دراسات وبحوث

الإمام علي- القوة والمثال (6) / ميثم الجنابي

 

إن القلق العميق تجاه المستقبل والتألم الحزين لما يجري، أي كل ما ينحشر في وعي الذات المأساوي، يشكل طريق التنقية الروحية والبحث الأخلاقي عن النجاة. فهو الطريق الذي ينظر في مجرى تأمله الوجداني لمكونات الماضي وتعرجاته على أنها تحضير لما ينبغي أن يحدث. وبالتالي فان نهايته الحقيقية تقوم في اضمحلاله وتلاشيه التام في فعل المواجهة التي يسوقها المصير، باعتباره التيار الذي ينبغي أن يجري في خطاه كل ما كان ينبغي له أن يجري.

وهي حالة يصعب حصر مقدماتها ومعاناتها بخطابات الإمام علي وكلماته المنثورة، أو استخلاصها من أقواله وأفعاله فقط. فما وراء ذلك يكمن أيضاً "الكيان العلوي" الذائب في كينونة الإسلام، أي موقعه المتعدد الجوانب والمستويات في الضمير الأخلاقي والسياسي والفكري والروحي للأمة. فالتاريخ العابر يصنع الشخصية مرة واحدة وإلى الأبد، والتاريخ العالمي يعيد صياغتها على الدوام. لهذا فان علياً يلمع كالشهاب. فهو لم يذب وينصهر في المصير الإسلامي كقوة ما مغتربة. وفي الوقت نفسه لا يمكن فهم "مصير" الإسلام بمعزل عن مصيره الفردي. فقد طبع هو تاريخ الإسلام بوجدانية عميقة المحتوى. وأظهر في مثال تناقضاته الحية القيمة الخالدة للصراع وسمو الموت البطولي.

فبالقدر الذي أبعده صراع المصالح عن السلطة وأقعده على سدتها بالقوة، بالقدر ذاته نقله من جوف الجزيرة ومدينتها إلى أعماق العراق وكوفته. وسواء كان هذا الفعل الكبير في نقل مركز القوة، وبالتالي آفاق التطور الاجتماعي والحضاري، صدى رمزيا جديداً لتوجيه وجوه المسلمين عن القدس إلى مكة أم لا، فان مما لاشك فيه انه لم يعلن الكوفة في صراعه لان تكون قبلة العالم. لكنه أدرك قوتها الخفية عندما خاطبها مرة قائلا:"كأني بك يا كوفة تمدّين مدّ الأديم العكاظيّ، تعركين بالنوازل وتركبين الزلازل"(1). فهو لم ير في أهل الكوفة حتى في أشد حالات اغتراب جماهيرها منه سوى "جبهة الأنصار وسنام العرب"(2). ولكنه أدرك في الوقت نفسه أن الكوفة هي الهوة التي تبتلع كل من يريد ردمها.

لقد حذّر من انه ما أراد بالكوفة "جبار سوأ إلا ابتلاه الله بشاغل ورماه بقاتل"(3). غير أن التناقضات الحادة للصراع الحياتي حالما تبلغ ذروتها المأساوية، فإنها يمكن أن تقلب القوة والقدرة إلى ضعف وعجز، وتعطي لكل ما قيل ويقال معنى يتجاوز بواعث من نطق بها. فكما إننا لا نقدر على دحض ما سبق وان قاله علي بن أبي طالب من أن من صارع الحق صرعه، كذلك لا يمكننا تطبيق هذه الحكمة على حياته استنادا إلى النتائج التي أدت إليها حياته وكفاحه وموته، وإلا لتحول التاريخ والوجود إلى كتلة لا تستحق التأمل والاعتبار.

فالأرض التي أراد الاستناد إليها كانت كما قال "تمدّ مدّ الأديم العكاظي"، أما الناس الذين رغب في أن يكونوا سنده الفعلي فقد تبينوا في وقت لاحق كما لو أنهم "امرأة حامل" ألقت ولدها ميتاً وتوفي زوجها وطال بها المكوث لحالها. وهو تصوير ينتقد بحدة تحول الناس إلى كتلة فقدت مبررات وجودها وقيمتها الفاعلة والمثيرة للإعجاب. وقد وجد نفسه في نهاية المطاف أمام تلك الكتلة البشرية التي بدا وجوده بين صفوفها وجوداً جبريا خالصاً، كما نراه على سبيل المثال في إحدى كلماته التي خاطب بها جمهوره قائلا:"أما والله ما أتيتكم اختياراً ولكن جئت إليكم سَوْقاً"(4). وهي عبارة كفيلة بان تكشف عن سرّ المأساة السياسية التي وضع تاريخ العرب الإسلامي على مسرحه شخصيته البطولية ومصيرها الفردي.

ومن الممكن القول، بان المفارقة الحية للبطولة والمأساة هي الصفة المميزة لكل تاريخ أصيل. لكن هذا التقييم يبقى في الإطار العام من وحي الشاعرية المترنمة بذاتها. والقضية هنا ليست فقط في انه لا مكان للبطولة والمأساة دون الخديعة والفوز الجبان، بل وكذلك في وحدة التاريخ التي عام ما يجزئها الفعل الإرادي لأبطاله في محاولاتهم ربط الماضي بالمستقبل بأواصر وجودهم الذاتي. وما بين "مقاطع" هذا التيار اللاعقلاني يجري البحث عن عقلانية متسامية أو غاية عليا يجري من خلالها رؤية كل ما كان ويكون. فإذا كان الوعي الجاهلي أسير فكرة الدهر الخالد و الزمن البائد، فان الوعي الإسلامي لم يكن بإمكانه تجاهل الماضي و المستقبل مازالت الكائنات عرضة للزوال، ومازال الله محيطاً بكل شيء. وقد اكتفى إسلام الدعوة والرسالة بهذا القدر من النظرة العامة للتاريخ، لأنها الأكثر شمولية وتماسكاً في وحدتها. فقد تضمنت هذه النظرة في ذاتها عمقاً أخلاقياً وميتافيزيقياً غير متناه.

فقد شدد النبي محمد على الفكرة القائلة، بان المستقبل هو الماضي. ولم ينطلق بذلك من انكسار الحنين الخالص أمام خشونة الشوائب الوثنية العالقة في عاداتها وعباداتها، ولا من كون الماضي هو الأقرب إلى البداية، بل من كون المستقبل هو استعادة للماضي ولكن من منطلق الحكمة الإلهية وإرادتها. فالقرآن يتضمن، خصوصاً في آياته المكية، مختلف الصيغ المعبرة عن الرغبة العارمة لاستعادة الماضي "الأفضل" و"الأسمى". وإذا كانت الأقوام "الغابرة" لم تمتثل لإرادة الله في تبشير رسله، فإن ذلك لا يغير من قيمة الحكمة الإلهية كما هي. على العكس! انه يكشف عن حيويتها الدائمة بالنسبة لتأمل ذوي العقول والأفئدة. ومن العبث البحث في هذه الأحكام العامة عن غياب رؤية واضحة المعالم لما ندعوه الآن بقوانين التاريخ الصارمة أو إدراجها في مفهوم الجبرية المعاصر. فما وراء تقاليد المعارضة المميزة للوثنية تجاه "أنبياء الله" تتعايش القدرات غير المتناهية لاستمرار الدعوة الخالصة لوجه الله التي سعى النبي محمد إلى تجسيدها العملي. وهي العملية العاتية للمواجهة ، التي عادة ما تؤدي إلى اضمحلال الحاضر في ذكرى الماضي وتأمل المستقبل. وهو الأمر الذي اجبر "المستقبل" على استمداد قصائده من الماضي، كما نراها في الأسلوب القرآني المتميز في فكرة وصيغة الآيات -  المعجزات. فالطبيعة قادرة على إخضاع العربي بقوتها وهولها، كما أنها قادرة على إثارة شعاع الرأفة الداخلي تجاه النفس، وبالقدر ذاته قادرة على أن تبدع شموخاً روحياً بحجم "لامية العرب". غير أن الشنفري شخص واحد. ولئن أراد أن يمتلك الصحراء بشعره، فإنها امتلكت روحه وقواه. وإذا كانت هذه الظاهرة الضرورية وغير المدركة قد اتخذت في القرآن صيغة الآية الطبيعية من آيات التجلي الإلهي، فليس ذلك نتاجاً خالصاً لخيال الروح الديني، بقدر ما كانت تنبع من تصورات الإسلام الوحدانية وغريزتها الفاعلة في استثارة الحياة والمعنى في أشد أشكال الوجود جمودا ومواتاً. وقد أعطى ذلك للموقف من "التاريخ" معنى سهل الإدراك، عميق المضمون، حي الفاعلية، من خلال دورانه في فلك الربوبية، كما ستقول عنه عبارات الفكر الإسلامي الناضج. مما أسبغ عليه مسحة أخلاقية عميقة لم تستثرها مصالح السلطة واحتكار القوة ومغامرات السياسة.

غير أن هذه النظرة لم تحل دون رؤية حوادث التاريخ واستيعابها بالشكل الذي يمكن رؤية مظاهر الصراع فيه. وإذا كانت هذه الرؤية تبرز مختلف مظاهر الصراع عن الأسمى (الله)، فلأنه كوّن في فلك التاريخ بدايته الحقيقية ونهايته الحقيقية. لهذا لم يرفض القرآن ما مضى، بل ندد بالسلوك التقليدي - الوثني المتعنت تجاه الآلهة الوحدانية. ولم يبنِ موقفه هذا على قاعدة الإدانة العابرة لسلوك "الجاهلية"، بل على أساس رؤية المصير النهائي لهذا السلوك. إذ وجد فيه مصير صراع موسى وفرعون، وصالح وثمود. ذلك يعني أن القرآن يطوّع كل تنوع الماضي لخدمة وحدة الحاضر. ويبرّز وراء كل قصة قرآنية غابرة واقع الحاضر. أما رجوعه الدائم للماضي فهو صيغة استنطاقه وإعادة إدراكه العميق لما هو حوله. ومن ثم رؤية الحاضر بمرآة اليقين الغابر. بينما لا غابر في يقين. ومع ذلك فان تصورات القرآن وأحكامه لم تبن على أساس انغلاق الحركة أو دوريتها الدائمة.

فالقرآن لم ينظر إلى الماضي على انه ماض فقط. وانطلق بذلك من أن المستقبل نفسه يمكن أن يكون ماضياً. والشيء نفسه يمكن قوله عن الماضي. فالإسلام شأن كل العقائد المتسامية لم يعر اهتماماً للتجزئة الإرادية للزمن، وذلك لأنه وجد فيها انعكاسا لصيرورة الآلية الخفية للسلطة. لهذا نراه يعير اهتمامه الكبير لقيمته المعنوية باعتباره آية من آيات الله. وآيته تقوم في خروجه عن سلطة الإنسان. والمستقبل آية أيضا، لأنه لم يحدث بعد. إن هذا اللقاء والالتقاء الميتافيزيقي للماضي بالمستقبل هو الذي يجعل من الحاضر قوة ملزمة بادراك نفسها بمعايير التأمل العميق لعبرة الماضي. وهي عبرة تقوم في آية الهلاك الحتمية للكافرين، أي مستقبل من يحارب الإسلام.

ولم يكن بإمكان هذه الأحكام اليقينية الدينية أن تؤسس قبل بداية سيطرة الإسلام وبناء الدولة العربية الإسلامية (الخلافة)، نموذجاً فكرياً نظرياً أو نموذجاً سياسياً. فالعقائد والأساطير الإسلامية لم تصبح بديهيات سياسية إلا في وقت متأخر نسبياً. غير أن ملامحها الأولى بدأت مع أولى محاولات تشكيل دولة الخلافة. فالصراع من أجل السلطة هو الذي بلور الملامح السياسية للإسلام. والقرآن يتضمن إشارات صريحة إلى صراع قائم بين المسلمين والمؤمنين أنفسهم.  وبالتالي فإن التأويلات اللاحقة التي حاولت أن تنسب إلى القرآن حلّ خلافات الأمة، هي من إبداع "الإسلام الثقافي"، أي تلك الحالة التي تحول فيها القرآن إلى مصدر متسام في وعي الحضارة الجديدة. إذ إننا لا نعثر في صراع المسلمين الأوائل واختلافاتهم على كيانات بارزة ومحددة في اتجاهات وتيارات واضحة المعالم. لقد نشأ كل شيء كما لو انه بقضاء وقدر! بمعنى انه لم يخضع إلى مستندات فكرية أو اجتماعية أولية، بقدر ما نشأ شأن أي تيار عارم لملء الفراغ الذي أحدثه موت النبي محمد. وهنا كانت تكمن صيرورة الصراعات الخفية وطابعها الدرامي المميز لمراحل الطراوة الأولى لتشكيل السلطة.

فالسلطة هي مجمع القسوة اللينة، والخشونة المغرية، والهراوة المرصّعة بالجوهر. وإذا كانت تبدو في مظاهرها كما لو أنها الاستمرار الطبيعي والمحبب للرجال، باعتبارها كيان الولاء الأدبي للأتباع، فلأنها كانت تعكس ما هو ملازم لمراحل الانتقال من سيادة الأدب إلى أدب السيادة. وهو انتقال لم يجر دفعة واحدة. والقضية هنا ليست فقط في تعقيد وصعوبة عملية الانتقال "الطبيعية" إلى مجتمع الدولة وجهازها السلطوي، بل وبفعل الآلية التي نشأت بها هذه السلطة في ظل الإسلام.

فقد ظل الإسلام الخيمة التي يحتمي بها الجميع، تماماً بالقدر الذي كان هو أيضاً عصب الحياة الدافق في أجساد وأرواح أتباعه المؤمنين. لهذا كان مخاض السلطة شديد القسوة. وقد عكست الصراعات الأولية الدائرة في الأوساط الصغيرة للمهاجرين والأنصار هذه البداية التي رافقت مجرى انحلال قوة المثال المحمدي وظهور مثال القوة المحمدية. فالعباس بن عبد المطلب يطالب علياً بمعرفة ما إذا كان هذا الأمر (أي الخلافة) لهم أم لا، فيما كان عليا مهتم بغسل ودفن النبي. في حين نرى الأنصار تجتمع في سقيفة بني ساعدة لاختيار سعد بن عبادة انطلاقاً من وعيها لمكانتها ودورها في الإسلام (5) ، أي أحقيتها الخاصة بوصفها القوة التي نصرت الإسلام. بينما نرى المهاجرون يدافعون على لسان أبي بكر عن "شرعيتهم" بالسلطة استناداً إلى أولويتهم فيه، وقربهم في العشيرة من النبي، وتوسطهم في انساب العرب (6). وإذا كانت هذه الفكرة قد استثارت بين الأنصار رغبة المساومة على أساس تجزئة وقسمة الإمارة بالتناسب أو التوالي على أساس مبدأ "منا أمير ومنكم أمير" و"اليوم لنا وغداً لكم"، فان الرد الحاسم للمهاجرين جاء على لسان عمر بن الخطاب والقائل بأنه لا يجتمع سيفان في غمد واحد، وان العرب لا ترضى أن تؤمر واحداً ونبيها من غيرهم. وبالتالي لا يمكن لأي كان أن ينازعهم في سلطان محمد وميراثه وهم أولياؤه وعشيرته (7). في حين وجد آل البيت في شخصية علي بن أبي طالب ممثلها الأول. وبغض النظر عن كل الملابسات التي أحيطت بإبعاده عن السلطة أو حسم الأمور دون الرجوع إليه، بل وحتى التشاور معه، فان الآراء الأولية التي أثيرت في مجرى "الجدل السياسي" حول شرعية الخلافة في الأنصار والمهاجرين، قد أعطت له أيضاً فرصة تفنيد آراء المهاجرين بفعل نزوعها الخفي لاستلاب "سلطان محمد وميراثه". فإذا كانت الأنصار تنطلق في دعوتها للخلاقة مما تسميه بموقعها ومكانتها، أي استناداً إلى وحدة الديني والسياسي(إسلامها ونصرته)، فان المهاجرين أضافوا لهذين العنصرين (الإسلام والنصرة) عنصر الأولوية والقرابة والنسب (الإسلام والقرشية والوسطية في العرب).

وقد وضع هذا الجدل الفكري الأولي عن السلطان والخلافة بمفاهيم وأطر "الإسلام" و"النصرة" و"القرابة"، الأسس التي استند إليها علي بن أبي طالب وانطلق منها. إذ وجد في "مادة" الجدل والبراهين والحجج ما هو أقرب إليه وأقوى حجة له. غير أن مفارقة الظاهرة تقوم في انجاز مسار الصراع من أجل السلطة كل هذا الجدل قبل أن يكون بإمكانه مواجهة القوى المتعارضة. وحالما دفن "ابن أمه" فان مصير الخلافة كان قد حسم بالطريقة التي أثارت في أعماقه ألماً دفينا. فعندما حسم الخلاف الأولي باستتباب البيعة لأبي بكر قصد علي في كلامه المهاجرين قائلاً:"الله الله يا معشر المهاجرين! لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيتكم. فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لانا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم لهم بالسوية. والله انه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله" (8).

 وقد استثار هذا الكلام عطف السامعين، مما حدا ببشير بن سعد الأنصاري إلى القول بأنه لو سمعوا منه هذا الكلام قبل بيعتهم لأبي بكر لبايعوه، إلا أنهم لا يستطيعون نكث البيعة وعدم الإيفاء بالعهد. كما أجابته الأنصار بنفس الجواب بعد أن أخذ فاطمة معه لهم. عندها أجابهم:أَفَكنت أَدعْ رسول الله في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ بينما ردت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له. ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (9). لقد دخل الإمام معترك الصراع السلطوي بنفس مفاهيم وحجج خصومه، لكن الفوز السياسي لم يكن حليفه، لان ما صنعه، حسب المفارقة الحية للعبارة العميقة لفاطمة، هو ما كان ينبغي له صنعه، أما هم فقد صنعوا ما كان ينبغي لهم صنعه أيضا. وبغض النظر عن الحوافز المختلفة والنتائج المتباينة التي ترتب عليها هذا الصراع، فانه يعكس في مساره العام بروز جوهرية السلطة وأهميتها. إذ ظهرت هنا للمرة الأولى ملامح التذوق السياسي للسلطان والإمرة.

وسوف تؤول الأطراف جميعا رغباتها في استلام السلطة. غير أن ذلك لم يغير من واقع صيرورة النفسية الاجتماعية السياسية والأخلاقية وفعاليتها في الأمة الناشئة وصراعاتها، وبالأخص واقع ظهور الخلافات السياسية ومحاولة استعادة الوحدة من خلال السلطة. مما أدى إلى إرساء آلية الاعتراف والإقرار بالخلاف والوحدة، ومحاولة تذليلهما في الأسلوب الجديد لصيرورة السلطة ومؤسساتها. والمقصود بذلك ازدواجية وتناقض المبايعة والإجبار عليها، وإعلان الرضا والطاعة في الوقت نفسه. لكن إذا كان مفهوم وممارسة الرضا والطاعة من بين العناصر الجوهرية في إسلام الرسالة، وأحد المكونات الضرورية للانتماء الفعلي للأمة التي أنشأها محمد في المدينة، فإن مضمونها الجديد قد اخذ يمتلأ بتعبير الولاء السياسي. فالانتماء الديني أصبح شيئاً ما مقروراً ومنفياً، بينما أصبح الانتماء السياسي الكيان المتجدد، الذي يستلزم الإفصاح عنه مع كل عملية استبدال في هرم السلطة (الخليفة).

فالصراعات الأولى في سقيفة بني ساعدة كانت مبنية على استثارة الرضا من قبل الأطراف. فقد أجابت الأنصار سعداً بن عبادة برضاها عنه، في حين أجاب أبو بكر الأنصار في خطابه إياهم، بأنهم (الأنصار) أحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله، إلا انه لم يرض هذا الأمر لهم، بل رضيه لأبي عبيدة الجراح أو لعمر بن الخطاب. بينما قال أبو عبيد وعمر، بأنه لا أرضى عندهما ولا أعين غير أبا بكر، لهذا فإنهما يبايعانه راضيين (10). بينما ردتّ الأنصار بأنها تقبل ذلك في حالة التناوب في الخلافة لكي يكون ذلك مثاراً للرضا، أو حسبما قالت لبايعنا ورضينا (11).

وإذا كان الفصل الدرامي الأول قد انتهى بالانكسار الكامل لشيخ الأنصار (سعد بن عبادة) وخروجه للشام، فانه أبرز سوية معه قوة الإجبار في المبايعة، التي وضع عمر بن الخطاب أغلب قواعدها العملية. وهي قواعد لم تكن معزولة عن الصيغة التي نشأ بها الإسلام وتطور وساد. لكنها عملية كانت تعكس في نفس الوقت المسار "المسار" للعقائد الكونية في سعيها لبلوغ وحدة الدنيا والآخرة. وفيما لو تجاوزنا المراحل الأولى للإسلام، وبالأخص نشاط النبي محمد، فان تحول الإجبار في مبايعة الخلافة يعود أساساً إلى عمر بن الخطاب، أي انه هو الذي أدخل عنصر استعمال القوة في انتزاع الاعتراف (المبايعة) بالسلطة وشرعيتها.

وقد كانت هذه العملية شأن كل ما هو حيوي في تاريخ الصراع الاجتماعي والسياسي ذات حدين. بمعنى أنها ساهمت في إرساء الوحدة من جهة، ولكنها أسهمت في استثارة عناصر القمع والقوة من جهة أخرى. ومن ثم شكلت خطوة كبرى إلى الإمام في المسار التاريخي السياسي، وخطوة بقدرها إلى الوراء في مسار الحرية وفكرة الشرعية. وبغض النظر عن أن الحرية لا يمكنها التعمق دون المرور بقيود الدولة، أي أن تنتزع قيودها عن نفسها، إلا أن القيود بحد ذاتها ليست قدراً لابد منه في تذوق قيم الحرية وإدراك حدودها. وهنا يكمن أحد الأسباب الرئيسية للنزاع الأولي، الذي يعبّر أيضاً عن نموذج في استيعاب المبادئ الكبرى وكيفية تجسيدها في القيم السياسية. فقد كان أبو بكر أكثر ليونة مقارنة بعمر، لكنه لا يقلّ مبدئية عن أي كان في تعبيره الصادق عن مبادئ الإسلام. فقد كان يعتمل في داخله صراع الدين والدنيا، السياسي والأخلاقي. لهذا لم يجبر الآخرين على المبايعة بالقهر، وأهمل من أهمل، وعانى من ردود الفعل، وبالأخص من البيت العلوي. إذ آلمه كلام فاطمة للدرجة التي جعلته يقول إحدى المرات:"يبيت كل منكم معانقاً خليله مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه. لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي". فهو لم يجد في بقائه بالسلطة آنذاك سوى وسيلة الحفاظ على العروة الإسلامية بفعل طراوتها الأولية. وبغض النظر عن الاعتراضات الواقعية الممكنة على هذه الاعترافات النفسية الأخلاقية، إلا أنها تعكس دون شك ملامح الصراع الدفين بين قيم السياسة الناشئة وجوهرية السلطة في لمّ الوحدة، وكذلك استمرار تقاليد قيم الإيمان الإسلامية وفعالية سيادة الأدب النبوي، أي على خلاف ما نلحظه في شخصية عمر بن الخطاب. فقد الحّ على أبي بكر بانتزاع مبايعة سعد بن عبادة مما اضطره في نهاية المطاف إلى النزوح للشام. كما اجبر بني أمية برئاسة عثمان، وبني زهرة برئاسة عبد الرحمن بن عوف، وبني هاشم من خلال الزبير بن العوام على مبايعة أبي بكر. ومارس الضغوط القاسية من اجل انتزاع مبايعة علي بن أبي طالب للخليفة الأول. إذ نراه مرة يخاطب علياً قائلاً:"انك لست متروكاً حتى تبايع" (12).

وكان يكرر على أبي بكر قوله "لا تهمل هذا المتخلّف عنك بالبيعة" (13). بل واقتادوا علياً بالقوة إلى أبي بكر لأخذ البيعة. وطالب عمر أبا بكر بقتل علي في حال رفضه البيعة. وعندما تساءل الإمام علي: اذاً تقتلون عبد الله وأخا رسول الله؟ فأجابه عمر: أما عبد الله فنعم! وأما أخو رسول الله فلا (14).  بصيغة أخرى انه تعامل مع الجميع على أساس عبوديتهم لله. ولا تعني هذه الصيغة من حيث قيمتها الموضوعية سوى التعبير السياسي عن مساواة الجميع أمام السلطة. فالأخيرة هي الوسيلة التي يمكن، حسب نظر عمر، أن توحّد الجميع أمام الله.

وقد كانت هذه العملية بحد ذاتها خطوة هائلة إلى الإمام في المسار المعقد لوحدة الأمة السياسية، التي سيأخذ علي بن أبي طالب نفسه بمشاطرتها في وقت لاحق. إلا انه نظر إليها من خلال تصوراته عن حقائق الإسلام ومبادئه وقيمه وغاياته. فالصراعات الداخلية التي شكلت أسلوب نشوء الوحدة الجديدة أسهمت في آن واحد بإبداع ثنائية التثوير الدائم لليقين والقلق. وهي الثنائية التي كانت تحتوي في أعماقها على المكونات التي يحدد مضامينها الحقيقية وتأثيرها المباشر في الفعل السياسي طبيعة وكيفية احتكاكها بما ندعوه الآن برؤية المهمات الملحة. فعندما استشار الخليفة عمر بن الخطاب علياً حول شخوصه بنفسه لقتال الفرس، فان علياً رد عليه بصيغة تربط في كلّ واحد اليقين بالأمة والقلق عليها. فقد كان ذا ثقة بقوة العرب بالإسلام وكثرتهم بالإيمان، لكنه خوّفه من إمكانية خروج الأعراب وردتهم في حالة خروجه من المدينة بوصفه رمز القوة السياسية. وعبّر عن ذلك بنصيحته السياسية عندما دعاه بضرورة البقاء في المدينة والقيام منها بإدارة شؤون الحرب (السياسة الخارجية). فنراه يشدد في الجزء الأول من نصيحته على "إن العرب وان كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام وعزيزون بالاجتماع" (15). وحذّره في الوقت نفسه من أن خروج الخليفة من المدينة قد يؤدي إلى أن تنتفض عليه العرب "من أطرافها وأقطارها" (16). ولا يمكن لتحذير من هذا النوع أن يظهر من فراغ، أي انه كان يستلزم على الأقل وجود من هو قادر على الخروج والانتفاض وأسباب كامنة وراء ذلك. مع أن هذه الفكرة لا تحتوي بالضرورة على حدس ما سيحدث لاحقا.

 

...................

الهوامش

1) علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج1 ص97.

2) علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج3 ص2.

3) علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج1 ص97.

4) علي بن أبي طالب: نهج البلاغة ج1 ص118- 119.

5) ابن  قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص9.

6) ابن قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص10.

7) ابن  قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص13.

8) ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج1 ص19.

9)   ابن قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص19.

10) ابن قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص10- 11.

11) ابن قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص11.

12) ابن قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص18.

13) ابن قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص20.

14) ابن قتيبة : الإمامة والسياسة، ج1 ص21

15) علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص29.

16) علي بن أبي طالب: نهج البلاغة، ج2، ص29.

 

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2302 الاربعاء 12 / 12 / 2012)

 

في المثقف اليوم