دراسات وبحوث

الأزمة العراقية الراهنة: الطائفية، الأقاليم، الدولة (1-2)

abdulhusan shaabanمقدمة: أعادت الأزمة الراهنة الإشكاليات الأساسية التي عانت منها الدولة العراقية منذ الاحتلال الأمريكي- البريطاني للعراق العام 2003، وخصوصاً موضوع الطائفية السياسية التي أصبحت ظاهرة متفشّية في مفاصل الدولة العراقية وأروقتها، بل إن التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني أصبح السمة الأبرز للحكم ما بعد الاحتلال.

ولم تستطع الدولة على الرغم من مرور 13 عاماً على الاحتلال من حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية، وما يتعلق بالبطالة والضمان الاجتماعي والمتقاعدين، بل إن هذه المعضلات تفاقمت على نحو شديد، وازدادت تعقيداً ممّا عمّق  الأزمة السياسية، وأضفى عليها بُعداً شعبياً أخذ بالاتّساع، خصوصاً وقد ترافق ذلك باستمرار انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة وعدم حلّ مشكلة المياه التي أخذت بالتفاقم، مما سبّب أمراضاً وأوبئة عديدة، ومنها انتشار مرض الكوليرا.

لقد قامت العملية السياسية على صيغة المحاصصة الطائفية- الإثنية، التي وجدت ضالّتها في تأسيس مجلس الحكم الانتقالي في تموز (يوليو) العام 2003، خصوصاً بتخصيص 13 عضواً منه لما سمّي بالشيعة و5 أعضاء لما سمّي بالسنّة و5 أعضاء لممثلي الكرد وعضو واحد لمن اختير ممثلاً عن التركمان وعضو واحد باسم الكلدو آشوريين. وعرفت الدولة الجديدة التي تأسست على أنقاض الدولة القديمة التي قامت في عشرينيات القرن الماضي، باسم "دولة المكوّنات"، التي ورد ذكرها ثمان مرّات في الدستور. أما "دولة المواطنة" التي كان العراقيون يتطلّعون إليها  بعد انقضاء حقبة الحكم الشمولي، فقد اختفت مدلولاتها وتضبّبت معانيها، لاسيّما بعد تأسيس نظام المحاصصة.

إن ذلك يمثّل جوهر الأزمة بجميع فروعها وأجنحتها. وإذا كان الاحتلال صائراً إلى زوال مثلما كان متوقّعاً، فإن خطر الطائفية ظلّ ينخر في جسم الدولة العراقية، ويحفر في كيانها بمعول مسموم، وإذا ما استمرّ على هذا المنوال فإن عملية الهدم والتآكل ستصل إلى أساساتها، وبالتالي ستؤدي إلى انهيارها.

كان الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية) الذي صدر في عهد الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر (13 أيار/مايو 2003 - 28 حزيران (يونيو) 2004) في 8 آذار (مارس) العام 2004، تكريساً وانعكاساً للصيغة الجديدة لتوازن القوى وقد قام نوح فيلدمان القانوني الأمريكي المناصر لإسرائيل بإعداد صيغته الأولى، مثلما عمل الخبير الأمريكي بيتر غالبرايت في وقت لاحق على صياغة بعض المواد ذات الطبيعة الإشكالية، والتي اعتبرت ألغاماً قابلة للانفجار في أية لحظة، لأنها تشكّل مصدر خلاف واختلاف وليس مصدر اتفاق وتوافق.

وبدلاً من أن يكون الدستور القاسم المشترك الأعظم الذي تلتقي عنده الإرادات المختلفة للقوى والأحزاب والمنظمات السياسية والجماعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المصالح المتنوّعة، فإذا به يصبح هو بالذات تعبيراً عن الإشكاليات والصراعات التي عانت منها الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، وهذه كلّها تنطلق وتصبّ في صيغة المحاصصة التي اعتمدتها، وفي النزاع حول تمثيل هذه الجماعة أو تلك لتتحدث نيابة عن هذه الطائفة أو تلك أو تمثل جزءًا منها، وذلك عبر الإستقواء بالمحتل والحصول على الامتيازات، خصوصاً من جانب أمراء الطوائف، وليس بوسائل إقناع أو بنفوذ حقيقي سياسي أو فكري أو اجتماعي.

ولم يتورّع هؤلاء من استخدام العنف والحشود الجماهيرية الهائلة التي تذكّر بعصر المداخن في فترة الثورة الصناعية في أوروبا، بهدف كسر إرادة الآخر وفرض نمط ديني أو مذهبي على الحياة العامة وعلى المجتمع ككل. وبالطبع فإن مثل هذا الأمر لم ينشأ في فراغ، فقد كان له ردود فعل أقسى وأشدّ أحياناً، وهكذا أخذت دائرة العنف تتّسع لتشمل الجميع، وخصوصاً بانتعاش بؤر للإرهاب، التي تغذّت بتفاعلها مع جهات خارجية إقليمية ودولية ولأهداف مختلفة.

ولكي يتم تمويل عمليات الإرهاب والعنف، لجأت الكثير من القوى إلى استخدام موارد الدولة لمصالحها الخاصة، الشخصية والحزبية، سواء عبر سرقات منظمة أو هدر المال العام أو توظيفه في غير مواقع التنمية، ناهيك عن أصحاب الحظوة من الأبناء والأصهار والشركاء في إطار عمل غير مشروع.

وهكذا أصبح الفساد مؤسسة قائمة بذاتها وتستطيع تحريك الوضع السياسي سلباً أو إيجاباً طالما هي تتحكّم بالملايين من البشر الذين يعانون من البطالة وشظف العيش والأميّة والتخلّف مع ضخّ الكثير من الأوهام الطائفية ضد الآخر، الغريب المُريب، الخصم والعدو الذي يستحق الاستئصال. وبالطبع فالفساد لا يقتصر على شأن معين، بل يشمل الإدارة السياسية والاقتصاد والاجتماع والثقافة والمجتمع المدني وتزوير الشهادات والاحتيال والرشا وغير ذلك، لدرجة زكّمت الأنوف.

ولم يستثنِ الفساد أحداً، بل حاول لفّ الجميع بشرنقته، خصوصاً وأن المال السائب يغري بالسرقة كما يُقال، لاسيّما في ظل اخترام مؤسسات الدولة وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية وعدم وجود مساءلة أو محاسبة إزاء هدر المال العام أو التلاعب فيه.

ويعتبر الفساد الوجه الآخر للإرهاب، كما أنه ليس بعيداً عن مخرجات الطائفية والتقاسم المذهبي- الإثني، وقد أغرى الفساد جميع الكتل والأحزاب والقوى على الانخراط فيه، والتستّر على منتسبيها وأتباعها، ولهذا فإن خطره امتدّ إلى أجهزة الدولة بكاملها والعديد من المنظمات والهيئات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، التي هي الأخرى ضعفت يقظتها إزاء غول الفساد ومخالبه.

ومن المظاهر الأخرى للأزمة العراقية وخلفياتها، هو ضعف الشعور العام بالمواطنة والعودة في الكثير من الأحيان إلى صيغ ما قبل الدولة، سواءً الطائفة، أو الجماعة الإثنية، أو الدين أو العشيرة أو الجهة أو المنطقة، وذلك للاحتماء بها والاختباء خلفها، طالما لا تستطيع الدولة حمايتها وتأمين الحدّ الأدنى من وظيفتها في ضبط الأمن والنظام العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وتلك هي الوظائف الأولى والأساسية للدولة، وأية دولة لا تستطيع القيام بذلك، فلماذا إذاً هي دولة!؟.

لقد ساهمت الطائفية السياسية في انهيار هيبة الدولة ومعنوياتها، لاسيّما وأن بعض الأطروحات والتوجّهات السياسية وضعت "المرجعية" الدينية المذهبية، فوق الولاء للدولة، بما فيها تداخلاتها الخارجية، والأمر لم يقتصر على المؤيدين لهذه "المرجعية" وهي تمثّل مجموعة من رجال الدين المتنفذين في النجف وأتباعهم الذين يسائلون ولا يُسألون، بل شمل خصومهم أيضاً، الذين يتسابقون معهم أحياناً في الحصول على صكوك المباركة لوظائفهم أو مواقعهم أو امتيازاتهم.

إن ذلك يعني إخضاع مرجعية الدولة لمرجعية غير دستورية، في حين إن جميع المرجعيات سواءً كانت دينية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية ينبغي أن تخضع إلى الدولة التي لها صفة العلوية والسمو على غيرها من المرجعيات، بما فيها حق احتكار واستخدام السلاح والفصل في الحكم بين الأفراد وبينهم وبين الدولة، وبدون إخضاع المرجعيات الأخرى إليها فلا تصبح والحالة هذه دولة.

وإذا كان الدستور ملغوماً وفيه الكثير من العيوب والمثالب التي تستوجب تعديل نصوصه أو إلغائه  لسنّ دستور أفضل، لكن ذلك لا يلغي وجوده القانوني وعلويته والاحتكام إليه وفقاً للنظام السائد، حتى تتوفر فرصة مناسبة، يتمكّن فيها الشعب العراقي من اختيار ممثليه في أوضاع سلمية وطبيعية وآمنة، وخصوصاً بوضع حدٍّ لظاهرة الإرهاب والعنف والفساد.

 

الأزمة وسياقاتها

ثلاث دوائر تتحرك في إطارها الأزمة العراقية الراهنة، فالدائرة الأولى تتمثّل  في حركة الاحتجاج الأخيرة ومطالبها، سواءً الآنية العاجلة أو المستقبلية الآجلة والتي تتجسّد بمآلات حركة الاحتجاج وسقفها ومدى تحقق أهدافها ، لاسيّما البعيدة .

وإذا كانت حركة الاحتجاج مدعاة لتفاؤل الإرادة حسب المفكر الماركسي غرامشي، فإن الواقع لا زال يشي بالتشاؤم، على الرغم من إن التململ أخذ يكبر وهاجس التغيير ازداد عمقاً، خصوصاً وإن كتلاً بشرية ضخمة أخذت تنضم إلى المتظاهرين من شتى الفئات والتوجّهات اليسارية واليمينية، الدينية والعلمانية، من داخل العملية السياسية ومن خارجها، ومن جميع التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، والذين تجمعهم أهداف ومطالب مشتركة، لاسيّما حياة الناس وحاجتهم الماسّة والضرورية إلى الخدمات ومكافحة الفساد والمفسدين، فلم يعد السكوت عنها ممكناً.

نقول ذلك، مع أن الواقع لا زال يشي بالتشاؤم بفعل عقبات كبرى وكوابح كثيرة قد تؤدي إلى احتواء حركة الاحتجاج أو إجهاضها أو شقّها وبالتالي تشتّتها، خصوصاً وإن بعض الأطراف تريد الانفراد في قيادتها كما حصل في مرّات سابقة، بغض النظر عن استجابة رئيس الوزراء لمطالب الإصلاح، لكنها ظلّت حتى الآن فوقية ولم تمس جوهر المشكلة، لاسيّما إعادة الخدمات على جناح السرعة ومحاسبة الفاسدين والمفسدين وردّ الاعتبار للدولة ومؤسساتها ووضع حدّ للطائفية والتقاسم الوظيفي، علماً بأن حيدر العبادي بلا حلفاء أو أصدقاء، حتى وإن كان جمهوراً واسعاً يؤيد عملية الإصلاح، لكن أعداء الإصلاح والفاسدين يشكلون جبهة قويّة، حتى وإنْ اختلفت مصالحهم.

 

أولاً - حركة الاحتجاج ومآلاتها

إذا راجعنا شعارات التظاهرات العارمة والمندلعة في مختلف أنحاء العراق، سنلاحظ أنها تلتقي حول أهداف مشتركة، وهذه تتلخص بـ :

1- تحسين الخدمات ومكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ولاسيّما الكهرباء والماء والتعليم والصحة وإيجاد فرص عمل متكافئة وتلك أمور آنية ومستعجلة. وقد عانى العراقيون من تفاقمها، وشبعوا من الوعود بتحسينها، الأمر الذي دفعهم إلى النزول إلى الشوارع التي لم يبارحوها مطالبين بتحسين الخدمات وبالإصلاح حتى بعد إعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي عن تبنيه خطة للاصلاح.

والوجه الآخر لحركة الاحتجاج الواسعة هو الدعوة إلى مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، وتقديم هؤلاء إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل، بما فيهم المقصّرين وعديمي الشعور بالمسؤولية والمستهترين بالمال العام، وقد تفشّت ظاهرة الفساد ما بعد الاحتلال، خصوصاً بعد أن أصبح الولاء والمصالح الحزبية والانتماء الطائفي هو الأساس في الحصول على المناصب العليا في ظل التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني، بعيداً عن الكفاءة والخبرة والنزاهة، وقد أثّر ذلك على نحو شديد في فاعلية وأداء أجهزة الدولة وكفاءتها ودورها، حتى إن إحدى الجماعات السياسية وأعني بها " جماعة السيد مقتدى الصدر" احتجزت أحد أعضائها خلافاً للقانون، والمقصود به هو بهاء الأعرجي نائب رئيس الوزراء السابق، لمدة ثلاثة أشهر كما أعلنت. ودعت المواطنين، الذين يتهمونه بالفساد، التقدّم إلى جماعته السياسية للتحقيق فيها، ولعلّ ذلك أحد مظاهر تدهور مقوّمات الدولة وانحلال مؤسساتها، خصوصاً القضائية.

2-  مواجهة مظاهر تفكّك الدولة، خصوصاً تحديد المسؤوليات لسقوط الموصل بيد داعش في 10 حزيران (يونيو) 2014 واستمرار الأمر حتى الوقت الحاضر، بل وتمدّدها إلى مناطق أخرى من العراق بلغت نحو ثلث الأراضي العراقية وتهديدها العاصمة بغداد.

صحيح أن نفوذها تقلّص إلى حدود معيّنة ونسبياً، لكن استمرارها يمثل فضيحة للدولة العراقية أو لما تبقّى منها، وهي مهدّدة بالتقسيم الفعلي بفعل غياب إرادة سياسية للوحدة الوطنية وانعدام الثقة بين القوى والجماعات السياسية المختلفة – المؤتلفة، الأعداء- الأصدقاء " الأعدقاء"، إضافة إلى فهم مغلوط وناقص لفكرة الفيدرالية التي جاء بها الدستور، خصوصاً محاولات تفسيره وتأويله، ناهيك عن الألغام التي احتواها والتي يمكن أن تنفجر عند كل منعطف، في ظل انعدام الثقة بين الأطراف السياسية وتربّصها الواحد بالآخر، بما فيها الكتل المؤتلفة.

3- نبذ الطائفية وردّ الاعتبار لمرجعية الدولة وهيبتها ومكانتها، واعتماد مبادئ المواطنة التامة والمساواة الكاملة أساساً للحصول على الوظائف العليا وإلغاء التمييز الطائفي والإثني والديني والعشائري ومناطقي وغير ذلك. وبسبب فشل محاولات تديين الدولة أو تطييفها أو مذهبتها، انطلقت بعض الدعوات لقيام الدولة المدنية.

قد تكون الدعوة إلى قيام دولة مدنية (الآن)، من باب التعبئة السياسية، إذْ يعتقد الباحث من موقعه كمراقب ومحلل للأحداث، أنها غير ممكنة التحقيق في الوقت الحاضر بسبب اختلال موازين القوى، أي أنه ليس مطلباً راهنياً، أي قابلاً للتطبيق، بل هو طموح بعيد المنال، حتى وإن كان هدفاً منشوداً، لكن مفرداته تبقى مهمة، لاسيّما بفكّ الارتباط بين الدين والدولة وبين السياسة والدين، وعدم إخضاع الأخيرة لرجال الدين وتفسيراتهم وتأويلاتهم، ولاسيّما الطائفية والمذهبية التي هي عامل تفريق وتنافر وحساسية.

وقد ألقى مثل هذا الاشتباك والاندغام بين الدين والسياسة بثقله على المجتمع لدرجة أصبحت الحياة الشخصية مهدّدة ويتم انتهاكها كل يوم تحت حجج ومزاعم شتى، ناهيكم عن تجييش الكثير من أبناء الطوائف وشحنهم بالكراهية والانتقام من الآخر. ولذلك ارتفعت بعض الشعارات التي تعبّر عن أمنيتها لقيام دولة مدنية، ولاسيّما الشعار الذي ظلّ الصوت فيه مرفوعاً وعالياً "سلمية .. سلمية.. دولة دولة مدنية".

إن أهمية تلك الشعارات والدعوات تكمن في نزع القدسية عن رجال الدين، والتعامل معهم كبشر يخطأون ويصيبون، وإذا ما أرادوا تقديم أنفسهم "كمرجعية" لطائفة أو مجموعة منها، فعليهم أن يكفّوا عن التعاطي بالسياسة ويتصرفوا خارج نطاق اللعبة السياسية، باعتبارهم وعاظ أو مرشدين جامعين وغير مفرّقين، لاسيّما بعدم الانحياز لهذا الفريق أو ذاك وتحت عناوين مصلحة المذهب أو الطائفة، فالمصلحة الوطنية والولاء للوطن هي التي ينبغي أن تتقدّم على جميع الولاءات الدينية والإثنية والمذهبية والسلالية واللغوية والعشائرية والمناطقية، مثلما يكون الاحتكام إلى القانون والخضوع لسيادته هو الأساس، باعتباره المرجعية التي تفصل علاقات الناس ببعضهم ومع الدولة، وليس لأي قواعد أو أنظمة أخرى دينية أو طائفية أو إثنية أو عشائرية أو غيرها.

لا يمنع الدستور أو قانون الانتخابات من انخراط رجل الدين في السياسة، ولكن السياسة كما نعلم تحتمل الكثير من المراوغة والتدليس والتجاوز على الحقيقة وتقديم المصالح الأنانية الضيقة  على حساب القضايا الوطنية والإنسانية  العامة، ومثل ذلك لا يليق برجال الدين، الذين عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن ذلك لأن وظيفتهم تفترض العكس، أو أن عليهم أن يكفّوا عن كونهم رجال دين، وبالتالي لا اعتراض على حقهم في مزاولة العمل السياسي.

المهم أيضاً التقدّم بخطوات على طريق بناء الدولة العصرية الدستورية، بغضّ النظر عن تسميتها، وهذه الخطوات مهما كانت بسيطة لكنها تراكمية وتدرّجية وطويلة الأمد ، خصوصاً بإعلاء شأن المواطنة والمساواة وعدم التمييز وتحريم الطائفية وإعلاء سيادة القانون واستقلال القضاء وتأكيد حق المشاركة والتداولية والانتخابات الدورية وحرّية التعبير وحق الاعتقاد وحق المشاركة وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وتلك كلها تؤدي إلى فضاء يستطيع فيه المواطن الفرد والجماعة التعبير عن ذاتهما بشكل حر ومستقل، بما فيها الدعوة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إن دولة الحماية التي نفتقر إليها لم تعد كافية على النطاق العالمي، خصوصاً وإن دولة الرعاية، بل والرفاهية، أخذت تشمل الميادين المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية وكل ما يتعلّق بالقضايا التنموية، فما بالك حين نعجز عن الوصول إلى دولة الحماية، لتأمين الحد الأدنى للمواطن في أمنه وحياته وممتلكاته، فضلاً عن ضبط النظام والأمن العام.

 

ثانياً- الفيدرالية والأقاليم: معنًى ومبنًى

الفيدرالية حسب الدستور العراقي، جاءت موسّعة وصلاحياتها كبيرة ومفتوحة، على عكس صلاحيات السلطة الاتحادية التي جاءت مقتصرة على أبواب محدّدة، وفيما لو حصل خلاف بين الدستور الاتحادي والدستور الإقليمي، فإن الأول يخضع للثاني وليس العكس، كما هي الغالبية الساحقة من  فيدراليات العالم، وليس بمستطاع قيادة الجيش بما فيه القائد العام للقوات المسلحة نقل أو تحريك قطعات عسكرية من وإلى الأقاليم، إلاّ بموافقتها. وحسب الدستور يحقّ للأقاليم فتح ممثليات لها في السفارات العراقية في الخارج لمتابعة القضايا الإنمائية والثقافية والاجتماعية.

وبالقراءة القانونية فإن مثل هذا الوضع سيكون نواة لدويلة داخل دويلة بغض النظر عن النوايا، طالما ستكون هناك امتيازات وصلاحيات فلا يمكن والحال هذه إلاّ التمسك بها لأنها ستكون " حقوقاً " مكتسبة، خصوصاً وقد تضمنها الدستور، وليس بعيداً عن ذلك "العلاقات الخارجية" و"الاقتصادية" وإشكالات النفط وتوابعه، من الإنتاج إلى التصدير، ومن التعاقد إلى التوزيع، وعلاقة السلطة الاتحادية بالسلطة الإقليمية، سواء بالتنسيق أو بالإشراف أو الموافقة. وقد انفجرت هذه الأزمة منذ سنوات بين الحكومة الاتحادية وبين إقليم كردستان، ولم تجد طريقها إلى الحل لحد الآن، على الرغم من محاولات نزع فتيل الأزمة. وأعتقد أن سبب هذه الإشكالية في الدستور هي في المادتين  111 و112، اللتان تنصّان على:

مادة 111- النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كلّ الأقاليم والمحافظات .

مادة 112- أولاً : - تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المُستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المُنتجة، على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصّة لمدّة محدّدة للأقاليم المتضرّرة، والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضرّرت بعد ذلك، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون.

ثانياً : - تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعةٍ للشعب العراقي، معتمدةً أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار .

وإذا كانت الحكومة الاتحادية تدير النفط والغاز من الحقول الحالية، فإن النفط والغاز غير المستخرج تتم إدارته من جانب الأقاليم بالتنسيق والتعاون مع الحكومة الاتحادية، ومثل هذه النصوص كانت وراء تفسيرات وتأويلات مختلفة ومتنوّعة، بل ومتناقضة ولإقليم كردستان تفسيراته، مثلما للحكومة الاتحادية تفسيراتها.

إن تلك الإشكاليات جعلت من مبدأ الفيدرالية  أو " الأقاليم" إمّا وسيلة للتحلّل من الهيمنة المركزية للدولة  وذكرياتها المؤلمة، وخصوصاً للكرد، لاسيّما في فترة النظام الاستبدادي السابق، ولكنها قد تؤدي بالواقع العملي إلى إضعاف الدولة وسلطتها الاتحادية لحساب الأقاليم، أو اعتبار الفيدرالية بعبعاً مخيفاً، باعتباره طريقاً للانفصال والإنقسام، الأمر الذي سيبقي على المركزية الشديدة الصارمة، وهو ما سارت عليه الدولة منذ تأسيسها، ولاسيّما خلال فترة النظام السابق، بل إن هذا الاتجاه يعتبر أي حديث عن الفيدرالية إنما يصبّ في تقسيم العراق وقد يكون موحى به أو مدفوع الثمن من جهات خارجية مشبوهة. وهكذا يتعامل الفرقاء مع الفيدرالية حسب أهوائهم التي تتراوح بين المقدّس والمدنّس.

وكلا الشعورين ينمّان عن عدم ثقة وعدم وجود فهم مشترك وقناعات موحّدة حول الفكرة الفيدرالية معنًى (أي مضموناً) ومبنًى (أي صياغة)، وترتفع درجة الشكوك في ظلّ وجود هيمنة طائفية وتمييز وتهميش، ناهيك عن الرغبة في الحصول على المزيد من المكاسب على حساب الآخر وتحت تبريرات مختلفة.

الفيدرالية التي رفعت شعارها الحركة الكردية منذ أوائل التسعينيات وأيّدتها قوى يسارية وليبرالية ووطنية بشكل عام، كانت تطويراً لشعار الحركة الوطنية القديم منذ أوائل الستينيات " الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان" ، وذلك في إطار دعوة صريحة إلى تمثيل الشعب الكردي وتمكينه من تقرير مصيره  في إطار الوحدة الوطنية العراقية كما اختارها، لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، وظهرت مشكلات قديمة وجديدة، بعضها عويص، خصوصاً ما يتعلق بكركوك أو بما سمّي المناطق المتنازع عليها، والتي ورد ذكرها في المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية أو المادة 140 من الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته.

وكان الدستور الدائم امتداداً لقانون إدارة الدولة التي صدر في عهد بريمر، وقد نُقلت الكثير من مواد الأخير وأحكامه إلى الدستور الدائم، الذي جاء مليئاً بالألغام، بحيث لم يشعر أي طرف بالارتياح، في حين إن الدستور هو تعبير عن الواقع السياسي والاقتصادي ودرجة التطور الاجتماعي ويعكس المصالح والأهداف المشتركة للفئات الاجتماعية المختلفة، لكن الأمر في الدستور العراقي اتخذ منحًى مختلفاً. ولذلك وفي أكثر الأحيان يوضع الدستور على الرف ويتم الحديث عن التوافق والديمقراطية التوافقية خارج اللعبة الانتخابية (كقدر دائم لا مردّ له)، ولكن ما أن تدبّ الخلافات فيتذكّر كل طرف الدستور حتى وإن كان يتعارض تماماً مع ما يقول، لكنه يحاول الاستناد إليه من باب الزعم بتمسّكه باعتباره  "أبو القوانين"، حتى وإن كان الأمر شكلياً، ثم يُصار بعد ذلك للعودة لما يسمى بالتوافق دون أي اعتبار لصندوق الانتخاب وإرادة الناخبين.

إذا كانت الفيدرالية الكردية  تعبيراً عن حقوق قومية مشروعة ولها ما يبرّرها، وإن النظام الفيدرالي هو صيغة متطورة أخذت بها نحو 40% من سكان الكرة الأرضية، وشملت أكثر من 30 دولة، وأصبحت جزءًا من تطور النظام السياسي العالمي، فإن تطبيقاته في العراق وبصيغته الملتبسة أوجدت تعارضات شديدة بين الفرقاء السياسيين من المشاركين بالعملية السياسية ومن خارجها وعزّزت الشكوك بينهم، خصوصاً وإن العراق عانى من مركزية صارمة وشديدة المراس، وبحاجة اليوم إلى لا مركزية وتوزيع الصلاحيات، لكن تفسيرات وتطبيقات وتأويلات هذه الفيدرالية جاءت متناقضة وملتبسة من جانب العديد من الجماعات السياسية.

فالقوى التي رفضت التصويت على الدستور لأنه يتضمّن مبدأ الفيدرالية، عادت واندفعت لقيامها تحت حجة عدم استفراد القوى الشيعية بالحكم وعزل وتهميش السنّة، وتلك واحدة من مفارقات الحياة السياسية العراقية ما بعد الاحتلال، وفكرة الأقاليم بما فيها " الإقليم السنّي" التي عارضتها وتحفّظت عليها الكثير من القوى، بدت وكأنها " مقبولة" ، حيث أعيد طرحها بعد احتلال داعش الموصل وخصوصاً بعد تشكيل الحشد الشعبي ودخوله المناطق ذات الأغلبية السنّية وما ترك ذلك من اتهامات له بانتهاكات وردود أفعال ومخاوف بشأن مستقبل هذه المناطق.

والقوى الشيعية التي كانت متحمّسة للفيدرالية بعد الاحتلال، بدأت تتحفّظ عليها لا في المبدأ فحسب، بل في التطبيق أيضاً، ولذلك وجدنا كيف تعامل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بقسوة مع المناطق الغربية والشمالية ذات الأغلبية العربية السنية المطالبة بالفيدرالية، وكيف كانت النتائج: هيمنة داعش وجزع فئات واسعة من السكان دفعها لعدم اتخاذ موقف من استيلاء داعش على الموصل وكأن الأمر لا يعنيها، ولكن بعد حين شعرت هذه الفئات بخذلانها، إثر هيمنة داعش وفرضها نظاماً سياسياً واجتماعياً ودينياً متشدداً ومتعصباً خاصاً بها وخارج سياق التطور التاريخي.

أما الكرد فإنهم ينتظرون الفرصة السانحة للتعبير عن كيانيتهم المستقلة، ويريدون قبل ذلك تحقيق أكبر المكاسب تمهيداً لإعلانهم، خصوصاً إذا ما توفّرت اللحظة المناسبة، وحصلوا على تأييد دولي وموافقة إقليمية ضمنية بعدم معارضة ذلك، علماً بأن مبدأ حق تقرير المصير يشكّل المنطلق القانوني والدولي لمشروعهم التاريخي.

وإذا كانت دولة ما قبل الاحتلال تتّسم بالشمولية والواحدية والإطلاقية واحتكار الحقيقة وتمجيد الفردية ونهج التسلّط، فإن دولة ما بعد الاحتلال انتقلت من التعثر في وحدتها إلى استفحال الأزمة  بخصوص حاضرها ومستقبلها، لاسيّما في ظل الارتفاع السريع في وتيرة عوامل التفكيك والتشظي والتفتّت.

وشهدت البلاد احترابات داخلية وإرهاب وعنف منفلت من عقاله، ناهيك عن استمرار النفوذ الخارجي، سواء على شكل اتفاقية للتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 2008، مع إن محاولات إبرام اتفاقية أمنية جديدة بعد نفاذ الاتفاقية الأولى في نهاية العام 2011 باءت بالفشل، الاّ أن النفوذ الأمريكي لا يزال واسعاً ومتحكّماً ويظهر دوره في الأزمات والمنعطفات التي تمرّ بها البلاد، خصوصاً في ظل وجود اتفاقية مجحفة وغير متكافئة بين بغداد وواشنطن حسب اتفاقية فيينا حول " قانون المعاهدات " لعام 1969، حيث تم تغيير صفة الاحتلال، من الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي.

يضاف إلى ذلك النفوذ الإيراني القوي والمؤثّر، سواء على صعيد الحكم رسمياً أو على صعيد العلاقة مع قوى أساسية في الحكم، وهذا النفوذ لم يعدّ خافياً أو مستتراً لا من جانب بعض القوى العراقية، ولا من جانب إيران،، فخط دفاع طهران كانت بغداد منذ احتلال العراق العام 2003، وإيران كانت ولا تزال تلعب دوراً إقليمياً كبيراً في العراق ولدى بعض دول المنطقة، وقد يتعاظم هذا الدور بعد التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني بعد مفاوضات دامت 12 عاماً وعرفت باسم (5+1)، على الرغم  من محاولة تطويقه عربياً ودولياً من جانب بعض دول الخليج العربي والولايات المتحدة والغرب عموماً.

 

ثالثاً- الدولة الفاشلة: ماذا تعني؟

من مظاهر أزمة الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، هو عجزها عن حماية الاستقلال الوطني للبلاد، أو استعادته كاملاً وغير منقوص، وذلك بالاضطرار إلى التوقيع على اتفاقيات مجحفة ومذلّة بين طرفين أحدهما قوي ومحتل والآخر ضعيف ومحتلة أراضيه، وذلك بالضد من اتفاقية فيينا حول " قانون المعاهدات" لعام 1969 التي تفترض التكافؤ والمساواة وعدم الإكراه أو الإرغام عند عقد أية اتفاقية، وإلاّ ستكون مثل هذه الاتفاقية مخالفة لقواعد القانون الدولي، وذلك لأنها ستكون مشوبة بأحد عيوب الرضا التي تُبطلها قانونياً وشرعياً.

وبسبب ضعف العراق، اضطرّ للسكوت عن تدخّلات وتجاوزات لحدوده وأراضيه واختراق سيادته في أكثر من موضع ومجال، وهو الأمر الذي يحصل مع إيران الذي لها اليد الطولى ،ومع تركيا يومياً بزعم ملاحقة حزب العمال الكردستاني التركي، وذلك إحدى مظاهر أزمته.

كذلك عجزها عن تحقيق التنمية المستدامة المستقلة بجميع جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية وغيرها، ولعلّ التظاهرات المندلعة منذ أسابيع وتطالب بمساءلة الفاسدين وتحسين الخدمات وغيرها من المطالب، خير دليل على فشل الدولة، فضلاً عن هدر أكثر من 700 مليار دولار هي واردات النفط خلال الفترة المنصرمة منذ الاحتلال ولحدّ الآن دون أية منجزات تُذكر، بل ذهبت جميعها تقريباً هباءً منثوراً، بسبب سوء الإدارة وهدر المال العام وعدم الشعور بالمسؤولية واستشراء الفساد المالي والإداري، المتمثّل بالسرقات وعمليات التزوير والامتيازات غير المشروعة وغير ذلك. ولا يزال العراق منذ 13 عاماً يصنّف من جانب منظمة الشفافية العالمية، باعتباره في أسفل سلّم الهرم بالنسبة للفساد المالي والإداري.

من مظاهر الأزمة أيضاً عدم إحراز أي تقدّم في ميدان العدالة الاجتماعية، حيث ازداد التفاوت الطبقي والاجتماعي على نحو شديد وارتفعت نسبة الفئات الفقيرة التي زادت فقراً، ويوجد نحو 8 مليون إنسان دون خط الفقر في بلد من أغنى بلدان العالم، ولكن شعبه يعيش بحالة مدقعة من الفقر، بل إن هناك بلدان فقيرة يعيش سكانها بطريقة أفضل من العراق بسبب نسبة قليلة من الإدارة الرشيدة والوحدة الوطنية.

ومن مظاهر الأزمة الأخرى هو تقليص دائرة المشاركة السياسية والشعبية وعدم تحقيق المصالحة الوطنية، على الرغم من المشاريع الكثيرة الفاشلة، والسبب يعود إلى عدم توفّر إرادة سياسية، فالكل يعلن عن رغبته في التوافق، لكن التوافق الذي يفهمه لا يعني سوى الامتثال إلى رأيه لدى أي خلاف، ومثل هذا الأمر زعزع الثقة الهشّة والتفاهم المهلهل أصلاً وقاد إلى المزيد من التباعد والتمترس، خصوصاً في ظل ارتفاع نزعات الهيمنة والثأر والكيدية والانتقام، ليس ضد النظام السابق وكبار موظفيه فحسب، بل ضد القوى المشاركة بالعملية السياسية بعضها ضد البعض الآخر، حيث يتم اقتناص الفرص لإيقاع كل فريق بالآخر.

أما المظهر الأخطر للأزمة، فهو حالة التفتيت والانشطار العمودي التي تعيشها الدولة منذ الاحتلال وحتى الآن،والتي تنذر بعواقب وخيمة ليس بعيداً عنها مشروع جو بايدن لعام 2007 لتقسيم العراق إلى 3 دويلات (تحت عناوين فيدراليات) ووضع نقاط تفتيش Check point بينها وتخصيص 300 ألف جندي لمراقبة حدودها وإصدار هوّيات Identity أقرب إلى جوازات سفر للتمييز بين أبناء المناطق المختلفة حسب سكنهم والأماكن التي يقطنونها.

وسيكون ذلك جزءًا من تطهير طائفي وإثني جديد، خصوصاً وأن هناك مناطق يستعصي تجييرها لطائفة أو مجموعة طائفية كبغداد العاصمة على سبيل المثال، على الرغم من التطهير الطائفي الذي تعرّضت له منذ الاحتلال ولحد الآن، وباختصار فإن الزعم بأن التقسيم سيكون حلاًّ أو حتى آخر الحلول السيئة ليس سوى محاولة لفرض الأمر الواقع على العراقيين ليصبح ذلك واقعاً في المستقبل.

التقسيم سيكون كارثة جديدة على العراق الذي سيختفي من الخارطة السياسية، خصوصاً إذا ما استمر الاحتراب والصراع، بل إن صراعه سيكون مصارعة على الطريقة الرومانية، حيث سينهك الجميع ويصلون إلى حافة الموت.

ويذكّرنا مشروع جو بايدن بسؤال طرحه غراهام فولر الدبلوماسي والسياسي في مؤسسة راند Rand الأمريكية (المقرّبة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA)هل سيبقى العراق موحداً العام 2002 ؟ وعاد وكتب دراسة في العام 2002 عنوانها "العام الأخير لصدام حسين"! ، وكان ذلك تمهيداً لاحتلال العراق، وجزء من نظرية التفتيت التي اشتغلت عليها مؤسسات الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الأمريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام، وتروست الأدمغة ومجمّع العقول لصالح المجمّع العسكري والصناعي، منذ اندلاع الحرب العراقية –الإيرانية، باعتبار الصراع في المنطقة هو بين سنّة وشيعة، وبين فرس وعرب وبين دولتين نفطيتين، وليس القضية الفلسطينية هي المسألة المركزية  وإن الصراع العربي – الإسرائيلي هو الصراع الأساسي في المنطقة، وهو ما أريد الترويج له والعمل على أساسه لتفتيت دول المنطقة ، والعراق كان بروفتها الأولى.

لعلّ غراهام أي فولر لم يكن خيالياً عندما كتب " هل سيبقى العراق لغاية العام 2002" خصوصاً باستمر الحصار والنظام حينها!؟ ننقل هذه الفقرة الجوهرية التي يريد الوصول اليها: دولة على درجة عالية من الاستبداد للحيلولة دون التفسخ، ولكن من شأن هذه الدولة الاستبدادية، أن تحرم البلاد من الاستقرار السياسي والمرونة اللازمة، الأمر الذي يغرق البلاد بالمقاومة الداخلية وعمليات التمرد والتدخلات الخارجية، وربما يغريها للسعي للمقاومة الخارجية للتعويض عن ضغطها الداخلي.

وضمن هذا السيناريو يمضي فولر: لقد شهدنا بالفعل تلك التجربة عندما شنّ العراق حربين ضد جيرانه خلال عقد واحد من الزمن. ثم يواصل فولر حبكته الدرامية بالاستنتاج التالي" ومما يدعو للمفارقة ان التدخل الخارجي ربما يكون السبيل الوحيد لانقاذ وحدة العراق، لأن استمرار نظام الحكم البعثي، سيؤدي بالتأكيد الى تعميق الخلافات الطائفية والدينية القائمة والتي يصعب التوفيق بينها داخل العراق."

ويفصح اكثر وعلى نحو لا لبس فيه ولا غموض عن ستراتيجيته الولايات المتحدة إزاء العراق، التي عبّر عنها أكثر من مرّة الرئيس كلينتون وآل غور نائبه وكريستوفر وليك وإضرابهم بالقول " فالسياسة الامريكية تجاه العراق تنطوي على مسائل تتجاوز كثيراً مصير دولة معتدية لحقت بها الهزيمة، بل إنها تشمل على العديد من القضايا ذات الاهتمام الدولي. ويعددها على النحو التالي:

1- يعتبر العراق واحداً من أخطر منتهكي الحظر على انتشار الأسلحة التدميرية وهو " مصدر قلق"!

2- العراق هو الدولة الأولى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي تم دحرها وترويضها عسكرياً بموجب النظام العالمي الجديد(الدور الجديد للأمم المتحدة)

3- ستظل "الوحدة الاقليمية " للعراق ليس موضع شك حسب، بل ربما يتقرر استمرار وحدتها جزئيا بسياسات المجتمع الدولي. (انظر غراهام. أي فولر- العراق  في العقد القادم: هل سيبقى العراق لغاية العام 2002؟ مؤسسة Rand، منشورات الملف العراقي، لندن، 1993، ص 7 و15 و 64).

وإذا كان كريستوفر قد صرّح بما يلي" إني قلق بشأن الذين سيخلفون (الرئيس) صدام حسين بقدر قلقي منه... فإن العامل الخارجي الذي يبرر التآكل التدريجي للدولة العراقية، يلتقي مع العوامل الداخلية، التي تؤدي الى ذبولها إذا جاز التعبير وبالتالي انهيارها.

(انظر كتابنا، عاصفة على بلاد الشمس، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994، ص 178)

ولكي نتعرف على طبيعة الدولة العراقية وقيام مؤسسات المجتمع المدني لا بدّ من العودة ولو بصورة سريعة الى قراءة بعض عناوين ومحطات قيام هذه الدولة وما وصلت اليه البلاد في الوقت الراهن.

لقد عانت الدولة العراقية منذ تأسيسها في 23 آب (أغسطس) 1921 من أزمة حادة، استفحلت مع مرور الايام بوجود " حكم أقلي" وابتعاد القاعدة الاجتماعية الواسعة عن المشاركة في إدارة الشؤون العامة وبالتالي تقليص دائرة الحكم، ليستقر في دولة يعبّر رئيسها الحالي عن استهزائه بالقانون والتشريع بالقول أن بضعة أسطر نحن نسنّها، فما بالك بالتطبيق. (انظر كتابنا: المحاكمة – المشهد المحذوف من دراما الخليج، دار زيد ، لندن ، 1992).

لقد أقيم العراق الحديث بلبنته الاولى في اتفاقية سايكس –بيكو السرّية عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا. وضم هذا البلد خليطاً من قوميات وعناصر متنوعة. وإذا كان العنصر العربي الأساس في المجتمع العراقي، خصوصاً في الوسط والجنوب وغرب البلاد وجزء من شمالها وبمحيطه العربي الأوسع، فإن العنصر الكردي تفوّق في كردستان (شمال العراق)، إضافة إلى وجود تركمان وآشوريين ويزيديين وأرمن وصابئة وغيرهم.

وضمّ العراق المتنوع قومياً، تنوّعاً دينياً، فإضافة الى المسلمين بطائفتيهم الرئيسيتين الشيعة والسنّة، هناك أقليات دينية متعايشة، خصوصاً المسيحيين بطوائفهم وصابئة وإيزيديين وغيرهم. والجميع يؤلفون نسيج الوحدة الوطنية العراقية بفسيفسائها وتمايز ألوانها.

وإذا كان التنوّع من خلال التعايش والوحدة الوطنية دليل قوة، إلاّ أنه لم يكن كذلك في منظور بيرسي كوكس – مس بيل بعد قيام ثورة العشرين (1920). فلم يكن من وجهة نظرهم ومصالحهم، سوى نوعاً من التناقض والصراع، الذي ينبغي أن يُحل لمصلحة بريطانيا بإحداث التعارض بين القاعدة العريضة وقمة الهرم التي كانت تضيق باستمرار.

ومع أن الملك فيصل الأول حاول تشخيص هذا الوضع قبل ما يزيد على بضعة عقود من الزمان وبعد خبرة في الحكم دامت نحو 12 عاماً حين دعا في مذكرته الشهيرة، التي وجهها قبل وفاته بفترة قصيرة (1932) إلى تقديم أولوية الانتماء إلى الوطن بدلاً من الطائفة والعرق، بسبب نهح لم يعتمد المساواة بين المواطنين أساساً للحكم، وخصوصاً فيما يتعلق بقانون الجنسية رقم 42 العام 1924، الذي قسّم العراقيين إلى فئة أ و فئة ب فيما يتعلق بشهادة الجنسية العراقية، وعلى أساسه والقوانين اللاحقة جرى تهجير عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين بحجة التبعية الإيرانية وإنسابهم إلى الفئة ب، في حين أن الفئة أ نسبت إلى التبعية العثمانية وبالتالي إلى التبعية العراقية (بالتأسيس).

وإذا كان هذا موقف رأس الدولة في العام 1932 الذي صاغه على نحو جريء وصريح محللاً حقيقة أزمة الدولة العراقية، فما بالك بما يجري في الواقع الفعلي، وهو ما أثار تداعيات وتساؤلات كثيرة بصدد تجليات الأزمة، وذلك من خلال معرفة الخلفيات وإجراء مقارنات ضرورية، كلما تطلب الأمر. (انظر عبد الكريم الأزري، مشكلة الحكم في العراق، طبعة خاصة، لندن، 1991) . انظر كذلك : عبد الكريم الأزري ، تاريخ في ذكريات العراق 1930-1958، طبعة خاصة، 1982).

الدولة حسب ابن خلدون تبدأ من " الرأس فما تحت" وهي بحاجة الى سلطة رادعة (وازع) وقائد عصبية أو تضامن من شعب يتحد معه لتنظيم أمور المجتمع. ويرى الدكتور علي الوردي الباحث والمفكر الاجتماعي: إن فكرة الدولة هي الاساس في نظرية ابن خلدون الاجتماعية وهو ما ذهب اليه الدكتور طه حسين، حين ركّز على موضوع القيم الحضرية.

أما ساطع الحصري فقد ركّز على موضوع العصبية، أي أنه أعار اهتماماً كبيراً لموضوع " القيم البدوية" في المنهج الخلدوني، كما يحلّل الاستاذ وليد نويهض. (انظر: صحيفة الحياة، 19 أيلول (سبتمبر) 1996، العدد 12260)

وحسب هوبز ولوك وسبينوزا وروسو تنشأ الدولة بموجب " عقد اجتماعي" بين الحكام والمحكومين (وإن اختلفت شروطه). أما عند كارل ماركس ولينين فالدولة أداة قمع للسيادة الطبقية، فهي والحالة هذه أداة لتنظيم سيادة طبقة على أخرى.

وإذا كان الاجبار سمة من سمات الدولة حسب ابن خلدون، لتأتي بعدها المظالم، فالدولة أيضاً نتاج تحريضي لما يحدث بين الناس من إكراه على التعاون في سبيل الانتاج الحضاري.

(انظر: علي الوردي، منطق ابن خلدون، طبعة جديدة، ص 251)

 

الدولة سواء ابتدأت من "رأس " أو كانت بموجب " عقد" أو "تخويل"  أو "سيادة لطبقة" فلا بدّ من قوانين تنظيم شؤون البلاد والعباد وفقاً لدرجة التطور الاجتماعي. وإذا كان العراق بعد احراز استقلاله السياسي، يمرّ بمرحلة انتقالية، فإن انتماءه الى المجتمع الدولي، كدولة ذات سيادة " عصبة الامم عام 1932" ودخوله الامم المتحدة، كعضو مؤسس وموّقع على الميثاق عام 1945، قد جعلت مكانت الاقليمية والدولية تكبر، خصوصاً ما يمثله من موقع ستراتيجي وموارد هائلة وخيرات ومعادن وتاريخه الحضاري العريق.

وشهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، استقراراً نسبياً وعمراناً تجسّد بمشاريع تنموية كبرى وسعياً لتحديث الادارة وبناء مؤسسات ومرافق اقتصادية، ورغم ربط العراق بمشاريع دولية للهيمنة وفي إطار الصراع السياسي والآيديولوجي، فترة " الحرب الباردة" كحلف بغداد عام 1955 وغيرها، الاّ أن القاعدة ظلّت بعيدة عن المشاركة في اتخاذ القرار، بل بينها وبين مركز القرار هوّة سحيقة، كانت تتسع باستمرار لدرجة لم يعد بالامكان ردمها الاّ بعملية قيصيرة بإعادة بناء الدولة العراقية على أسس جديدة وفي إطار المساواة وعدم التمييز، بما يعالج الفجوة الكبيرة والهائلة بين قاعدة الدولة وقمة الهرم.

لقد استهدفت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 معالجة موضوع اختلال التوازن في الدولة العراقية، خصوصاً نهج العزل والتمييز واللّامساواة، بالسعي لتوسيع قاعدة الحكم وتحرير الارادة الشعبية والتخلص من النفوذ الاجنبي الاستعماري ومن مظاهر تزييف الحياة البرلمانية وقيود العشائرية والمحسوبية والمنسوبية والاضطهاد الشوفيني، لكن الأمور سارت باتجاه آخر، أكثر ضيقاً وتدريجياً بدأت ملامح الحكم العسكري تحكم قبضتها على البلاد وتفرض نوعاً جديداً أشد قسوة من الهيمنة ومصادرة حق الآخر والتدخل بشؤون المجتمع المدني والاستحواذ على مؤسساته، لدرجة أن البلاد دخلت دوامة الانقلابات العسكرية المتكررة ودارت في حلقة الانظمة الشمولية التوتاليتارية المتعاقبة، حيث تمت السيطرة على الحياة العامة وأُخضعت الأنشطة والفاعليات السياسية والنقابية والمهنية والاجتماعية للدولة، التي ألحق بهها كل شيء، فانقطع خط التطور التدريجي وازدادت قمة الهرم ضيقاً وتباعدت عن قاعدته الاجتماعية.

أما الدولة بعد الاحتلال الأمريكي وبموجب صيغة بول بريمر- زلماي خليل زاده،  فإنها توزّعت على ثلاث كيانيات سمّيت مكوّنات، هي الشيعة والسنّة والكرد، وفقاً لهذا النظام تمت المحاصصات الطائفية والإثنية وسارت على هذا الطريق من الناحية العملية منذ العام 2003 ولحدّ الآن، ويبدو إنها أصبحت مرتهنة إليه وأسيرة له، بل إن شرنقة تكاد تلف هذه الصيغة على نحو شديد لا يستطيع أحد الفكاك منها.

ومن مظاهر الأزمة الراهنة هو: غياب الحد الأدنى من التوافق الوطني حول الوحدة الوطنية قاد إلى رؤية متناقضة للجماعات السياسية والطائفية، وهذه الرؤية تزداد تعقيداً بفعل اشتباك المصالح وتضاربها وبحكم التداخلات الإقليمية والدولية، يضاف إلى ذلك سعي أمراء الطوائف في الحصول على المزيد من الامتيازات لشحن أبناء طوائفهم ضد الآخر بزعم الخطر القادم.

فالشيعية السياسية، وخصوصاً الجماعات المسلّحة، سواء في السابق أو في الوقت الحاضر وتحت تسميات "الحشد الشعبي" الذي هو جيش موازي للجيش النظامي من الناحية العملية وإن كان خاضعاً رسمياً لرئاسة الوزراء ومرتبطاً برئيس الوزراء، نقول إن الشيعية السياسية ولاسيّما المسلحة تطمح إلى دور أكبر بعد انتهاء العمليات العسكرية والقضاء على داعش.

ويضم الحشد الشعبي  الذي يرأسه هادي العامري، لواء بدر الذي كان تحت إمرته، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي وجيش المهدي المرتبط بمقتدى الصدر وكتائب حزب الله وهي من التنظيمات التي قاومت الاحتلال، وجماعة المجلس الإسلامي  الأعلى بقيادة عمار الحكيم ومجموعة من حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي.

إن نشاط هذه المجموعات الشيعية، السياسي والعسكري، يستند إلى ركيزتين أساسيتين: الأولى هي التحالف مع إيران والترجيب بالدور الإيراني الذي تقوم به في العراق، سواء في مواجهة داعش أو في دعم العمليات السياسية، أما الركيزة الثانية فهي وقوفها بقوة ضد عودة القديم إلى قدمه، أي الحيلولة دون محاولات عودة أتباع النظام السابق، وهو الأمر الذي يجعل من موضوع المصالحة الوطنية مجرد شعار ترويجي ليس للتطبيق بحكم المخاوف المزروعة والمستمرة بين الأطراف المختلفة، خصوصاً باستمرار قانون المساءلة والعدالة الذي هو امتداد لقانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، العام 2003، وهاتان الركيزتان الاستراتيجيتان تعمل عليهما القوى الشيعية وكذلك إيران على نحو تكاملي ومتداخل، وقد تكون ضمن برنامج تدرّجي وبعيد المدى.

أما السنّية السياسية المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة فهي تخيف أبناء المناطق الغربية من الخطر الشيعي ومن تدخّلات إيران والتمدّد الصفوي بهدف التعبئة ضد خصومها من الشيعية السياسية، ولذلك وتحت ضغط الواقع والشعور بالتمييز والتهميش تضطر أحياناً إلى قبول فكرة الإقليم السنّي للحدّ من نفوذ الشيعية السياسية، كما إنها تسعى للحصول على دعم إقليمي ولاسيّما من دول الخليج العربي، وتركيا بهدف التوازن مع الدعم الإيراني للشيعية السياسية كما تبرّر، وهكذا فإن مثل هذا التجاذب يستمر، بل يتصاعد، وما لقاءات الدوحة (أيلول/سبتمبر/2015)  إلاّ تعبيراً عن المخاوف إزاء تطور الأوضاع الراهنة في العراق، وخصوصاً في المناطق الغربية من العراق.

ويعبّر الكرد عن مشروعهم الموسوم بقيام كيان خاص بهم " دولة" بمناسبة أو غير مناسبة، وهم أكثر وضوحاً وشفافية، استناداً إلى تمسّكهم بمبدأ حق تقرير المصير الذي أقرته المعارضة العراقية منذ العام 1992 في مؤتمر فيينا وصلاح الدين. ومع إن مشكلات تعترضهم على هذا الصعيد، بسبب الخلافات الداخلية والمنافسات السياسية والحزبية الحادة، فإن هناك تحفظات إقليمية ودولية بهذا الخصوص وهو ما لوحظ بشكل خاص بعد زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لواشنطن الأخيرة 3/5/2015.

وعلى أي حال فالمشروع الكردي بإقامة كيان خاص " دولة" في طريقه للتحقّق إن آجلاً أو عاجلاً، ولكنه يحتاج إلى وقت وقد يتم بالتدريج وعلى مراحل، خصوصاً وأن غالبية الشعب الكردي حسبما بيّنت الاستفتاءات تؤيد ذلك وتبقى مسألة التوقيت تحتاج إلى ظرف مناسب، وإلاّ فإن إجهاضها سيوجه ضربة جديدة لآمال الحركة الكردية. أما التركمان فهم يشعرون بالغبن لعدم تمكّنهم من إقامة كيان خاص بهم، ناهيك عن وقوعهم في منطقة حساسة لتضارب المصالح، ولا زال المسيحيون ( الكلدان والآشوريون والسريان) في حال شديد البأس والخطورة، بسبب إجلائهم  من مناطقهم في الموصل وبعض قرى وقصبات سهل نينوى وترتفع نسبة الهجرة في أوساطهم.

وهكذا فإن الدولة تسير بخطوات حثيثة نحو المزيد من الاصطفاف الاصطفائي والتباعد العملي الذي سيزيد من عوامل الانشطار والتمزّق.

 

في المثقف اليوم