويكمل الراوي حديثه بالقول: (... ثم قمنا إلى الصلاة وتفرَّق القوم فما اجتمعوا إلاّ لقراءة الكتاب الوارد بموت موسى بن الهادي، والبيعة لهارون الرشيد) 17.

في سند هذه الرواية مِن أكابر الوضَّاعين في الرواية الشيعية، هو: ابو الفضل الشيباني، محمَّد بن عبد الله بن محمد الشيباني، وجلٌّ الشيعة من حملة الرواية (يغمزونه ويضعِّفونه) 18، فضلا عن أن كل من رُسم باسم (محمد بن يزيد) لم يرد فيه توثيق بما فيهم من كانوا اصحاب الصادق أو الكاظم 19، ولم اعثر فيما عندي من مصادر على ترجمة لابي الوضاح هذا رغم وروده في سند دعاء الجوشن الكبير، اتمنى أن يدلني عليه آخرون . هذه الرواية يذكرها صاحب المناقب ابن شهراشوب مرسلة وبما نصُّه: (علي بن يقطين،وعبد الله بن احمد الوضاح قال: لما حُمِل راس صاحب فخ ...) 20، وفي السند نقرا:عبد الله بن أحمد الوضاح ! ولم اعثر على ترجمة له في ما عندي من مصادر .

هذه الرواية يرويها بشكل مختلف ابن بابويه: (المكتّب عن الوراق، عن علي بن هارون الحميري، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن ابيه، عن علي بن يقطين، قال: أُنهي الخبر إلى ابي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام وعنده جماعة من اهل بيته ...)، ويتغيب في خبره قصة الرؤيا تماما، بل إن الإمام يتوجه الى الله بالدعاء من اجل الخلاص ويستجيب الله دعاءه، ويختم بالقول: (فما اجتمعوا إلاّ لقراءة الكتاب الوارد عليه بموت موسى المهدي / كذا /) 21، وعلي بن هارون لم يوثَّق 22، وعلي بن محمد بن سليمان النوفلي هو الآخر لم يوثق كما مرّ بنا سابقا، وسياتي حديث عن ابيه في كلامنا عن الإمام الكاظم في خلافة هارون الرشيد .

 

رسالة غريبة

وأغرب ما روي في هذا المجال أن الإمام الكاظم ارسل رسالة مطوَّلة لإم موسى الهادي العباسي ـ الخزيران ـ يعزيها بوفاة ابنها الخليفة ! وفيها من عبارات الإجلال والتكريم للخليفة ما يدهش العقل (نسأل الله أن يصلي على أمير المؤمنين وأن يرحمه ويلحقه بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وبصالح سلفه، وأن يجعل ما نُقِل إليه خيراً مما أخرجه ... كُتِب يوم الخميس لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة سبعين ومائة)!23، الذي يسهل الخطب في هذا الخبر إنَّه مرسل بامتياز، وفي سنده ايضا: (عن بعض من ذكره)، ويعلق البحراني على الخبر بقوله:

(أقول: أنظر إلى شدَّة التقية في زمنه عليه السلام،حتى أحوجته إلى أن يكتب مثل هذا الكتاب لموت كافر لا يؤمن بالحساب، فهذا يفتح لك من التقية كلَّ باب)24.

الرواية ضعيفة بطبيعة الحال، ولا ندري الاسباب الكامنة وراء اختلاقها، تُرى هل هي من دس المحسوبين على الخلافة بشكل وآخر، أم هي من اختلاقات بعض رجال الرواية الشيعية لتبرير نوع من انواع التقية ؟ والحقيقة إن تضمُّن السند مثل (عن بعض اصحابنا، عمَّن ذكره) وما شابه يثير الكثير من الشبه والشكوك حول مثل هذه الروايات .

المحصِّلة النهائية التي يمكن أن نخرج بها من هذا العرض السريع فيما يخص علاقة الإمام بالخليفة الهادي العباسي هو إننا لا نملك معلومات دقيقة عن ذلك، أما فيما يتعلق بعلاقة الامام بثورة حسين فخ، فسياتي الكلام عنها في مكان آخر.

 

مع هارون الرشيد

كلامي هنا عن حاله سلام الله عليه مع هارون الرشيد خارج موضوعة السجن، فلهذه الموضوعة أو القضية فصلها الخاص بها لاهميتها في حياة هذا الامام الكبير ...

لقد خصص البحراني في عوالمه لذلك في أكثر من باب تحت عنوان عريض هو: (ابواب أحواله عليه السلام مع هارون الرشيد) وقد وزَّعها على تسعة ابواب حسب موضوعاتها، وقد احصيت عدد الروايات التي جاءت في ذلك فكان عددها اثني وعشرين رواية،وقراءة سريعة لهذه الروايات تطلعنا على ما يلي: ـ

1: معظمها مخدوش سندا و/أو متنا .

2: إن بعضا منها يصب في صالح الخليفة هارون الرشيد بشكل مبطَّن خفي .

3: بعضها لا يتناسب مع كرامة وعلو وعزة الإمام الكبير .

4: خلو هذه الروايات من رواة متقدمين في جسم الرواية الشيعية ومن المتقدمين لدى الامام الكاظم نفسه، كما سنرى لاحقا .

هذه بعض الملامح السريعة فيما يخص هذه الروايات، والآن نأخذ في التفاصيل .

يروي صاحب المناقب رواية طويلة جدا، ملخَّصها أن الرشيد كان في حج ــ ومن المفيد هنا أن نذكر، إن مؤرخي سيرة الرشيد يحرصون على القول بان الرشيد كان كثير الحج، حتى قالوا: إن الرشيد انهى خلافته بين حج وغزوة، وسوف اناقش هذه القضية في فصل لاحق، إذ لم تكن سوى معلم من معالم كتابة التاريخ لارضاء الملوك والخلفاء واهل القوة والسلطة ــ وحيث أفردوا له الطواف، يبتدر (أعرابي البيت، وجعل يطوف معه)، ولم ينفع معه محاولات الحجُّاب ردعه، وكان الاعرابي قوي الحجة بالرد على الحجَّاب، بل كا ن كلما طاف الرشيد (طاف الاعرابي أمامه)، ونهض قبله لتقبيل الحجر الاسود، وعندما همَّ الرشيد أن يصلي في المقام سبقه الاعرابي فصلَّى أمامه، وفي هذه الاثناء اضطر الرشيد أن يجاري الاعرابي، ودعاه للجلوس معه، هنا يبدا فصل جديد من السرد المحبوك ! حيث يبدا حوار طويل بين الرشيد وهذا الاعرابي حول الكثير من مسائل العقيدة والدين والفقه، وكان الرشيد هو السائل والاعرابي هو المسؤول ! وكان الرشيد كريماً جدا مع الاعرابي، فقد وهبه بدرتين غاليتي الثمن، وينتهي السرد الخيالي الجميل بخاتمة هي النتيجة التي سيق لها كل هذه المقدمات الغريبة، فقد جاء ما نصُّه: (وأخذ الاعرابي البدرتين وخرج ـ من البيت الحرام حيث كان الحوار الجميل ــ فتبعه بعض الناس، وساله عن اسمه، فإذا هوموسى بن جعفر عليه السلام، فاخبر ها رون بذلك) 25، هذه الرواية تبين لنا كيف كان هناك محاولات مخيالية للإنتصار للأئمة عليهم السلام، ليست هي كذبة بقدر ما هي محاولة ترضي نفس مخترعها، ربما حبا، ربما اعجابا، ولكن في النتيجة إنها من صناعة المخيال الجامح، هل كانت هناك جماعة من الرواة همهم مثل هذه الصناعة سواء بدافع الحب أو الغرض أو الحصول على مكاسب ومنافع ؟ معارك العقيدة والسياسة تصنع كل شيء، وتبتدع كل شيء، والرواية تستبطن فنا دقيقا، فهي توحي بان الإمام مسدَّد من الله، وإلاّ ما الذي يمنع هؤلاء الحجَّاب من منع الامام واقتياده الى السجن ؟ فهو لا يملك تلك القوة التي تحول دون منعه واقتياده الى مصير مجهول ! سرد محتشد بالعقيدة والخيال، العقيدة مضمونا والخيال اسلوبا في تاسيس هذا المضمون، في الوقت إن المضمون ليس بحاجة الى مثل هذا الاسلوب الجميل ! صاحب المناقب ابن شهراشوب يرويها مرسلة عن الفضل بن ربيع ورجل آخر، ولست أدري ما هو السر وراء اخفاء هذا الرجل الآخر، ولست أدري ما هو السر وراء اخفاء سلسلة السند من طرف ابن شهراشوب ؟

اورده صاحب (الروض الفائق في المواعظ والرقائق) لمصمنفه الشيخ شعيب أبو مدين المصري المتوفي سنة (801) للهجرة، باختلاف كبير، ويعلق محقق كتاب (عوالم البحراني) على هذا الاختلاف بين رواية ابن شهراشوب ورواية ابو مدين المصري بقوله: (أقول: ما اورده صاحب الروض الفائق القسم الثاني من الرواية شبيه بمناظرة الإمام محمَّد الجواد عليه السلام مع يحي بن اكثم في حضرة المامون، كما ورد ذك في إرشاد المفيد ... ضمن مناظرة طويلة،وفي تحف العقول ... والظاهر أن الرواية فيها خلط) 26،وكان الاولى بالمحقق أن يقول بعد ذلك أن الرواية مفتعلة .

وفي رواية سردية أخرى عن كتاب (عيون أخبار الرضا) للصدوق نقرأ: إن المأمون، الخليفة العباسي يكشف عن إيمانه بالتشيع ويعلل سبب إيمانه بالتشيع بسرد حكاية طويلة، ليعلن أن الذي علَّمه التشيع هو هارون الرشيد ! كيف وهو الذي أقام المجازر المفجعة بهذا البيت الكريم؟

لقد كان هارون الرشيد في حج بيت الله الحرام، ولم يسمح لأيٍّ من سكنة المدينة والحجاز بما فيهم الهاشميين أن يدخل عليه الاّ ويصرِّح عن نسبه، ليكون عطاؤه حسب المنزلة والمقام ! وفيما الحجَّاب ينظمون مواكب الزائرين يدخل الإمام الكاظم على الرشيد فيامر الرشيد بان (لا ينزل إلاّ على بساطي)، أي نزل من راحلته على بساطه، كان احتفاء الرشيد بالامام في غاية الاهتمام والسمو، يتوجه الرشيد للإمام ليسأله: (يا ابا الحسن ما عليك من العيال ؟ فقال يزيدون على الخمسائة)، يقصد الاولاد والحشم والخدم والموالي ! ثم يساله: (فهل عليك دينٌ)، فيجيب الامام: (نحواً من عشرة آلاف دينار) فكان هذا الحوار بينهما: ـ

الرشيد: يابن عمّ أنا أعطيك من المال ما تزوِّج به الذكران والنسوان وتقضي الدين وتعمِّر الضياع .

الإمام: وصلتك رحم يابن عمّ، وشكر الله لك هذه النيَّة الجميلة، والرحم ماسَّة، والقرابة اشجة، والنسب واحد، والعباس عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالب عليه السلام وصنو ابيه، وما ابعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك، وأعلى محتدك .

الرشيد: افعل ذلك يا ابا الحسن .

وتستمر السردية السامرة هذه، حتى يهم الامام بالخروج فيودِّعه الرشيد بحنان وحب واحترام، ثم يقبل على (المأمون) ليسرَّه بانه سيكون خليفة المسلمين وقال له: (إذا ملكت هذا الامر فاحسن إلى ولدي) !

المأمون يسال أباه عن ماهية هذا الرجل الذي حظي بكل هذا الاحترام والتقدير، فيجيبه الرشيد: (أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بنيّ إنَّه لاحق بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منِّي، ومن الخلق جميعا، والله لو نازعتني هذا الأمر لاخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم)، ثم يورد مناورة لـ (مخارق المغنِّي) يحتال بها على الرشيد لاخذ المال، ولكن مخارق هذا يقصد الامام فورا، ليقول له: (قد وقفت على ما عاملك به هذا الملعون، وما أمر به لك،وقد احتلت ُ عليه لك، وأخذتُ منه ثلاثين ألف دينار، وإقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيِّدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، وما اخذته إلاّ لك ...) ولكن الامام يستعلي على ذلك كله ويقول له: (بارك الله لك في مالك، واحسن جزاءك، وما كنت لأخذ منه درهما واحدا، ولا من هذه الأقطاع شيئا، وقد قبلتُ صلتك وبرَّك، فانصرف راشدا، ولا تراجعني في ذلك، فقبَّل يده وانصرف) 27، وقد روى ذلك صاحب مدينة المعاجز، وحلية الأبرار وإثبات الهداة، وغيرهم!

هذه الرواية بمثابة لعبة، ولعبة غير متجانسة الحبكة، ويبدو لي أن الهدف البعيد منها المامون ذاته، اضفاء الشرعية عليه، شرعية الخلافة، ومن ثم تبرير ولاية العهد للرضا عليه السلام، يوم كان المامون بحاجة إ ليها، صحيح أن اللعبة كانت دقيقة في بيان دور السلطة والقوة والحكم في صناعة التاريخ، ولكن في الوقت ذاته كانت غير متجانسة في علاقة عناصرها بعضها ببعض، والمامون نجح في تأمين التاييد الرباني لخلافته، فالامام اعلمه غيبا، والغيب تحقق، وبهذا تؤدي الرواية وظيفة الجمع بين الغيب والشهادة في خدمة السلطة وصناعتها، ولكن علينا أن ننتبه إلى منزلة العباس في الرواية، العباس بن عبد المطلب، لقد فهو عمّ النبي، وصنو أبي النبي ... إيحاء خفي إلى حق بني العباس بالخلافة، حيث سيتولاها المامون فيما بعد !

الرواية عن المأمون، والمأمون هو المبشَّر غيبيا بالخلافة، والغريب أن المامون لم يكن يعرف الإمام حين كان في زيارة أبيه هارون !

يروي مثلها الصدوق في أماليه وعيونه عن المامون ايضا، والاحتجاج يروي قطعة منه !

في كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد نلتقي بسردية طويلة، والسردية عبارة عن حوار عقدي وفقهي بين الإمام وهارون الرشيد على أثر وقوع (طومار) بيد هارون الرشيد دوَّنه بعض غلاة الشيعة يحتوي على بعض العقائد التي من شانها تهديد السلطة وإشاعة الفاحشة والموبقات، وما شابه ذلك، لقد أنكر الامام هذا الكتاب وحكم عليه بالبطلان، مما جرَّ إلى نقاش ومناظرة بين هارون الرشيد وبعض مفاصل العقيدة الشيعية، منها انتساب الائمة للنبي فيما هم من نسل فاطمة وعلي، وحديث عن آية المباهلة وغير ذلك من مواضيع هي محل خلاف بين المسلمين، وللشيعة فيها راي خاص، ويتخلل السرد شكوى الإمام لهارون من التضييق عليه وعلى شيعته، وقبل أن يُختم الحوار يطلب الرشيد من الامام ان يدوِّن (كلاما موجزا، له أصول وفروع، يُفهم تفسيره، ويكون ذلك سماعك من أبي عبد الله ـ اي الصادق عليه السلام ـ) فما كان من الإمام الاّ أن يجيبه: (نعم، وعلى عيني يا أمير المؤمنين) ثم يُختم تلك الخاتمة التقليدية (قال ـ أي الرشيد للإمام ـ فإذا فرغت فارفع حوائجك ...) 28.

قبل كل شيء ينبغي أن اركز على نقطة منهجية هنا، أن صحة الافكار في الحوار وقوتها لا يعني بالضرورة أن الرواية صحيحة، فإن كثيرا من الناس من يذعن بصحة الرواية لأنها تتضمن افكاراً واخباراً ثابتة ومعروفة ...

الرواية عليلة السند، ففضلا عن كون الاختصاص منسوبا للشيخ المفيد، إنَّما هو نسخة مستخرجة بخط أبي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران الذي لم يُعرَف حاله 29، ولكن مالنا نذهب بعيدا والسند ضعيف، فإن محمَّد بن اسماعيل العلوي لم يوثّق 30، والزبرقان ايضا لم يوثَّق 31، وقد رواه في استدراك الوسائل عن هارون بن موسى التلعكبري باسناده إلى علي بن أبي حمزة المرفوض الرواية من كل علماء الشيعة، ثم هناك فراغ بين هارون بن موسى وعلي بن أبي حمزة هذا، ورواه صاحب تحف العقول مرسلا، ولا ينبغي أن تخدعنا هذه الكثرة من الإحالات لانها أما مرسلة أو ضعيفة أو تعود في النهاية الى مصدر واحد ضعيف بحد ذاته .

الرواية يتخللها شعور بالضعف النفسي بالنسبة للإمام تجاه سطوة هارون الرشيد وجبروته، وفي نهاية الرواية جملة تثير الاستغراب والاستهجان حقا، حيث يقول الإمام كما تزعم الرواية ما نصُّه: (وقام ـ أي الرشيد ـ ووكَّل بي من يحفظني، وبعث إليَّ في كل يوم بمائدة سرية) 32 .

ليس المهم أن ينتصر الإمام على الرشيد بمنطق الحجة والدليل، بل المهم هنا ان يشعر الامام بالضعف والإذعان باي صورة من الصور، وأن يشهد التاريخ أن الرشيد كان يساعد الإمام ماليا !

تُرى كيف كانت الخاتمة ؟

تقول الخاتمة وقد انهى الإمام الكتاب الموجز إنه أخبر الحاجب إنْ يسال الرشيد إن ْبقيت هناك حاجة ؟ وفيما ياتي الجواب بالرضا وعن حاجته، يجيب الإمام: (يا أمير المؤمنين، اوَّل حاجتي إليك أن تأذن لي في الإنصراف إلى أهلي، فإني تركتهم باكين آيسين من ان يروني أبدا، فقال: مأذون لك، أزدد، فقلتُ: يبقى أمير المؤمنين لنا معاشر بني عمِّه، فقال: أُزدد . فقلتُ: عليَّ عيال كثير، وأعيننا بعد الله ممدودة إلى فضل أمير المؤمنين وعادته، فامر لي بمائة ألف درهم وكسوة وحملني إلى أهلي مكرَّما) 33، وفي تصوري إن الخاتمة هي المطلوبة من هذه الرواية، اي بيان كرم الرشيد ومدى وفائه بمدا صلة الرحم !، ولست أدري كيف لموالي أو مخلص أو شيعي متدين عارف بكرامة الإمام وعلو شان الامام، بل العارف بالمنزلة الاجتماعية والاخلاقية للإمام أن يروي مثل هذه الروايات الساذجة ويعدها من كرامات الإمام وربما من معجزاته ؟!

يروي الصدوق: (أبو أحمد هاني بن محمد بن محمود العبدي رضي الله عنه، عن ابيه بإسناده رفعه إلى موسى بن جعفر عليه السلام، ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتين يُجبَى لهما الخراج ؟ فقلتُ: يا امير المؤمنين ...) 34، والسردية تتضمن حوراً علمياً طويلا حول بعض مفردات العقيدة الشيعية الإمامية، ولكن للاسف الشديد الرواية ضعيفة بـ (رفعه)، وكثيراً ما يبدو بها الامام ضعيف الشخصية أمام الرشيد، خائفا، مترددا، وكانه لم يكن ذاك الامام العلوي الذي ورث العلم والشجاعة والإباء !

هذه اهم الاخبار والروايات عن احوال الامام الكاظم عليه السلام مع الهادي والرشيد العباسيين، لا تصمد للنقد ولا تؤسس ثقافة اصيلة عن حياة هذا الإمام الطاهر، اما عن اخباره في زمن الرشيد فيما يخص سجنه وشهادته فهو نصيب الحلقة الاتية إن شاءالله تعالى

 

..................

المصادر

(16) نقلا عن عوالم البحراني ص 229 .

(17) نفسه ص 223 .

(18) معجم الخوئي 16 رقم 11115 .

(19) نفسه 18 ص 45 ـ 49 .

(20) مناقب آل ابي طالب 4 ص 331 .

(21)عيون اخبار الرضا 2 ص 79ح 7 .

(22) معجم الخوئي 12 رقم 8564 .

(23) عوالم البحراني ص 235 نقلا عن قرب الإسناد .

24) نفسه .

(25) نفسه ص 237 .

(26) نفسه ص 243، الهامش .

(27) عيون اخبار الرضا 2 ص 88 .

(28)الاختصاص 54 .

(29) مشرعة البحار 1 ص27 .

(30) معجم الخوئي 15 رقم 10249 .

(31) نفسه 16 رقم 10753 .

(32) الاختصاص 58 .

(33) نفسه .

(34) عيون اخبار الرضا 78 .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2239الثلاثاء 09 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم