دراسات وبحوث

الشهرستاني وتأسيس هوية العلم الفلسفي / ميثم الجنابي

للقرن السادس الهجري أمام ثلاث مدارس كبرى مختلفة في تعاملها مع التراث الفلسفي. وهي التراث الإغريقي المترجم مثل (الآراء الطبيعية) و(تاريخ الفلاسفة) الذي ركز على آراء الفلاسفة الطبيعية. بمعنى اهتمامه بإنجازات العلم الفلسفي في مواقفه من قضايا الطبيعة وما وراء الطبيعة، دون إهمال للفلسفة الأخلاقية. بينما مثل الفن الإسلامي لكتابات الحكمة الفلسفية التيار الإغريقي الأخلاقي والعملي، كما نعثر عليه بصورة نموذجية في (صوان الحكمة) و(الحكمة الخالدة) و(نوادر الفلاسفة) و(مختار الحكم ومحاسن الكلم) وغيرها من المؤلفات الشهيرة آنذاك. وقد أفرغ هذا النموذج العلم الفلسفي من محتواه الوجودي والميتافيزيقي والمعرفي. بعبارة أخرى أنه افرغ الفلسفة من محتواها المنطقي الصارم. أما علم الملل والنحل الإسلامي فقد ظهر في بداية الأمر ضمن التيار العام لوعي الذات الإسلامي في خضم صراع الفرق الدينية ـ السياسية (الكلامية). وأدرج تطوره اللاحق في فلك تأملاته وجدالاته عوالم الفلسفة "الوثنية" و"الإسلامية". ذلك يعني أن لكل من هذه النماذج الكبرى تقاليده وموضوعاته وغاياته الخاصة. وإذا كان نموذج فن الحكمة والنوادر الإسلامي أكثر قربا من التقاليد الإغريقية في جعل حكم الفلاسفة مادته الأساسية، فان علم الملل والنحل الإسلامي أكثر قربا من تقاليد الدوكسوغرافيا الإغريقية في محاولاتها تصنيف المدارس والفرق. إلا أن علم الملل والنحل الإسلامي تميز إلى جانب ذلك بسعة احتوائه للمدارس والثقافات. فهو لم يقف في مجرى تطوره عند حدود عالم الإسلام، ولم يكتف بفرقه الكلامية، بل وتحول تاريخ وعقائد الأديان التوحيدية وغيرها وكذلك فلسفة الإغريق وحكمة الحضارات الهندية والفارسية القديمة والعربية الجاهلية إلى موضوع اهتمامه المباشر. ولعل الشهرستاني هو أكثر من مثل هذا الاتجاه. مما جعل من مهمته أكثر تعقيدا وبالتالي أكثر عرضة للزلل. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار مستوى تطور ودقة المعارف المتداولة آنذاك في الأوساط العلمية. وسواء وعي الشهرستاني ذلك أم لا، فإنه أنجز توليفه الفكري لإنجازات هذه النماذج الثلاثة من خلال تجسيد المبادئ العامة التي بلورها في مقدمته النظرية عن تحديد وعرض فرق الإسلام والأديان التوحيدية (الملل) وآراء النحل (المدارس الفلسفية) المختلفة.

استعمل الشهرستاني واستقى من النموذج الإغريقي والإسلامي اغلب المعلومات المتعلقة بآراء الفلاسفة وحكمهم. وحاول أن يعطي لها طابعا فلسفيا ونظريا من خلال إبراز جوانبها العقلية والمعرفية. وأشار بهذا الصدد إلى أنه وجد الكثير من الحكم المتفرقة في الكتب لكنه يوردها بالصيغة التي توافق سوق مرامه وطرد كلامه. فعندما يتعامل مع الحكم المنسوبة إلى أوقليديس (ت 275/270 ق.م) فإنه يورد منها تلك التي تتميز بطابع فلسفي كما في قوله "الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية". وعندما يورد الحكمة المنسوبة إلى ديمقريط عن انه "لما كان الإنسان مضطر الحدوث كان معزول الولاية عن قلبه. وهو بقلبه أكبر منه بسائر جوارحه. فلهذا لم يستطع أن يتصرف في أصله لاستحالة أن يكون فاعل أصله"، نراه يعلق عليها قائلا، بأن لهذا الكلام شرح آخر حاول من خلاله إظهار التمايز بين العقل والحس. فالإدراك العقلي لا يتصور الانفكاك عنه، وفي حالة تمكن الإنسان من هذا الإدراك فمن الصعب تصور نسيانه الاختياري أو الإعراض عنه بخلاف الإدراك الحسي. وهذا بدوره يدل على أن العقل ليس من جنس الحس. وفي حديثه عن هوميروس يورد حكمته القائلة، بأنه "لا خير في كثرة الرؤساء". ويعلق عليها قائلا: "وهذه حكمة وجيزة تحتها معان شريفة، لما في كثرة الرؤساء من الاختلاف الذي يأتي على حكمة الرئاسة بالإبطال. ويستدل بها أيضا في التوحيد". من هنا يتضح بأن الشهرستاني سعى جهده لإبراز قضايا الفلسفة المميزة ليس لثقافة الإغريق القديمة، بل ولمثيلها في الثقافة الفلسفية الإسلامية، من خلال إظهار القضايا المعرفية (العقل والحس)، والميتافيزيقية والوجودية. وفيما لو تتبعنا انتقاءه للحكم التي يوردها في القسم الفلسفي من كتابه ومقارنتها بما هو موجود في كتابات (الصوان) و(الحكمة الخالدة) و(محاسن الكلم) و(نوادر الفلاسفة) وغيرها، فإننا سنلاحظ منظومة الانتقاء التابعة والنابعة من تصنيف واضح المعالم لمدارس الفلسفة. فالشهرستاني لا يدرج حكم الحكماء كما هي، كما لا ينتقي من أي كان كيفما كان، بل يدرجها ضمن إطار المدارس الفلسفية، التي لم تبدع أفكارا جديدة مقارنة بمدارس الفلاسفة المتميزة. وليس مصادفة أن يدرج أغلبها فيما دعاه "بالفلاسفة الأصول".

أدرك الشهرستاني فائدة الحكمة العملية، لكنه جهد لربطها بقيمتها العلمية. وتشير حصيلة اختيارها وترتيبها إلى أن أغلبها كان يخضع لمبدأ إبراز الطابع العقلاني. أما جانبها العملي فقد كان يصب عادة ضمن إطار إدراكه لغاية الفلسفة الأخلاقية وأهميتها بالنسبة للممارسة الفردية وإدراك معنى الوجود. لذا نراه يتحدث عن الحكمة في رفض بقراط (ت - 370م) الذهاب إلى ملك فارس مقابل المال، وتفضيله خدمة قومه، وعدم أخذه الأجرة مقابل علاج الفقراء. أما مجموعة الحكم التي يصنفها على لسان الفيلسوف ـ الحاكم والحكماء ـ العقلاء فهو تعبير عن موقفه من علاقة الفلسفة ـ العملية والسياسية بالأخلاق الفلسفية. بمعنى محاولته إبراز الطابع الاجتماعي والسياسي والأخلاقي لهذه الحكم في ظل منظور أشمل للموقف من السلطة ومعنى الحياة. كما نعثر عنده على حدس عميق للإشكالية التاريخية والأخلاقية والسياسية الكبرى النابعة من تناقض السياسة والأخلاق, والحق والقوة، كما نراها في جمعه للحكم الكثيرة بهذا الصدد، وبالأخص تلك المتعلقة بالموقف من حياة وموت السكندر المقدوني.

سار الشهرستاني هنا ضمن تقاليد الفلسفة العقلانية والأخلاقية، التي تبحث في المعرفة عن أداة السعادة الحقيقية، وفي السلطة عن حكمتها في خدمة وإصلاح المجتمع. ومن الممكن القول بأنه تتبع في هذا المجال تقاليد "نصائح الملوك" الإسلامية أكثر مما تتبع تقاليد الفلسفة السياسية الإغريقية. إلا أنه صاغها في أسلوب التعارض الإيجابي بين الحكمة والسلطة، لأجل إبراز الطابع الأبدي للحكمة والعابر للقوة والسلطة. وليس مصادفة فيما يبدو أن يورد عشرين كلمة للاسكندر المقدوني تعبر عن حكمة السلطة ورجالها وثمان عشرة حكمة تدين التعارض بين الفلسفة والسياسة، والحكمة والسلطة، والأخلاق والقوة. وليس غريبا أن يورد فقط مواقف الحكماء المعارضين للمقدوني. فمنها ما هو معارض تمام التعارض لسياسة المقدوني وقيمة انتصاراته، كما في قول زينون الأصغر عنه "يا عظيم الشأن! ما كنت إلا سحاب اضمحل لما أظل، فما تحس لملك أثرا ولا تعرف له خبرا". بينما قال عنه أفلاطن الثاني "أيها الساعي المغتصب جمعت ما خذلك، وتوليت من تولى عنك. وعاد على غيرك مهنؤه وثماره". أما فوطس، فإنه قال: "إلا تتعجبون من لم يعظنا اختيارا حتى وعظنا بنفسه اضطرارا". بينما قال مسطورس: "قد كنا بالأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على القول، واليوم نقدر على القول، فهل تقدر على الاستماع؟" في حين قال ثاون: "انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى!!". وقال حكيم آخر: "طوى الأرض العريضة فلم يقنع حتى طوى هنا في ذراعين". وقال حكيم آخر: "لم يؤدبنا بكلامه كما أدبنا بسكوته". وقال آخر: "من يرى هذا الشخص فيلتق وليعلم أن الأيام هكذا قضاؤها!!" وقال آخر: "من شدة حرصه على الارتفاع انحط كله".

مما سبق يتضح، بأن الفائدة العملية للفلسفة الأخلاقية لها أبعادا معرفية في منظومة الشهرستاني. وذلك لأنه حاول استعادة المضمون العلمي للفلسفة ومهماتها وغاياتها الأصلية. واقترب هنا من تقاليد العلم الفلسفي في نماذجه الارسطية والأفلاطونية، التي اعتبرها ذروة في العلم الفلسفي رغم اختلافه العقائدي معهما. لهذا نراه يؤلف كتابا في الصراع مع الفلسفة، بينما اكتفى في علم الملل والنحل بتصنيفها وتحليلها النظري جاعلا منها أحد الأساليب المثلى في بلوغ الحقيقة. وفي هذا تكمن القيمة العلمية لإبداع الشهرستاني في تاريخ علم الملل والنحل الإسلامي. لقد جاهد من اجل إضعاف تقاليد الفلسفة السقراطية والرواقية، وإعلاء نموذجها الأرسطي والأفلاطوني. وتتبع في تحديده للعلم الفلسفي تقاليد الأرسطية. لكنه مزجها بعناصر ثقافته الخاصة. فقد عرفت الثقافة الإسلامية قبله نماذج فلسفية متنوعة. وإذا كان مفهوم الفلسفة حينذاك يتطابق مع التقاليد الإغريقية، فإن مضمونه تمحور، شأن كل تفكير فلسفي، حول دوامة القضايا التقليدية للوجود الاجتماعي والسياسي ومعضلات ما وراء الطبيعة والأخلاق.

انطلق الشهرستاني من أن الفلسفة من ناحية اللغة هي حب الحكمة. والحكمة بالتالي هي موضوع وغاية الفلسفة. إلا أن الحكمة تنقسم في الإطار العام إلى قسمين هما حكمة قولية وحكمة فعلية. وليست الحكمة القولية (العقلية) عنده سوى الحكمة العلمية التي تتطابق مع الفلسفة النظرية في صيغتها المنطقية. أنها الحكمة التي يصل إليها الفيلسوف بالعقل من خلال البراهين والاستقراء المنطقي. في حين أن الحكمة الفعلية هي كل ما يفعله الفيلسوف من أجل بلوغ غاية كمالية. لان الفيلسوف في سعيه نحو الكمال يحاكي المثال المطلق (الله). فالأول الأزلي هو الغاية والكمال، فإنه لا يفعل فعلا دون ذاته، كما يقول الشهرستاني. والحكمة التامة في فعله هي تبع الكمال ذاته. وهذا هو المقصود بالكمال المطلق في الحكمة. والحكيم (الفيلسوف) في سعيه نحو الكمال المطلق هو مثال السعي نحو الكمال المطلوب.

غير أن الشهرستاني لم يقف عند حدود التقسيم العام للعلم الفلسفي، بل وحاول الكشف أيضا عن تطوره من خلال إبراز تغير موضوعاته. فقد لازم تطور العلم الفلسفي أو الحكمة القولية تحولا جوهريا في موضوعاته من عالم الطبيعة الإلهية إلى الفكر ذاته (المنطق). وعلى الرغم من أن الشهرستاني لا يحد موقفه مما إذا كان هذا التحول خطوة إلى الأمام أم لا بالنسبة لتطور العلم الفلسفي، إلا انه يكشف عن أهمية هذا التحول الواقعي (التاريخي) في مادة العلم الفلسفي. فالأواخر من الفلاسفة خالفوا الأوائل في اكثر المسائل، كما يقول الشهرستاني. وإذا كانت مسائل الأوائل محصورة في الطبيعيات والإلهيات، أي الكلام في الله والعالم، ثم زادوا عليه الرياضيات، فإن دخول المنطق الأرسطي حول الفلسفة (الحكمة) إلى علم مستقل له ميادينه الخاصة. وهو تحول جعل منه مأثرة أرسطو التاريخية والعلمية بالنسبة للفلسفة. فقد وجد في منطق ارسطو تجريدا لإنجازات الفلسفة السابقة له. إذ لم يخل كلام الأوائل عن قوانين المنطق قط، إلا أن مأثرة ارسطو تقوم في تجريده علم المنطق من كلام القدماء كما يقول الشهرستاني.

بهذا لم يعد العلم الفلسفي مجرد تأملا عقليا حول قضايا الإلهيات والطبيعة، بل وعلما لطلب للماهيات والكيفيات والكميات، أي العلم الإلهي والعلم الطبيعي والعلم الرياضي، الذي أكمله أرسطو بالمنطق، باعتباره آلة العلوم. آنذاك اكتمل العلم الفلسفي في حلقته الأولى، مما فسح المجال أمام التعامل اللامتناهي مع ماهيات وكيفيات الأشياء والفكر. وإذا كان تطور العلم الفلسفي قد أدى بالضرورة إلى اختلاف الفلاسفة أنفسهم عن موضوعه وقضاياه، فإنهم التقوا في موقفهم من مهمة الفلسفة وغايتها بالنسبة لبلوغ السعادة الحقيقية.

فالسعادة هي الشيء الوحيد، الذي يطلب لذاته. وهي الذروة الواقعية والمثال الضروري للحكمة. والإنسان يكدح لأجل بلوغ السعادة، كما يقول الشهرستاني. وهي لا تنال إلا بالحكمة. بهذا المعنى، يشاطر الشهرستاني الافتراض الضمني لمنطق الفلسفة عن أن الحكمة هي أسلوب بلوغ السعادة. مما حدد بدوره الاستعادة التحليلية لمهمة الحكمة. فهي إما تطلب للعمل أو للعلم. من هنا نستطيع القول، بان تتبع الشهرستاني للتقاليد الفلسفية والارسطية والأفلاطونية منها بالأخص كان يهدف إلى إظهار الصلة الداخلية بين العلم النظري والعملي، باعتبارها وحدة عضوية للحكمة. ومن ثم فان الخلافات بين مختلف مدارسها حول أفضلية وأولوية العلم أو العمل هي مجرد اجتهاد لا يغير من مضمون الحكمة، بقدر ما يؤثر على صيغ فعاليتها العملية ووظيفتها المباشرة لا على غايتها النهائية. وعندما  يشير الشهرستاني إلى تقديم بعض الحكماء للقسم العملي على العلمي أو بالعكس، فانه أراد بذلك أن يبين تنوع مساعي الفلاسفة في تجسيدهم للحكمة. فمنهم من شدد على أولوية العمل فيها (عمل الخير) ومنهم من شدد على أولوية العلم فيها (علم الحق). بينما وقف هو إلى جانب الرأي القائل، بصعوبة بلوغ مرامها بدون "العقل الكامل والرأي الراجح".

لقد حاول الشهرستاني كشف طبيعة العلم والأخلاق في الفلسفة وموقع العقل في بنيتها العلمية والعملية. إلا أن هذه القضية لم تكن بالنسبة له معضلة معرفية، بقدر ما كانت جزءا من صراع الفكر الفلسفي وعلاقة الفلسفة بالدين وخصوصية انعكاسها في تاريخ الخلافة، كما تجسدت في قضايا الفيلسوف والنبي، والإلهام والوحي، والعقل والشرع وغيرها.

أما التعارض النسبي الذي يتناوله الشهرستاني عن مضمون الحكمة والشريعة والفيلسوف والنبي، فإنها كانت إحدى أشكال تجلي الخلاف الفعلي بين العلم والعمل، الخير والحق، وأولوية كل منهما بالنسبة للمثال وواقعية الغاية والوسيلة. وكتب بهذا الصدد يقول "إن الأنبياء أيدوا بإمداد روحية تقريرا للقسم العملي ولطرف من القسم العلمي، بينما الحكماء تعرضوا لإمداد عقلية تقريرا للقسم العلمي ولطرف من القسم العملي". وإذا كان الخلاف في أسلوب المعرفة ووسيلة العمل يصل في ظاهره إلى حد القطيعة، فانه لم يكن في الواقع سوى اختلاف الوسيلة. وهو اختلاف يعكس تاريخيا وثقافيا طبيعة الخلاف بين الفيلسوف والنبي في إدراك حقيقة الحكمة. فالأنبياء أيدوا بإمداد روحية، بينما الفلاسفة تعرضوا لإمداد عقلية. ولم يكن هذا الخلاف بين الإمداد والتعرض، والروحي والعقلي مجرد قضية لاهوتية ارتبطت بالتصورات الدينية عن ماهية الوعي والمعرفة، بقدر ما انه يؤكد تجانس الروح والعمل، والعقل والعلم، واختلاف أولوية العمل على الروح (المعرفة) والعلم على العقل (الفلسفة).

إذ لا يرى الشهرستاني في الإمدادات الروحية للنبي سوى تقريرا للقسم العملي، دون أن ينفي ما للقسم العلمي من أهمية. أما الإمداد الروحي فانه أيضا تقرير للقسم العلمي ولكن لطرف فيه (أي لجزء منه). وينطبق هذا على الفلاسفة أيضا. فهو يجد في تعرضهم للإمدادات العقلية تقريرا للقسم العلمي، دون أن ينفي ما للقسم العملي من أهمية. لان التعرض العقلي هو أيضا تقرير للقسم العملي ولكن لطرف منه. وحدد هذا الاختلاف في مصدر المعرفة وأسلوب تجليها ووسيلة توجهها، الغاية المميزة لكل منهما. فغاية الحكيم، هو أن يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالإله الحق بقدر الإمكان، بينما غاية النبي في أن يتجلى له نظام الكون، فيقدّر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم وتنتظم مصالح الناس، كما يقول الشهرستاني. ذلك يعني أنه يطبق بصورة متجانسة ما سبق وأن وضعه في موقفه من علاقة الروحي بالعقلي، والإمداد بالتعرض، وطبيعة العلاقة بين العلم والعمل. أما الاختلاف الذي يصل أحيانا حد القطيعة، فانه نتاج "التطرف" الوجداني في إدراك طبيعة العلاقة بين العقل والعمل، والحقيقة والأخلاق.

غير أن الشهرستاني لم ينهمك في تحليل طبيعة التناقض في هذه القضايا. لقد أراد الكشف عن وحدته الداخلية. فالفيلسوف يسعى لأن يتجلى الكون لعقله، بينما  يسعى النبي لان يتجلى له نظام الكون. وهو تباين في الغاية يشير إلى ماهية المعرفة وكيفية تأملها، كما انه يكشف عن الخلاف الفعلي بين الفلسفة والدين وبين الاتجاهات الفلسفية نفسها. لقد أراد الشهرستاني إبراز ما في خلاف العقل والأنا الكلية من إمكانية تجسيده في المواقف العملية. فالفيلسوف يسعى لأن يتجلى الكون كله لعقله الفردي. وهو أسلوب يؤدي إلى تجسيد ما دعاه الشهرستاني بالإمداد العقلي تقريرا للقسم العلمي، في حين تقوم مهمة القسم المتبقي للطرف العملي في التشبه بالإله الحق. وبما أن مهمة العقل هي الإدراك، لهذا فهو يوفر إمكانية التشبه مع مثاله المطلق. من هنا فرديته. أما النبي فانه التجسيد الحي لما دعاه الشهرستاني بالإمداد الروحي تقريرا للقسم العملي ولطرف من القسم العلمي. ذلك يعني أن النبي هو كلّ مصغر. فالكون يتجلى له، لكنه لا يبحث فيه إلا عن النظام. فهو لا ينظر إلى الكون نظرته إلى مادة أو موضوع للتأمل العقلي من أجل التشبه بخالقه. على العكس إنه ينطلق من الخالق لتأمل نظام ما هو موجود باعتباره تجل للحكمة. انه لا يبحث عن الحكمة في الحكمة، بل عن أسلوب "أنسنتها" في عالم المصالح وتنظيم شؤون المجتمع. إنه يبحث عن التجانس الممكن بين نظام الكون ونظام الإنسان الأمثل. من هنا شموليته.

كان هذا التفلسف بحد ذاته موضوع الثقافة الإسلامية وإشكالاتها التاريخية. ولم يبحث هذا التفلسف عن حلول تامة لها أطرها الخاصة، بقدر ما كان يصب عند الشهرستاني في منظومته العلمية عن الأديان والفلسفات. فقد كانت قضية الفلسفة والدين، والعقل والشرع من مسائل الثقافة الإسلامية الكبرى. أما تنظيرها العلمي في منظومة الشهرستاني، فهو تعبير عن وعيه المنهجي لتقييم الفلسفة كعلم عقلي خاص ومتميز. ويبرز ذلك بوضوح في موقفه من طبيعة العلاقة بين الفلسفة والأديان، وتأثير هذه العلاقة وامتدادها النظري في ثقافة الإسلام ومدارسه الكلامية والفلسفية. 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2275 الخميس 15 / 11 / 2012)


في المثقف اليوم