دراسات وبحوث

مجريات اعتقال الامام الكاظم .. تحقيق وقراءة / غالب حسن الشابندر

ولكن لم نملك معطيات كثيرة ومفيدة عن الكثير من حوليات سجنه، لا ندري تاريخ إيداعه السجن، ولا نعرف مدة سجنه، ولا نعلم هل بقي في بغداد بعد إطلاق صراحه أم رحل إلى مدينة جدِّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنْ كان الارجح أنه رحل فعلا . وإذا كان هناك كلام حول مدى صدق رواية سجنه في زمن المهدي فإن المؤكد إنه سُجِن على يد الرشيد، بل هذه هي النقطة البارزة في حياة هذا الإمام الروحاني الكبير .

الاخبار والروايات حول سجنه استفاضت به كتب التاريخ والتراجم والرجال، سواء كانت سنية أو شيعية، وهي كاي حادث كبير في تاريخ الإسلام جاءت أخبارا ورويات متضاربة، غير منسجمة، تتفاوت بين الأجمال والتفصيل، سواء حول سبب السجن أو مدته أو ماحصل للإمام داخله، نحاول هنا استجلاء هذه الحوليات باستعراض ما نعثر عليه من روايات واخبار، بعيدا عن المسبقات العقدية جهد الإمكان .

نظراً لأهمية الحدث بالنسبة للشيعة كانت اخباره مستفيضة في كتب الشيعة من تراجم ورجال، ورغم إنه الحدث الذي يجب أن يسترعي الدقة هنا، ولكن جاءت الاخبار في غاية الخلط والخبط والتشوش، واستخلاص الراجح منها مهم ومفيد بالنسبة لنا، لان الخبر الصحيح أو الراجح يؤسس لمعرفة راجحة.

 

1

نصادف صورتين عن سبب أخذ هارون الرشيد للإمام وسجنه، وذلك حسب الروايات المدوَّنة في كتب التاريخ والتراجم .

الصورة الاولى: إن هارون الرشيد كان في بيت الله الحرام، وكان حاضرا الإمام ا لكاظم عليه السلام، تقدَّم الرشيد ليسلِّم على النبي الكريم بلغة العمومة ـ السلام عليك يا عمّ ـ تفاخرا وتباهيا، فما كان من الإمام إلاّ أن يسلم على رسول الله بلغة الابوة ـ السلام عليك يا أبه ـ افتخاراً وشرفا، الامر الذي استغاظ الرشيد، فاخذه معه إلى بغداد واودعه السجن هناك، هذا هو ملخص الحكاية، وفيها روايات كثيرة، وهي على قسمين: ـ

القسم الأول: روايات تتحدث عن الحدث مجرَّدا عن نتيجته الكبرى، أي مجرَّدا عمَّا ترتب عليه، أو مجرَّداً عما رتّب عليه الرشيد من أثر، حيث اصطحب معه الإمام، بل سيَّره من هناك مخفورا عبر مراحل ناتي على تفصيلها لاحقا .

1 / (1 ـ 1) يروي الكليني المتوفي سنة 329: (عدَّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد،عن علي بن حسَّان،عن بعض أصحابنا قال: حضرتُ أبا الحسن الأول عليه السلام وهارون الخليفة وعيسى بن جعفر بن يحي بالمدينة قد جاؤا إلى قبرالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال هارون لأبي الحسن عليه السلام: تقدَّم فأبى فتقدَّم هارون فسلَّم وقام ناحية، وقال عيسى بن جعفر لأبي الحسن عليه السلام: تقدَّم فابى فتقدَّم عيسى فسلَّم ووقف مع هارون .

فقال جعفر لابي الحسن عليه السلام: تقدَّم فابى فتقدَّم جعفر فسلَّم ووقف هارون، وتقدَّم أبو الحسن عليه السلام فقال:السلام عليك يا ابة اسال الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدى بك أن يصلي عليك فقال هارون لعيسى: سمعت ما قال؟ قال: نعم، فقال هارون: أشهدُ أنَّه أبوه حقا) 1 .

نلاحظ على هذه الرواية ضعف السند قبل كل شيء، وذلك بـ (عن بعض أصحابنا)، وسهل بن زياد ضعيف جدا، وعلي بن حسان هو الآخر ضعيف جدا !

الرواية شبه مخدومة، أي مفبركة هنا، فإن مطاوي الرواية توحي إن الإمام كان يخطط لمثل هذا القول سلفا، أو إنه كان يريد أن يعرف ماذا سيقول هارون الرشيد حتى يعقبه بما يرِّده ! هذا هو سر اصرار الإمام أن يكون هارون الرشيد هو الباديء بالسلام !

مرَّة أخرى أعود إلى صيغة (عن بعض اصحابنا)، إنَّها صيغة مشبوهة للغاية، تُرى أي أهداف تكمن وراءها ؟

2 / (1ـ 2) يروي الخطيب البغدادي المتوفي سنة 463: (أخبرنا القاضي ابو العلاء محمد بن علي الواسطي، حدَّثنا عمر بن أحمد الواعظ، حدَّثنا الحسين بن القاسم، حدَّثني أحمد بن وهب، أخبرنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: حج هارون الرشيد قبر النبي صلى الله عليه وسلم زائراً له، وحوله قريش وأفياء القبائل، ومعه موسى بن جعفر فلما انتهى إلى القبر قال: السلام عليك يا رسول الله، يا ابن عمي، افتخاراً على من حوله، فدنا موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا ابة، فتغيَّر وجه هارون، وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقا)2 .

يعاني السند هذا من ثغرة كبيرة، ذلك أن مصدره هو عبد الرحمن بن صالح الازدي، وهذا الراوي ثقة عند علماء الجرح والتعديل من السنة ولكنه توفي سنة 235 للهجرة 3، وبالتالي، لم يبين لنا مصدره، فهي رواية منقطعة، والراوية خالية من كثير من المفردات التي وردت في رواية الكافي، ولكن فيها ايضا زيادة، تشير إلى اضطراب الرشيد، فيما يعترف الرشيد في رواية الكافي (سرِّيا) بأبوة النبي الكريم للإمام، فهل قوله في هذه الرواية، اي قول الرشيد (هذا هو الفخر يا ابا الحسن حقا) هي البديل عن ذلك الاعتراف ؟! رواها عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء، ورواها عنه ابن خلكان في وفيات الاعيان،

3 / (1 ــ 3) يروي الشيخ المفيد المتوفي سنة 413: (قالوا:ولما دخل هارون الرشيد المدينة ... فتغيَّر وجه الرَّشيد، وتبيَّن الغيظ فيه) 4، الرواية مرسلة، والمفيد اعتمد رواية الخطيب كما يبدو، لانها خالية من كثير من مفردات الرواية عن طريق الكليني، بل تكاد تكون طبق رواية الخطيب، مع زيادة هي: (وتبيَّن غيظه)، وسوف نلتقي برواية أُخرى للمفيد في مكان آخر، ينسب فيها الشيخ المفيد سبب أخذ الإمام بالسعي به، وقد أجلت إيرادها هنا لسبب يتعلق بتقنية البحث .

 

4 / (1 ــ 4) يروي الشيخ الطوسي المتوفي سنة 460: (وعنه ـ الكليني ـ عن عدة من اصحابنا ...) ويسوق الحديث 5، ويعلق المصحح على الرواية بانها ضعيفة!

هذه اهم مصادر ومخارج هذه الرواية، وما يرويه الآخرون إنما بالاعتماد المباشر أو غير المباشر على هذه المصادر، وذلك مثل كامل الزيارات وحلية الابرار والوسائل وكنز الكرجكي، واعلام الورى، وغيرها، والرواية ضعيفة بامتياز .

هناك من يبني على هذه الرواية الضعيفة، فيروي أو يذكر إنّما الرشيد حبس الامام بسبب هذا الموقف، وهو حقا موقف جريء وذو معنى نقدي تهكمي تقريبا، ولكن للاسف الشديد الرواية ضعيفة، وما يبنى على رواية ضعيفة ضعيف أيضا .

2

الصورة الثانية: إن سجن الإمام جاء على أثر سعاية به إلى الخليفة الحاكم هارون الرشيد، سعاية مغرضة وشت به الى الخليفة من أنه يجمع الانصار وتجبى له الاموال، مما فسّر ذلك لدى الرشيد بأنه عبارة عن تمهيد للقيام بعمل ما ضد سلطانه !

ولقد وردت الاخبار بهذه السعاية باربعة اسماء، منها من يذكر بان الساعي كان محمَّد بن اسماعيل بن جعفر الصادق، اي ابن أخي الامام، ومنها من يذكر بأنه كان علي بن اسماعيل بن جعفر الصادق، اي ابن اخي الامام الآخر، والثالثة محمَّد بن جعفر الصادق،أي أخوه بالضبط، والرابعة الزيدي يعقوب بن داود .

5 / (2 ــ 1) يروي أبو فرج الاصبهاني المتوفي سنة (356) أن سبب أخذ الإ مام الكاظم هو سعاية علي بن اسماعيل بن جعفر لدى الرشيد بتدبير سابق من يحي بن خالد البرمكي، وقد مضى ملخَّص السعاية في كلام سابق، والباعث هو الطمع بالمال، ويروي الاصبهاني ان الإمام الكاظم كان يانس الى ابن اخيه علي، وربما يضفي إليه باسراره، وفيما يعلم الامام بان البرمكي كان قد استدعى عليا الى بغداد شعر الامام بالمؤامرة، فكان هناك حوار مثير بين الامام وابن اخيه علي، حاول من خلاله ثنيه من السفر ولكن لم يستطع رغم أنه تعهد بحل كل مشاكله المالية التي تحجَّج بها علي بن اسماعيل للقاء البرمكي في بغداد، وهناك حيث يصل الى بغداد يلتقي الرشيد فساله عن أحوال عمِّه فاخبره بانه تجبى له الاموال والضياع من المشرق والمغرب، ولما حجّ الرشيد في تلك السنة مبتدا بقبر النبي، فخاطب النبي بقوله: (يا رسول الله إني أعتذر إليك من شيء، اريد أن افعله، أُريد أن احبس موسى بن جعفر، فإنه يريد التشتت بين امتك وسفك دمائها، ثم أمر به فأُخذ من المسجد، فأُدخِل عليه فقيَّده ...) ثم سيَّره الى الحبس عبر مسافة طويلة سوف ناتي عليها 6 .

إن التحليل الدقيق لرواية الاصبهاني يكشف عن أن الساعي الحقيقي بالامام لدى الرشيد هو يحي بن خالد البرمكي، فهو الراس المدبِّر للمؤامرة، وما علي بن اسماعيل بن جعفر سوى أداة، ضحية، اي لم يكن سوى سبب قريب، أما السبب البعيد فهو يحي بن خالد البرمكي، وهذا إنما دبر كل هذه المؤامرة خوفا من أن يخسر هو واولاده الخلافة بعد الرشيد أو المنزلة العالية التي يحظى بها البرامكة لدى الرشيد فيما تولى الخلافة محمد الأمين، الذي كان قد تعهد بتاديبه جعفر بن محمَّد الاشعث، الذي كانت ميوله علوية !

سبق أن استعرضت هذه الرواية وقلت انها ضعيفة بسنديها، كما أن بعض معالم الضعف يكمن بالاسناد الجمعي .

6 / (2 ــ 2) يروي الكليني المتوفي سنة 329: (عليٌ بن ابراهيم،عن محمَّد بن عيسى، عن موسى بن قاسم البجلي،عن علي بن جعفر قال: جاءني محمَّد بن اسماعيل وقد اعتمرنا بمكَّة فقال: يا عمّ إني أريد بغداد، وقد احببتُ أن أُودِّع عمِّي أبا الحسن ـ يعني موسى بن جعفر عليه السلام ـ وأحببت أن تذهب معي إليه...)، وبالفعل طبق الرواية يتم اللقاء بين الامام وبين الاثنين، وفي اللقاء حيث علم الامام بان محمّد بن اسماعيل بن جعفر يريد السفر إلى بغداد، تقول الرواية إن الامام حذَّره أن يكون سببا في هدر دمه ! وكان يهيل عليه المال بعد المال دون ان ينقطع شره محمّد بن اسماعيل بن جعفر ! وهناك في بغداد دخل على هارون وقال له: (ما ظننتُ أن في الإرض خليفتين حتَّى رأيتُ عمِّي موسى بن جعفر يُسلَّم عليه بالخلافة، فارسل هارون إليه بمائة ألف درهم، فرماه الله بالذبحة، فما نظر منها إلى درهم ولا لامسه) 7 .

هذه الرواية صحيحة لدى علماء الشيعة، ولكن الساعي في المؤامرة هو ابن اخي الامام الكاظم (محمد بن اسماعيل بن جعفر) وليس ابن اخيه (علي بن اسماعيل بن جعفر)، وبالتالي، هناك اختلاف بين رواية الاصبهاني ورواية الكليني باسم الساعي الحقيقي، ففي الاصبهاني كان الساعي القريب هو علي بن اسماعيل بن جعفر، والساعي البعيد هوخالد بن يحي البرمكي، فيما هو في رواية الكليني هو محمد بن اسماعيل بن جعفر، ويغيب تماماً دور يحي بن خالد البرمكي !

7 / (2 ــ 3) يروي الصدوق المتوفي سنة 381: (حدَّثنا محمد بن إبراهيم بن اسحق الطالقاني، رضي الله عنه، قال: حدَّثنا محمد بن يحي الصولي، قال حدَّثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله، عن علي بن محمَّد بن سليمان النوفلي، عن صالح بن علي بن عطية، قال: كان السبب في وقوع موسى بن جعفر عليها السلام إلى بغداد ...) ويسوق الرواية متشابهة في بعض مفرداتها مع رواية الاصبهاني، ولكن يختلف عنه بنقاط جوهرية، منها: إن الصدوق يسند الوشاية أو السعاية راسا الى يحي بن خالد البرمكي: (... قال علي بن محمَّد النوفلي: فحدَّثني أبي أنه كان سبب سعاية يحي بن خالد بموسى بن جعفر عليها السلام وضع الرشيد ابنه محمد بن زبيدة ...)، ومِمَا جاء في رواية الصدوق (... وكان موسى بن جعفرعليهما السلام يامر لعلي بن اسماعيل ويثق به حتى ربما خرج الكتاب منه إلى بعض شيعته بخط علي بن اسماعيل، ثم استوحش منه) 8 .

يروي الصدوق في ذات الرواية: (... قال النوفلي: فحدَّثني علي بن الحسن بن علي،عن عمر بن علي، عن بعض مشايخه، وذلك في حجة الرشيد قبل هذه الحجة، قال: لقيني علي بن اسماعيل بن جعفر بن محمَّد فقال لي: ما لك قد أخملت نفسك ؟ ما لك لا تدبر أمور الوزير ؟ فقد أرسل إليَّ فعادلته وطلبت منه الحوائج إليه ...)، وهذه القطعة لم ترد في رواية الاصبهاني، إلاّ أنها ضعيفة بالارسال، كما أن علي بن حسن بن عمر لم يوثّق 9 .

يختم الصدوق روايته: (... فلما أراد الرشيد الرحلة إلى العراق بلغ موسى بن جعفر يريد الخروج مع السلطان إلى العراق بلغ موسى بن جعفر ان عليا ابن اخيه يريد الخروج مع السلطان إلى العراق، فارسل إليه: مالك َ والخروج مع السلطان ؟ قال: لانَّ عليَّ دينا، فقال: دينكَ عليَّ، قال فتدبير عيالي ؟! قال أنا اكفيهم، فابى إلاّ الخروج، فارسل إليه مع أخيه محمد بن اسماعيل بن جعفربثلاثمأة دينار واربعة آلاف درهم، فقال له: اجعل هذا في جهازك ولا تؤتم ولدي) 10.

هذه القطعة من الرواية مربكة حقا، ومهما يكن نستفيد منها لو صحّت إنَّ موضوعها حصل في الحجة السابقة على حجة الرشيد التي استصحب بها موسى بن جعفر عليه السلام من المدينة إلى بغداد، ولما كانت حجّة الحبس كانت في سنة 179 للهجرة، فإن اكبر الظن ان مجريات هذه الحادثة حصلت سنة 178 للهجرة، أقول اكبر الظن ولا أجزم بذلك، ويمكن أن نستشف من الرواية إن عليا بن اسماعيل بن جعفر هذا لم ينزح لبغداد لمقابلة الرشيد بغية السعي بالامام الكاظم قبل هذه السنة، اي سنة 178، وإن تدبير الامر أو تجنيده من قبل يحي بن خالد البرمكي تمت قبل هذا التاريخ، وإنّما كان علي بن اسماعيل ينتظر فرصة حج الرشيد كي يلقي له بالسعاية، والسؤال تُرى لماذا نزح معه إلى بغداد ولم يكتف بالسعاية بالامام عند الرشيد وهو في المدينة ؟

الرواية تربك السرد السابق كما انها تربك سرد الاصبهاني، وتبقى لغزا من الصعوبة حلُّه، وفي مثل هذه الحالات يستبعدها الباحث،خاصة وهي شبه نتوء طاريء في جسم السرد عموما .

الرواية ضعيفة بسندها الرئيس كما بينت في مكان سابق، كما أن قطعتها الخاصة بخبر علي بن حسن بن عمر ضعيفة ايضا، وهذه القطعة التي نحن في صددها تكاد ان تكون نتوءا شاذا في جسم الرواية، ولكن لا ننسى أن الساعي في هذه الرواية هو ابن اخي الامام علي بن اسماعيل وليس محمد ابن اسماعيل !

ولكي نأتي على تشريح واف للرواية، نتساءل عن هوية جعفر بن محمَّد الاشعث .

تروي كتب الرجال أن جعفر هذا كان (عاميا) ثم (استبصر) نقلا عن رواية على لسانه يرويها الكليني في الكافي، فنقرا فيه: (أبو علي الاشعري، عن محمد عبد الجبار، عن صفوان بن يحي، عن جعفر بن محمد الاشعث قال: قال لي: أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الامر ومعرفتنا به ؟ وما كان عندنا منه ذكرٌ ولا معرفة شيء مِمَّا عند الناس، قال: قلتُ له: ما ذاك ؟ ...)، يدعي الاشعث هذا ان أبا جعفر المنصور كلّف خاله، اي خال الاشعث، بان ياخذ مالا ويذهب إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن وعدَّة من بيته بما فيهم جعفر بن محمد، ويعرض عليهم المال واحدا واحدا بحجة أنه مال أتى أليهم من شيعة لهم في خراسان، على أن ياخذ منهم خطوطهم التي تدل على استلامهم للمال، وفعلا، ذهب هذا العميل فيما كُلِّفه به، فلما رجع ساله الدوانيقي عن النتيجة فقال له: (أتيت القوم، وهذه خطوطهم بقبضهم المال خلا جعفر بن محمَّد، فإنِّي أتيته وهو يصلِّي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلستُ خلفه، وقلتُ حتى ينصرف فاذكر له ما ذكرت لاصحابه، فعجَّل وانصرف، ثم التفت إليَّ فقال: يا هذا اتقِّ الله ولا تغرْ اهل بيت محمد فانهم قريب العهد بدولة بني مروان وكلهم محتاج، فقلتُ: وما      ذاك ؟ اصلحك الله، قال: فأدنى رأسه منِّي وأخبرني بجميع ما جري بيني وبينك حتَّى كانَّه كان ثالثنا، قال: فقال له أبو جعفر: يا ا بن مهاجر ـ اسم العميل المكلَّف وهو خال جعفر بن محمد الاشعث ـ إعلم انه ليس من أهل بيت نبوَّة إلاَّ وفيه محدَّث وإن جعفر بن محمَّد محدَّثنا اليوم، وكانت هذه هي الدَّلالة سبب قولنا بهذه المقالة) 11.

الرواية لا تقنع العاقل اللبيب، فهي أوَّلا على لسان صاحبها، على لسان جعفر بن محمَّد الاشعث، لا ندري مدى صدقه مسبقا كي نحكم بصدقه هنا، ثم هل من المعقول أن يكون ابناء البيت الحسني بهذه الغباوة بحيث يعطون خطوطهم التي تثبت بانهم استلموا مالا من جهة مجهولة تدعي أنها من شيعتهم وانها على صلة بشيعة لهم في خراسان ؟ أي كلام هذا واي سرد مفضوح هذا ؟ إنها لعبة الرواة الذين يبغون تثبيت اهداف مبيتة مدروسة، ولا ندري ماذا كان موقف الدوانيقي من هذا العميل المكلَّف وهل حقا صدَّق كلامه بخصوص جعفر بن محمد الاشعث؟ وهل احد من البيت الحسني لم يعترض ويرفض المال ؟ ولا ندري ايضا ما هو موقف ابن المهاجر هذا ؟ هل بقي عاميا ام تحول الى شيعي إمامي اثنى عشري كما هو ابن اخته المزعوم جعفر بن محمد الاشعث ؟

الرواية في سندها محمد عبد الجبار، وربما الشيباني، لم يوثَّق 12، فكيف بعد نطمئن إلى هذه الرواية فيما يخص جعفر بن محمَّد الاشعث ؟ ولو حقا أن جعفر بن محمَّد الاشعث قال بذلك إلى صفوان، وصفوان صدَّقه فإنما يدل على بساطة صفوان وطيب قلبه وفطرته، ولكن ربما هي رواية ينقلها صفوان عن الاشعث هذا وحسب، وليس يدل ذلك على تصديق صفوان له، هذا فيما إذا كان حقا ان الاشعث تحدث بذلك إلى صفوان، وقد تكون حبكة كاملة بتدبير واختلاق محمد بن عبد الجبار الشيباني، فالرجل لم يوثَّق، لغاية في نفسه والله العالم .

الرواية تستدعي في وارد استيفائها ان نتساءل عن موقف علي بن اسماعيل بن جعفر من أخيه وهو يعلم نيَّة اخيه خيانة عمِّه الكاظم، هذا ما قد نتعرض له لاحقا بإذن الله تبارك وتعالى .

8/ (2 ــ 4) يروي الصدوق: (حدثنا الحسين بن ابراهيم بن احمد بن هشام المؤدِّب رضي الله عنه، قال: حدَّثنا علي بن ابراهيم بن هاشم، عن محمَّد بن عيسى بن عبيد،عن موسى بن القاسم البجلي، عن علي بن جعفر، قال: جاءني محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمّد وذكر لي: أن محمد بن جعفر دخل على هارون الرشيد فسلَّم عليه بالخلافة، ثم قال له: ما ظننتُ أن في الارض خليفتين حتَّى رايت أخي موسى بن جعفر عليهما السلام يُسلَّم عليه بالخلافة، وكان ممن سعى بموسى بن جعفر عليهما السلام، يعقوب بن داود وكان يرى رأي الزيدية) 13 .

في هذه الرواية يزداد الارتباك، فالساعي بالامام لدى هارون الرشيد هو اخو الامام الكاظم، الذي هو محمد بن جعفر بن محمد ! فهو ليس محمد اسماعيل بن جعفر، ولا علي بن اسماعيل بن جعفر، بل عمهما محمد بن جعفر، اخو الإمام الكاظم ! والرواية على لسان اخي الامام الكاظم الآخر، اي علي بن جعفر بن محمد، وهنا نلتقي بمفارقة كبيرة، ذلك إن علياً بن جعفر ـ اخو الإمام الكاظم عليه السلام ــ سبق وأن روى لنا على لسانه في الرواية 6 (2 ــ 2) في الكافي بان الساعي بالامام لدى الرشيد هو: (محمد بن اسماعيل بن جعفر)، اي ابن اخي الامام الكاظم، فيما في هذه الرواية 8 (2 ــ 4) ـ ينقل لنا علي بن جعفر هذا / اخو الامام / على لسان ابن أخيه محمد بن اسماعيل بن جعفر بان الساعي هو عمّ علي بن اسماعيل بن جعفر، اخو علي بن جعفر بن محمد، وموسى بن جعفر بن محمد عليه السلام، واسمه محمد بن جعفر بن محمد، كما سبق وأن روى لنا الصدوق ايضا في الرواية 7 (2 ــ 3) من ان الساعي هو علي بن اسماعيل بن جعفر، فكيف لم يلتفت إلى هذه المفارقات ؟

9 / (2 ــ 5): يروي الشيخ المفيد المتوفي سنة 413 (قالوا: فخرج علي بن اسماعيل حتى أتى يحي بن خالد، فتعرَّف منه خبر موسى بن جعفر عليهما السلام، ورفعه إلى الرشيد وزاد عليه، ثم أوصله إلى الرشيد فسأله عن عمِّه فسعى به إليه وقال له:إنَّ الاموال تُحمَل إليه من المشرق والمغرب ...) ـ 2 ص 238 ـ

والرواية بالاسناد الجمعي كما هو واضح، ولكنها تتجنب تفاصيل إعداد علي بن اسماعيل بن جعفر التي سبق وأن صادفتنا في رواية الاصبهاني والصدوق، ويستمر المفيد لينقل لنا: (... وخرج الرشيد في تلك السنة إلى الحج، وبدأ بالمدينة، فقبض فيها على أبي الحسن موسى عليه السلام، واستدعى قبَّتين فجعله في إحداهما على بغل ... ثم أُمر به فأُخذ من المسجد فاُدخِل إليه فقيَّده ... وأمر القوم الذين كانوا مع قُبَّة ابي الحسن أن يسلِّموه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ـ وكان على البصرة حينئذٍ فسُلِّم إليه فحبسه عنده سنة، وكتب إليه الرشيد في دمه، فاستدعى عيسى بن جعفر خاصَّته وثقاته فاستشارهم فيما كتبَ به الرشيدُ، فاشاروا بالتوقف عن ذلك والاستعفاء منه، فكتب عيسى بن جعفر إلى الرشيد يقول له: قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي ... فوجَّه الرشيد منْ تسلَّمه من عيسى بن جعفر، وصيِّرَ به إلى بغداد، فسُلِّمَ إلى الفضل بن الربيع، فبقي عنده مدَّة طويلة، فأراد الرشيدُ على شيء من أمره فابى، فكتب إليه بتسليمه إلى الفضل بن يحي فتسلَّمه منه، وجعله في بعض حُجَرِ داره، ووضعَ عليه الرصْد ...)، ويستمر المفيد بحكايته حتى يصل إلى مرحلة تسليم الإمام الى السندي بن شاهك فحبسه عنده ـ ص 241 ـ

رواية المفيد ليس فيها شيء جديد سوى نقطة مهمة، هي امر الرشيد الامير العباسي عيسى بن جعفر المنصور بقتل الامام، ولكن الامير رفض ذلك وحاول التخلص من مسؤولية استمرار حبس الامام في سجنه.، وليس هناك ما يؤيد خبر المفيد هذا، فهل هي ايحاءات اللاشعور هي التي املت مثل هذا الكلام حيث لا شاهد على ذلك ؟

ويروي ضمن هذا السرد الطويل بلغة التمريض قضية شكاية الرشيد النبي عند قبره لما سوف يقدم عليه من سجن الإمام (ويُقال: أنه لما ورد ـ الرشيد ـ المدينة استقبله موسى بن جعفر عليه السلام في جماعةٍ من الاشراف، وانصرفوا من استقباله، فمضى أبو الحسن على رَسْمِه، وقام الرشيد إلى الليل، وصار إلى قبْرِ رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله، إنِّي أعتذر إليك من شيء، أريدُ أن أفعله، أريدُ أن احبِس موسى بن جعفر، فإنَّه يريد التشتيتَ بين أمتك،وسفك دمائها) ـ ص 239 ـ

يبدو لي أن المفيد ينقلها بلغة التمريض لانه لا يعقل بان مثل موسى الكاظم يستقبل الخليفة العباسي المغتصب للخلافة حسب عقيدة المفيد، كما أن من غير المعقول أن يستشفع الرشيد النبي الكريم باعتقال الامام، فمثل الرشيد لا يستشفع بنبي، وهو يقدم على عمل يجد فيه انقاذا او احترازا لملكه وسلطانه.

هناك إذن خبط شديد في تحديد وتشخيص من سعى بالامام الكاظم لدى هارون الرشيد، هل هو محمد بن اسماعيل بن جعفر على رواية الكليني أوهو علي بن اسماعيل بن جعفر على رواية الصدوق أم هو محمد بن جعفر، اي اخيه على رواية الصدوق ايضا، وهناك خبط داخل كل رواية خاصة في ما نقل على لسان اخي الامام المخلص له، المؤمن به، اي علي بن جعفر،حيث تارة يروي بان الساعي هو محمد بن اسماعيل بن جعفر طبق الكليني، وتارة يروي على لسان ابن اخيه الذي هو محمد بن اسماعيل بن جعفر بان الساعي بالامام للرشيد هو العم اخو الامام الكاظم محمد بن جعفر بن محمد!!

أي خبط هذا ؟

ان الذي يسهل الخطب حقا هنا، ان محمد بن عيسى بن عبيد ضعيف جدا .

إن المخرج من كل هذا هو اعتماد رواية الكليني لانها صحيحة حسب معطيات علمي الدراية والحديث الشيعيين، حيث يشخص الساعي بانه ابن ا خي الامام المدعو محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد، ولذلك لا موجب لحل او محاولة الحل التي ابداها صاحب كشف الغمة، إذ قال: (مات ـ الإمام الكاظم ـ في حبس الرشيد وقيل: سعى به جماعة من اهل بيته، منهم: محمد بن جعفر بن محمد اخوه، ومنهم اسماعيل بن جعفر بن اخيه، والله اعلم) 14، ولكن المجلسي في كتابه البحار يقول في تعليقه على الرواية التي تتهم عليا بن اسماعيل بالسعاية: (ثم إنّ في بعض الروايات محمد بن اسماعيل، وفي بعضها عليٌ بن اسماعيل، ويمكن أن يكون فعل كلُ منهما ما نُسِبَ إليه ...) ـ المصدر ص 240 ـ وهو تصور معقول بطبيعة الحال، ولكني أرجح الاعتماد على صحيحة الكليني .

وتضيف الرواية ان ممن سعى ايضا بالامام هوالزيدي يعقوب بن داود، وهذا من ائمة الزيدية الكبار، تقلب في المناصب العباسية، وكانت له ادوار معهم بين الشدة والرخاء، ولم تذكر الرواية تفصيل سعايته بالامام الكاظم، ولكن سنتحدث عن علاقته بالامام الكاظم لاحقا بإذن الله .

 

ثانيا: مجريات الاعتقال

انطلق في البحث حول مجريات الاعتقال من اعتماد رواية الكليني الصحيحة حسب معطيات علمي الرجال والدراية الشيعيين، والتي تفيد بان الساعي بالامام كان ابن اخيه محمد بن اسماعيل بن جعفر، ويعبجني هنا أن استمزج راي الشيخ محسن آصف في كتابه مشرعة البحار حيث يقول: (واعلم أن مدلول صحيحة الكافي عن علي بن جعفر عليه السلام،إنَّ الذي سعى بالكاظم عند الجبار العباسي هارون هو محمد بن اسماعيل بن جعفر،دون علي بن اسماعيل، ودون محمد بن جعفر ...) ـ مشرعة البحار 2 ص 186 ـ وسوف أهمل تلك المفارقة في صيغة السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الخليفة الرشيد والإمام الكاظم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ان احتمال تعدد مصدر السعاية بالامام وارد ولكن سوف لا اعتمده في ترتيب نتائج، ومن جهة ثالثة، لا اعتقد إن سبب السعاية بالامام سواء من قبل محمد بن اسماعيل أو علي من اسماعيل أو من قبل أ خيه محمد بن جعفر كان بهدف الحصول على المال، فليس صعبا على مثل هذه البيوتات الحصول على المال، وقد عرض الامام على ابن اخيه محمد بن اسماعيل بن جعفر مالا كثيرا، ولكن الموما إليه اصر على الذهاب الى هارون الرشيد، والذي اراه انه صراع بالجوهر سياسي، وجاهي، فهؤلاء سعوا بالامام لما كان بين الإمام وبيت اسماعيل بن جعفر من نزاع حول الامامة والزعامة، وإذا كان للمال دور فربما في سياق هذه المعادلة المتشابكة المعقدة، قد لا يكون هناك داع لإثارة هذه النقطة الآن لعدم علاقتها بجوهر ما نريد الحديث عنه الآن، ولكنه قد ينفعنا في الاثناء، وسوف اعاود الحديث فيه عندما اتطرق الى العلاقة بين الامام وعشيرته واقاربه باذن الله .

 

1

يروي الكليني: (... وكان هارون حمله معه من المدينة لعشر ليال بقين من شوال سنة تسع وسبعين ومائة، وقد قدم هارون من المدينة منصرفه من عمرة شهر رمضان، ثم شخص هارون إلى الحج وحمله معه، ثم انصرف على طريق البصرة، فحبسه عند عيس بن جعفر، ثم اشخصه إلى بغداد فحبسه عند السندي بن شاهك، فتوفي عليه السلام في حبسه) 15 / 1ص 476 /

هذه صورة مضغَّرة لمجريات الحبس أو الاعتقال، والكليني يرويها مرسلة، ولكن هناك تفاصيل أكثر ...

يروي الاصبهاني: (... وحجَّ الرشيد في تلك السنة ـ 179 ـ فبدأ بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... ثم أمر به ـ بالامام ـ فأُخِذ من المسجد فأُدخِل عليه فقيَّده ... فامر الرسول أن يسلمه إلى عيسى بن جعفر المنصور، وكان على البصرة حينئذٍ فمضى به، فحبسه عنده سنة، ثم كتب إلى الرشيد: أنْ خذه مني وسلِّمه إلى من شئت ... فوجَّه من تسلمه منه، وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد، فبقي عنده مدة طويلة، وأراه الرشيد على شيء من أمره فابى، فكتب إليه أن يسلمه إلى الفضل بن يحي، فتسلمه منه ...) وتستمر الرواية لتقول لنا بان الرشيد امر الفضل بن يحي بتسليم الامام إلى السندي بن شاهك، وقد توفي في سجنه ببغداد 16 / مقاتل الطالبيين ص 335 /

هذه قطعة من رواية الاصبهاني سبق وأن تطرقنا لها، وهو يرويها بثلاث طرق، الطريق الاول بلغة الاسناد الجمعي (قالوا)، والطريق الثاني هو: (... حدَّثنا علي بن محمَّد النوفلي، عن أبيه)، والطريق الثاني هو: (... حدَّثني يحي بن الحسن العلوي)، وكلا الطريقين ضعيف، ولكن كما يبدو لي أن القطعة الآنفة من الرواية، هي بسند ه عن علي بن محمَّد النوفلي، عن ابيه، والذي يساعد على هذا الاستنتاج، ان الصدوق يروي هذه القطعة من رواية الاصبهاني بذات السند، فقد روى لنا: (الطالقاني، عن محمّد بن يحي الصولي، عن احمد بن عبد الله، عن علي بن محمّد بن سليمان النوفلي قال: سمعتُ أبي يقول: لما قبض الرشيد ... حُمِل موسى بن جعفر عليه السلام سرّاً إلى بغداد وحبِس، ثم أُطلق، ثم حُبِس، ثم سُلِّم الى السندي بن شاهك فحبسه، وضيَّق عليه، ثم بعث إليه الرشيد بسم في رطب، وأمره أن يقدمه إليه، ويحتم عليه تناوله منه ففعل، فمات صلوات الله عليه) 17/ ص 84، وذلك بعد أن ثبَّت في كلام متقدم ان الرشيد سجن الامام في البداية في سجن الامير العباسي عيسى بن جعفر بن ابي جعفر المنصور، إذ جاء في الرواية: (...لما قبض الرشيد على موسى بن جعفر عليه السلام وهو عند راس النبي قائماً يصلي فقطع عليه صلاته وحُمِل إليه وهو يبكي ويقول: إليك اشكو يا رسول الله ما ألقى، وأقبل الناس من كلِّ جانب يبكون ويضجُّون، فلمَّا حُمِل بين يدي الرشيد شتمه وجفاه، فلمّا جنَّ عليه الليل أمر ببيتن فهُيِّا له فحُمِل موسى بن جعفر أحدهما في خفاء ودفعه إلى حسَّأن السروي،وأمره أن يصير به في قبَّة إلى البصرة، فسلَّمه إلى عيسى بن جعفر أبي جعفر، وهو أميرها، ووجَّه قبة أُخرى علانيَّة نهاراً إلى الكوفة معها جماعة ليُعمِّي على الناس أمر موسى بن جعفر عليه السلام ... فما مضت بعد ذلك إلاّ أيام حتى حُمِل موسى بن جعفر سراً إلى بغداد، وحبِس، ثم أُطلق، ثم سُلِّم إلى السندي بن شاهك، فحبسه وضيَّق عليه ...) 18، عيون اخبار ا لرضا ج 1ص 82 ح 10/

فهذا التطابق يوحي بان قطعة رواية الاصبهاني التي تتحدث عن مراحل انتقال أو تنقل الامام من سجن إلى سجن إنما هي برواية النوفلي الاب هذا، وفيها زيادة واضحة، اي تفاصيل أكثر

الذي احدسه أن مصدر هذه التفاصيل هو محمَّد بن سليمان النوفلي، وبالتالي، من الضروري ان نسال من هو محمَّد بن سليمان النوفلي ؟ لم ترد له ترجمة معتبرة في المصادر، سوى كونه روى عن موسى بن جعفر عليهما السلام، وروى عنه ابنه هذه التفاصيل، ولكن من جانب آخر يحدثنا هو عن نفسه على لسان ابنه في صلب روايته هذه، فمن هو يا تُرى ؟

الذي نستفيده من كلامه عن نفسه، إن الرجل كان ضمن طاقم العباسي عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور الذي كان اميراً على البصرة للخليفة هارون الرشيد، والذي كان الامام الكاظم سجينا لديه لمدة سنة في في رواية، وإنه كان مقدما وموثوقا لدى عيسى بن بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، ويقول انه تعرَّض لسعاية لدى اميره العباسي هذا من طرف (علي بن يعقوب بن عون بن العباس بن ربيعة) 119 / نفسه ص 83 /، والموما إليه لا نعرف عنه شيئا، ولكن النوفلي الاب يصفه بانه من مشايخ بني هاشم (وكان أكبرهم سنَّاً،وكان مع كبر سنِّه يشرب الشراب)، ولكن لماذا سعى به ؟ الجواب من خلال السرد طمعا بلقاء وحظوة الامير العباسي على البصرة، اي عيسى بن جعفر بن ابي جعفر المنصور، وكيف حصلت السعاية ؟

إن علي بن يعقوب هذا كان نديم حاجب الاميرالعباسي، واسمه أحمد بن أسيد، وكان علي يجلب له الشراب والمغنين والمغنيات في بيته حيث كان: (يطمعُ أن يذكره لعيسى)، ومن خلال هذه العلاقة الوطيدة دفع أحمد بن اسيد رقعة إلى الامير العباسي كان فيها: (إنَّك تقدم علينا محمد بن سليمان في إذنك وإكرامك وتخصَّه بالمسك وفينا من هو اسنُّ منه ـ يقصد الهاشمي علي بن يعقوب ـ وهو ـ أي النوفلي ـ يدين بطاعة موسى بن جعفر المحبوس عندك) 19 / نفسه ص 83 /، والرقعة المرفوعة كما هو واضح بالاتفاق بين الهاشمي وبين الحاجب، والذي نستفيده من هذه القطعة من رواية النوفلي عن نفسه إنَّ الرجل كان من المتقدمين والمحظوظين لدى الامير العباسي جعفر بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، ولكن هل نستفيد من ذلك ايضا إنَّه كان حقا مِمَّن يدين بطاعة موسى بن جعفر عليه السلام ؟ يبدو ذلك أيضا .

السؤال هنا: كيفَ عَلِمَ محمد بن سليمان النوفلي بخبر هذه الرقعة التي دفعها الحاجب الى الامير العباسي وبالاتفاق مع الهاشمي السكير ؟

يروي النوفلي ذلك بما معناه: أن شخصا اسمه (قعنب بن يحي) أخبره بذلك، وقعنب هذا لا نعرف عنه شيئا، يبدو أنه أحد المقربين بشكل وآخر من الامير العباسي، ولكن مَنْ الذي نقل الخبر إلى قنعب هذا ؟ يقول النوفلي ان الذي اخبر قنعب هو: (الفضيل بن أبي صالح)، ولكن منْ هو هذا الأخير ؟ يحكي لنا النوفلي عنه في صلب الرواية بانه: (كان نصرانيا، ثم أظهر الإسلام،وكان زنديقا، وكان يكتب لعيسى بن جعفر، وكان خاصَّاً بي) 20 / نفسه ص 82 /

إذن السعاية وصلت للامير العباسي، وقد وصل الخبر بها إلى النوفلي عبر شخص اسمه قعنب بن يحي، وهذا إنَّما نقلها إلى النوفلي الاب عن كاتب الامير عيسى بن جعفر بن ابي جعفر المنصور، والكاتب هذا نصراني أظهر الاسلام فيما هو زنديق اصلا، وكان صديق النوفلي،ويبدو أن صداقتهما كانت وطيدة، بدليل إنه كان ينقل للنوفلي تفاصيل ضروب السلوك المستهتر الذي كان يسمعه الامام الكاظم وهو في سجنه لدى الامرالعباسي (يا ابا عبد الله ـ القائل هو النصراني المسلم الزنديق،والمخاطب هو النوفلي ـ لقد سمع هذا الرجل الصالح ـ الإمام الكاظم ـ في أيامه هذه، في هذه الدار التي هو فيها ـ دار سجنه لدى الامير العباسي ـ من ضروب الفواحش والمناكير ما أَعلمُ،ولا أشكُّ أنه لم يخطر بباله) 21 / نفسه ص 82 ـ 83 /

ولكن إلى اين وصلت قصة السعاية هذه ؟

لم تؤثر في الامير العباسي ابدا، وبقي النوفلي كما يبدو عنصرا مهما من عناصر الطاقم العباسي المحيط بوالي الرشيد في البصرة، إن الأمير العباسي كان مطمئنا إلى النوفلي، ولم يصدِّق الساعي، هذا ما أخبر به الاميرُ العباسي كاتبه النصراني اصلا، المسلم نفاقا، الزنديق حقيقة وهوية، أي الفضيل بن أبي صالح، ولكن في رواية

الاعتماد على رواية النوفلي تفيدنا بان الامام مرّ بالمراحل التالية من خلال اعتقاله: ـ

المرحلة الاولى: سُجِن في البصرة لدى عيسى بن جعفر بن ابي جعفر المنصور، وكانت مدة السجن سنة كما في أكثر الروايات .

المرحلة الثانية: سُجِن في بغداد لدى الفضل بن الربيع، وكانت مدة سجنه في هذا السجن طويلة حسب رواية الاصبهاني .

المرحلة الثالثة: أيضاً في بغداد لدى الفضل بن يحي البرمكي، ولم تتحدث المصادر عن مدة سجنه .

المرحلة الرابعة: أيضا ًفي بغداد لدى السجَّان السندي بن شاهك، واستشهد في هذا السجن، ولم تبين المصادر مدة سجنه لدى هذا الجلواز.

ونستفيد من الرواية أن تنقُّل الامام من سجن إلى آخر بسبب موقف السجّانين أو الذين وكِّل بهم أمر سجنه، فالامير العباسي كان يريد التخلص من تبعة سجنه، خاصة ولم ير منه ما يشين أو يهدد السلطة، بالعكس رأ ى منه التقوى والصلاح، وحسب رواية المفيد أن الرشيد كان قد طلب من الامير أن يقتل الامام، ولكن الامير تخلص من ذلك بطريقة ذكية، ومن ثم طلب من الرشيد اخذه، والفضل بن يحي أبى أن يقوم بعمل لانهاء حياة الامام بامر الرشيد، فاضطر الرشيد تسليمه إلى الفضل بن يحي البرمكي، وهذا كان ذا سلوك طيب مع الامام فعاقبه الرشيد عقابا شديدا، ونقل الامام من سجنه الى سجن الجلواز السندي بن شاهك، ولكن في رواية النوفلي نقطة فارقة مع رواية الاصبهاني، فإن النوفلي يروي لنا بان الامام اطلق صراحه من السجن مرّة ثم اعيد إليه (... وحبس ـ في بغداد ـ ثم أُطلِق، ثم حُبِس، ثم سلِّم إلى السندي بن شاهك)، والسؤال هو: متى أُطلق صراح الامام من خلال هذه المراحل من الاعتقال ؟ يبدو أنه كان بعد المرحلة الثانية من الا عتقال، اي اطلق صراحه من سجن الفضل بن الربيع، ثم أعيد إلى السجن مرة ثانية، وكان سجن الفضل بن يحي ينتظره ! ولم تبين لنا المصادر أي شيء عن اطلاق صراحه هذا، ولا عن المدة التي قضاها خارج السجن، وربما نأتي على تجلية هذه النقطة في سطور قادمة .

يتبع

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2244 الأحد 14 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم