دراسات وبحوث

المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (6) / ميثم الجنابي

بأشكال ومستويات أولية يعكس المسار الضروري لبداية مواجهة الدولة الفاشلة ونتائجها وآثارها. ففي هذه المنازلة الكبرى نعثر على الصيغة الأولية التي تكشف عن أن حقائق الوجود الكبرى تكمن في منظومات الوعي العقلي والضمير الأخلاقي، بوصفها حقائق الإرادة الحرة. وأن الإرادة الحرة هي صانعة الحق والحقيقة والمعنى. ومطاولة الخروج عليها، أي تحدي الخروج عليها من جانب أي كان، يعني كسب النفس الحرة من جديد والعيش بمعاييرها. إذ لا قيمة ولا معنى للحياة الحقيقية بغيرها.  

لقد تطاول التونسيون والمصريون والليبيون واليمنيون بقواهم الفتية في مواجهة السلطة وتحديها حتى كسروا قيودها فوّلت هاربة! وبهذا يكونوا قد فتحوا الطريق أمام حرية الجميع، أي حرية الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والنظام السياسي والدولة. إنهم برهنوا على حقيقة جوهرية تقول، بأن المطاولة هي الصيغة البليغة لروح التحدي العاقل، أي للإرادة الإنسانية الحرة.

وقد كانت مطاولة الزمن مجرد زمن يسعى للتحول إلى تاريخ. فتباين عدد الأيام مجرد تمارين وألعاب بين أصابع الحركة التاريخية الكبرى، ولا فرق بين أن تكون أربعة وعشرين يوما في تونس وثمانية عشر يوما في مصر ونصف سنة في ليبيا وسنة في اليمن. فذلك هو جزء من ديدن الدولة الفاشلة وديدان سطوتها وسلطتها المتحللة. ولكل منها تأويلها المحتمل بوصفه جزء من مغامرة الوعي والتاريخ أيضا.

فإذا كانت مصادفة الأحداث تقوم في بلوغ هذه الحالة في اليوم الثامن عشر في مصر على سبيل المثال، فأنها تشير بدورها إلى ما يمكن دعوته بموسيقى القدر الطبيعي والتاريخي. وذلك لأن الثمانية عشر تتطابق بمعايير الطبيعة والتاريخ مع "سن البلوغ"، أي سن الشباب والفتوة العاقلة. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية صياغة ما جرى من أحداث دامية ودرامية بمعايير البلاغة والبيان.

فالأحداث الكبرى، والتحولات الكبرى، والبدائل الكبرى هي الصيغة الأجمل للروح الإنساني، ومن ثم هي مصدر الإبداع الأعمق والشامل. وبالتالي، الأكثر بيانا وبلاغة عن هوية الأمم، بغض النظر عن معاناتها من اجل بلوغ المرام. كل ذلك يجعل من الممكن القول، بأن مصر قد بلغت سن البلوغ في ثورتها كما لو أنها تتطابق مع روح الشباب! ولا مجاز في الأمر!

وقد جرت الأحداث ونتائجها الأولية كما لو أنها تستجيب لقدر الطبيعة والتاريخ بقدر واحد! وكشفت عن أن الرمزية الطبيعية والمتسامية لسن البلوغ هي الوجه الآخر لرمز المطاولة الفتية في مصر، أي رمز قوتها المستقبلية. وبالتالي، تحسس ما جرى ويجري فيها على انه رمز المطاولة التاريخية. وليس هذا بدوره سوى الإشارة الحية إلى أن ما جرى ويجري هو بديل المستقبل.

فالبدائل الكبرى كالحياة الحقيقية! أنها مطاولة وليست سياحة حديثة! أنها تبدأ بفصول المواجهة الحقيقية للنفس وتحدي خللها الذاتي لتنتهي بالعمل الفعلي من اجل تقويمها الدائم بمعايير الحق. وفي هذا المجرى المعقد والدرامي تنعكس حقيقة النفس والإرادة والآفاق. وفيما لو اختصرنا كل مكونات ومراحل المطاولة الشعبية الكبرى، فإننا نعثر فيها على ظاهرة جديدة، وروح جديد، وجيل جديد، وأفق جديد.

  • إنها ظاهرة جديدة من حيث محتواها وغايتها وأسلوبها في مواجهة النظام السياسي وتغييره.
  • إنها تتمثل وتصنع بقدر واحد روحا جديدا في مواجهة إشكاليات المجتمع والأمة.
  • إنها تجري وتتطور وتتكامل بعقول وأفعال جيل جديد متحرر من ثقل العقائد الحزبية المزيفة وريائها السياسي.
  • إنها ممثلة الأفق الجديد لبناء الدولة والأمة بمعايير التراث القومي الخاص والرؤية المستقبلية.

إن هذه المكونات الأربعة هي الصيغة الأولية لكمون المستقبل، أو أنها براعم الحركة المستقبلية. من هنا تعقيدها الذاتي والعملي. بمعنى أنها تعاني وسوف تعاني أكثر من غيرها، وذلك لأنها مهمومة بمهمات النفي الإصلاحي والإنساني لحالة الخراب الشامل. وبما أنها تعيش في حالة خربة، من هنا حصارها وانحصارها بين قوى خربة، وتقاليد خربة، ومؤسسات خربة، ونفسية وذهنية خربة، باختصار أنها محاصرة بمعالم وقيود الانحطاط المادي والمعنوي. من هنا إمكانية تعرضها للوقوف والتوقف والهزيمة. غير أن هذه كلها تبقى في نهاية المطاف مجرد محطات لابد منها على طريق الحرية. فالبراعم التي تستطيع الظهور بين صخور قاسية ورمال متحركة قادرة بالضرورة على مد جذورها في أرض خصبة.

أما الحصيلة العامة لكل ذلك، فإنها تكشف عن أن المطاولة الحقيقة للسلطة الفاسدة هو أسلوب صنع الإرادة الاجتماعية والوطنية الكبرى وتهذيبها. إنها تبرهن في الوقت نفسه على أن مطاولتها الاجتماعية والسياسية والوطنية الكبرى هي منازلة تاريخية قومية أيضا. وذلك لأنها تجلي معدن الحقيقة القائلة، بأن قيمة الأمم وعظمتها على قدر منازلاتها التاريخية! وما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن هي الصيغة الأولية لهذه المنازلة، أي لاستعادة الأمة كينونتها التاريخية، ومن ثم دورتها الجديدة في ولادة جديدة.

تضع المطاولة الكبرى والمنازلة التاريخية العرب، كما جرت وتجري لحد الآن، أمام امتحان المستقبل وتحدياته. فمن الناحية الأولية والظاهرية كشفت عن أن العرب امة واحدة متوحدة في الهموم. وأن ما جرى ويجري يشير إلى أنها بدأت تستعيد قوتها التاريخية، أي وجودها الذاتي الفعلي. فالعالم العربي من حيث مكوناته، هو ارض الروح والجسد الثقافي. فيه نشأت وتأسست مراكز الدولة. وفيه تشكلت بؤر الحضارات القديمة والروح الثقافي الكوني. ومن ثم فانه محكوم بماضيه. بمعنى أنالمنازلة التاريخية الحالية ليست إلا الخطوة الأولية لما يمكن دعوته بمهمة الاستعادة الضرورية لكينونته التاريخية الثقافية، أي مهمة الرجوع إلى النفس. إنها مهمة القطيعة مع الانقطاع بمختلف أشكاله ومستوياته. وليس هناك من طريق واقعي وعقلاني لذلك غير مواجهة هذا الخلل عبر مواجهة النفس أولا وقبل كل شيء.

فالذي جرى ويجري هو الذي يصنع للمرة الأولى مقدمات التاريخ الفعلي للعالم العربي. إذ يجري فيه تمثل المسار الحقيقي للطبيعة والوعي القومي الذاتي. وذلك لأنه يصنع للمرة الأولى في تاريخه الحديث مهمة بناء الإرادة القومية السليمة في الموقف من النفس والنظام السياسي والدولة والمصالح الكبرى. وبالتالي، فإننا نقف أمام منازلة التحدي الكبير لزمن المصادرة الذي لازم أسلوب وعمل النظام السياسي الاستبدادي، مع ما ترتب عليه من ترميم دائم لهشاشة الدولة وبنيتها الرخوية.

إننا نقف أمام مهمة صنع الإرادة والمستقبل عبر القطيعة التامة مع زمن السلطة، والنخبة الخائبة، والأحزاب العقائدية المتهرئة. وليس هروب زين العابدين بن علي، و"تنازل" حسني مبارك وعلي صالح وقتل القذافي سوى الصيغة الرمزية لتلاشي الزمن العابر، شأن تلاشي حبة رمل في رمال عاتية!

إننا نقف أمام أيام وشهور وسنين هي لحظة او لحظات من العمر والروح والعقل والوجدان والذاكرة والضمير. إنها اللحظات التي خطفت الزمن وجعلته تاريخا. فقد أفرغت السلطة الاستبدادية كل شيء مما فيه وجعلته هامشيا على أطراف الوجود. مما جعل من وجودها حجرة عثرة أمام حركة الحياة نفسها. ذك يعني، أن الحياة قد بدأت! وهو جوهر المنازلة التاريخية الحالية، بوصفها مشروع المستقبل القومي الحر. وفي هذه الصورة الجمالية المغرية ووراءها تترامي مكونات الواقع الخشن وعثراته ومعوقاته بوصفها تحديات واقعية للحاضر والمستقبل. أنها تضع الجميع أمام تحدي النفس والمستقبل، أي أمام تحدي الكشف عن حقيقتهم واستعدادهم الذاتي.

***

 

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2303 الخميس 13 / 12 / 2012)

 

في المثقف اليوم