دراسات وبحوث

الأزمة العراقية الراهنة: الطائفية، الأقاليم، الدولة (2-2)

abdulhusan shaabanرابعاً - من الدولة الفاشلة إلى الدولة الرخوة: إذا كانت مظاهر الدولة الفاشلة قد تجسّدت في عدم قدرتها على تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وعجزها عن تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، وخصوصاً في ظلّ شحّ المشاركة السياسية الحقيقية باستمرار الظاهرة الطائفية، وكذلك عدم التمكّن من إنجاز المصالحة الوطنية الحقيقية فإن هذه الدولة أخذت تنحدر تدريجياً من الدولة الفاشلة إلى الدولة الرخوة والكيان الهش المعرّض للتفتت.

نقول إن العراق دولة رخوة وكيان هش وبدأ يتحلّل بشكل خاص منذ الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988، حين بدأت بعض الإرهاصات الطائفية تأخذ طريقها إلى الممارسة السياسية بتهجير عشرات الآلاف من العوائل العراقية إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية وضعف الولاء للدولة العراقية، وزاد تدهور الدولة بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 وحرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991، وقاد الأمر إلى ضعف الشعور بالمواطنة وارتفعت موجات التمييز، وتدريجياً بدأت الدولة بالتراجع، حتى أن إقليم كردستان أصبح خارج سيطرتها منذ أواخر العام 1991، ثم وقع العراق تحت الاحتلال في العام 2003 في حرب محسومة النتائج سلفاً، وبعد حصار دولي دمّر النسيج العراقي دام نحو 13 عاماً، خصوصاً وأن دخول العراق في حروب لا معنى لها قد أضعف من مكانة الدولة العراقية، ولاسيما بعد غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990.

ولا يقلّ العجز السياسي عن العجز الاقتصادي، بل إن كليهما يثبت هشاشة ورخاوة وعجز الدولة، ذلك أن عدم التمكّن من تحقيق الاستقلال الوطني، قاد إلى عدم التمكّن من تحقيق الاستقلال الاقتصادي في ظلّ تخبّطات عرفتها الدولة وسياساتها المالية والاقتصادية وغياب الحوكمة، وقد ارتبط العجز في مجال التنمية وتدهور مستوى الخدمات إلى عجز مماثل في ميدان العدالة، اجتماعياً وقانونياً، مدنياً ودينياً، وبسبب ذلك أيضاً تعرّض مسيحيون وإيزيديون وصابئة وأبناء طوائف أخرى إلى سلسلة من عمليات القمع والإرهاب والتنكيل وغير ذلك.

وجعل العجز في الحقول الثلاثة، الدولة العراقية قابلة للاختراق من الخارج، مثلما عرّض المجتمع العراقي والمواطن العراقي إلى امتحانات شديدة القسوة بسبب ذلك، خصوصاً بضعف الحصانة وشعور فئات واسعة من السكان بالتمييز والتهميش ، والأمر له علاقة بغياب المشاركة السياسية الضرورية وتسلّط نخب تجهل آليات عمل الدولة وأجهزتها، فضلاً عن انخراطها في عمليات الفساد المالي والإداري.

لا يمكننا فقط التركيز على الوضع الذي وصلت إليه البلاد على العامل الدولي ونقصد بذلك الاحتلال، وإنْ كان أساسياً، لكن العامل الإقليمي مهم جداً بوضع مثل العراق، فلإيران مشروعها السياسي القومي المذهبي الآيديولوجي، ولتركيا مشروعها السياسي القومي المذهبي الآيديولوجي، أما العراق فقد انقسم إلى طوائف وإثنيات وكتل وجماعات متناحرة متضاربة لا يجمعها جامع يمثّل الحد الآن من الانتماء إلى الوطن وإلى حمل صفة المواطنة، وقد يكون مناسباً في هذا المقام استعادة مذكّرة الملك فيصل الأول العام 1933، بخصوص غياب المواطنة العراقية، وذلك بعد أكثر من 12 عاماً على حكم البلاد، التي وجدها مقسّمة طائفياً وإثنياً  بين مللٍ ونحلٍ وطوائف وعشائر لا يجمعها جامع.

إن عدم وجود مشروع عراقي موحّد أو مشروع عربي جامع للعب دور توازن مع المشروعين الإيراني والتركي، إضافة إلى المشروع الصهيوني الذي له يد طويلة في الامتداد والاختراق، ولعب دور التنفير والتوتير بين دول المنطقة وشعوبها ولدى كل دولة في الوقت نفسه، أقول أن غياب هذا المشروع يعني أن العراق الذي نعرفه قد يتعرّض كيانه للتفتيت أو للتجزئة، وذلك سيناريو محتمل بسبب استفحال الأزمة وإمكانية  تفاقمها في المستقبل لأسباب داخلية أو خارجية. وإذا ما تحقق مثل هذا السيناريو فسيكون أول المسلسل للدول العربية، فقد تلحقه سوريا واليمن وليبيا، وهناك إشارات إلى بعض دول الخليج، خصوصاً في ظل التداخل الإقليمي.

 

خامساً - من الدولة العميقة إلى الدولة الغنائمية

ما كادت البلدان العربية التي شهدت حراكاً شعبياً تتنفّس الصعداء بعد تبلور مطالب شعوبها باتجاه التغيير، حتى بدأت معاناة  أخرى ومن نوع جديد تواجهها، والأمر لا يتعلّق بصميم ما سعت إليه ورفعته من شعارات ذات طبيعة قيمية، مثل المطالبة بالحرّيات والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وغيرها، بل بصراعات واحتدامات جديدة سرعان ما أخذت طريقها إلى المسرح السياسي، خصوصاً ما رافقها من عنف وفوضى وتفتت مؤسسات الدولة وانحلال بعضها.

والأمر لا يتعلق بالشرعيات القديمة التي انهارت أو تآكلت أو ضعف دورها، بقدر ما له علاقة بطبيعة التغييرات الحاصلة والحواضين الاجتماعية لها، والمرحلة الانتقالية التي تمرّ بها ودور الدولة العميقة في مواجهتها والتحديات التي اعترضت طريقها، والقوى التي حاولت تجيير عملية التغيير لصالحها، والتطورات الجديدة وغير المتوقعة التي أعقبتها.

وإذا كانت الشرعيات القديمة قد أصبحت ماضياً ولا يمكن إعادته أو العودة إليه، إلى أن المسألة في وجهها الآخر ترتبط بعدم ولادة شرعية جديدة وتوافقات تستجيب لمطامح التغيير وتطلّعاته، وخصوصاً باللحظة الثورية التي اتحدت فيها العوامل الموضوعية مع العوامل الذاتية، بالنسبة للشباب.

وإذا كان القديم قد انهار أو تفكّك أو تذرّر، لكن الجديد لم يولد بعد وحتى ولادته كانت قيصرية أحياناً، وسرعان ما تعرّض المولود الجديد إلى التهابات حادة وأعيد إلى حاضنته، فضلاً عن كوابح وعراقيل بدأت مع أولى محاولات البناء، سواء من جانب القوى المخلوعة أو من جانب قوى وجدت مصلحتها في الماضي، أو أرادت أن تكون هي بديلاً عنه، وهكذا تبدّدت فرص التغيير، وأصيب البعض بالخذلان والخيبة، بل وُجد هناك من اعتبر التغيير كارثة، والربيع أصبح بعرفه خريفاً، لأن البديل كان ملتبساً، حيث استشرت الفوضى وعمّ العنف وتفشي الإرهاب على نحو مريع، بل إن الدولة الوطنية أصبحت عرضة للتمزّق والتآكل والتفتت وتم العبث بوحدتها وهيبتها ومرجعيتها.

وإذا كانت حركة الاحتجاج استهدفت استعادة الحقوق المفقودة والمستلبة، فإن العواصف والتقلّبات والانقسامات التي شهدتها البلدان التي عرفت التغيير، دفعت أوساطاً غير قليلة إلى القنوط لدرجة اليأس، خصوصاً بصعود نجم الجماعات الإرهابية، سواء تنظيم القاعدة أو ربيباته: تنظيم داعش وجبهة النصرة وغيرها، إضافة إلى قوى محافظة أحياناً قد تكون أبعد عن الحداثة من القوى الاستبدادية التي حكمت البلاد.

ولأن البلدان التي واجهت حركة الاحتجاج والتمرّد انزلقت إلى حروب أهلية أو هدّدتها العمليات الإرهابية وتزايد أعداد المتطرفين والانتحاريين، كانت تعيش في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، فإن أزماتها وهي تعيش مرحلة انتقالية، ازدادت حدة وعنفاً، كانت حادة وعنيفة على إن الاستثناء هو تونس في المحيط العربي لأنها لم تنزلق في حروب دموية، مع ارتفاع منسوب الاغتيالات السياسية، ومصر التي استعادت الدولة مكانتها بعد استبعاد الأخوان المسيلمين من الحكم، لكن حركة التمدين السياسي والمشروع الديمقراطي المدني لا يزال متعثراً أو إنه يسير الهوينا، ناهيك عن حجم العنف الذي ضرب ليبيا واليمن وسوريا، حيث عانت هذه البلدان من تدخلات خارجية دولية وتداخلات إقليمية، واندلاع حروب دموية وضعت مسار الدولة ومؤسساتها جميعها في حالة لا تُحسد عليها.

ولأن الحقوق الأساسية ظلّت مستلبة، لاسيّما الحق في الحرية، فقد وجدت عقبات جديدة أمام حرية التعبير والضمير بفعل صعود تيار إسلاموي متطرّف، فضلاً عن بعض نزعات طائفية ومذهبية طغت على السياسة، تلك التي اعتمدت ثقافة الحشود مذكرة بعصر المداخن الذي تلى الثورة الصناعية، وأريد بها بديلاً عن المعرفة والاحتكام إلى المعايير الديمقراطية والحقوق الأساسية التي اندلعت الثورات والانتفاضات من أجلها.

للأسف الشديد فإن الطبقة السياسية التي تصدّرت المشهد عقب أنظمة الاستبداد التي أطيح بها والتي زعمت أنها كانت السبب وراء معوّقات التطور الديمقراطي، وقفت هي الأخرى بسبب صراعها على السلطة ومراكز النفوذ وبفعل الفساد المالي والإداري والتذرّر الطائفي والمذهبي بوجه علميات التحوّل الديمقراطي، لاسيّما في ظل استشراء العنف والإرهاب، ولذلك ضاعت الحقوق التي ناضلت من أجلها الشعوب وحركات الاصلاح والتمدين ومن أهمها "الحق في الحق" وأساسه الحق في التمثيل السياسي والحق في الأمن والحق في السلام والحق في التنمية والحق في الحرية والحق في الكرامة والحق في السكن والعمل والضمان الاجتماعي والحق في العلاج وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتلك من مستلزمات دولة الحق والقانون، خصوصاً باعتماد حكم القانون واستقلال القضاء وفصل السلطات والإقرار بالتنوّع والتعددية وحق الشعب في اختيار من يمثله وحقه في عزله، على أساس التداولية السلمية للسلطات.

واستبدلت الطبقة السياسية بعد الإطاحة بالأنظمة السابقة، مفهوم الدولة الاستبدادية ليحلّ محله مفهوم الدولة الغنائمية والمحاصصة الطائفية والحزبية، وولدت وتكاثرت بسرعة خارقة لوبيات فاسدة وفئوية ولصوصية، فضلاً عن غياب رجال دولة حقيقيين، فالطاقم السياسي بشكل عام جاء في غالبيته من المعارضات، التي ليس لها خبرة أو معرفة بالدولة ودواوينتها وآليات عملها، وبسبب ضعف الرقابة وتفكك أجهزة الدولة ومحاولة الكسب غير المشروع والسريع استشرى الفساد المالي والإداري على نحو لم يسبق له مثيل، بل إنه شكّل ظاهرة صارخة في أوضاع ما بعد الربيع العربي.

لو راجعنا تقارير البنك الدولي والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية المعتمدة مثل منظمة الشفافية العالمية، لاكتشفنا إن بلدان ما بعد الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية، سواء التي وصلت فيها النخب الحاكمة بعد الاحتلال مثل أفغانستان والعراق، أو بالتدخل الخارجي كما هو في ليبيا واليمن، هي الأكثر فساداً، بل إن بلداً مثل العراق وصلت وارداته النفطية خلال السنوات العشر الماضية أكثر من 700 مليار دولار، لكنه لا يزال يعيش على الحافة، وترتفع نسبة من هم دون خط الفقر لتصل إلى أكثر من 8 مليون إنسان في بلد عدد سكانه نحو 30 مليون، وتزداد نسبة البطالة وتتفشى الأمية فيه، ولاسيّما بين النساء، ناهيك عن الإرهاب والعنف والطائفية والمحاصصة والفساد، وهو من أغنى بلدان العالم.وهكذا كانت المعادلة أغنى بلد لأفقر شعب.

وإذا كانت أنواع الفساد الكبير معروفة، فإن أنواع الفساد الصغير الذي قوامه الغش والرشا والمحسوبية والوظائف والعقود الوهمية والتهرّب من الضرائب وتجنب الغرامات المالية والشراكة مع رجال الأعمال وهروب العديد من الفاسدين أصبحت سائدة، وأصبح الفساد بحد ذاته مؤسسة من المؤسسات التي يصعب اختراقها بحكم نظام المحاصصة الوظيفي وبحكم المصالح التي ترتبت للطبقة السياسية وأعوانها.

ومن النتائج الكارثية الجانبية لحركات التغيير صعود ظاهرة الإسلام الجهادي، في تونس وليبيا وسوريا ومصر والعراق، خصوصاً بين أوساط المهمشين والمنحرفين والمجرمين والفئات الأقل تعلماً تلك التي تبنّت آيديولوجية داعش، التي تمدّدت ليشمل نشاطها قارات وبلدان بعيدة مجندة آلاف الشباب بما فيه الأوروبي والغربي للالتحاق بها.

إذا كانت الدولة العميقة قد انهارت سريعاً، لكن تأثيراتها لم تنتهِ ولا تزال قائمة وقوية، وقد استعادت بعض مواقعها، ولكن تحت عناوين اقتسام الغنائم والحصص وتوزيع الفوائد على القوى المتنفذة، مهما اتخذت من أسماء وصفات.

والأمر لا يتعلق بنفوذها الداخلي فحسب، بل إنها عقدت شراكات مع الخارج بما فيها الدول والشركات العابرة للقارات والحدود التي زعمت إنها تقف مع التغيير.

 

تحدّيات داخلية وخارجية

إن التحدّيات التي تواجه استمرار العراق كدولة قائمة هي:

1- تحدّيات سياسية خارجية، إضافة إلى تحدّيات اقتصادية دولية بسبب شروط التبادل التجاري واستيراد الغذاء وانخفاض أسعار النفط واستيراد السلاح والمديونية، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر خضوعاً للهيمنة الخارجية، وخصوصاً في ظل وجود النفط، وذلك يطرح تحدّيات جيوسياسية من خلال روابط التبعية، ولا تأتي هذه فقط من الغرب الإمبريالي، بل من إيران وتركيا و"إسرائيل"، سواء باستخدام القوة العسكرية أو لاقتطاع الأراضي، أو لإجبار العراق على توقيع اتفاقيات "سلام" استسلامية مع "إسرائيل" وإنهاء كل علاقة بقضية العرب المركزية " فلسطين" وفتح أسواقها للصناعات والتكنولوجيا "الإسرائيلية"، وكذلك لإحداث المزيد من التصدّع داخل المجتمع العراقي.

2- تحدّيات داخلية، وأولها وأهمها وأخطرها هو الاحتراب الطائفي المعلن والمستتر، وهيمنة الطائفية السياسية على مقاليد الدولة وأجهزتها وممارستها للتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني. يضاف ذلك عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي، ولاسيّما وإن مشاكل الإثنيات والأديان والطوائف أخذت بالظهور على نحو شديد بعد الاحتلال، أما بسبب كبت طويل الأمد واضطهاد وعدم مساواة، أو بسبب رغبة في التعبير عن هوّية فرعية وخصوصية جرى طمسها أو تغييبها خلال مسار الدولة العراقية. والمسألة تتعلّق بالكرد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان كتعبيرات قومية وإثنية، وبالأديان مثل المسيحية والإيزيدية والصابئة وغيرهم، وفي إطار الأديان بما فيه الإسلام والمسيحية وطوائفهما، وبالطبع فإن نهج الاستعلاء والإقصاء والتهميش الذي عانت منه هذه المجموعات  الثقافية على مرور تاريخ الدولة العراقية دفعها للتعبير عن نفسها وهوّيتها الفرعية وفي بعض الأحيان بانغلاقها وضيق أفقها بسبب ما عانت منه.

وتبقى المسألة الأساسية هي التحدّي الطائفي المحتدم والمصحوب بالكثير من عناصر الكراهية والحقد والبغضاء، لاسيّما التي يقوم أمراء الطوائف والمستفيدون من الانشطار الطائفي بتغذيتها، ولاسيّما علاقة الشيعة بالسنّة، حيث أدى هذا الإنقسام إلى احترابات وتكفير خصوصاً، وإن دعاة الطائفية هم في الغالب الأعم " طائفيون بلا دين" على حد تعبير عالم الاجتماع علي الوردي واستخدموا الطوائف بما يسيء إلى الدين، بتقديم ذلك على مبادئ الوطنية والمواطنة، وليس ذلك بعيداً عن التداخل الخارجي الإقليمي والدولي.

إن التحدّي الديني وفروعه الطائفية قاد إلى موجات مختلفة من التعصّب والتطرّف والإرهاب والعنف، وانتشار ما سمي بالحركات الأصولية " الإرهابية" سواء اتخذت اسم جماعات القاعدة أو جبهة النصرة أو داعش أو جماعات مسلحة خارج دائرة القانون سنّية أو شيعية، ولاحظنا كيف اهترأت دولة مثل العراق واقتطع جزء عزيز منها هو الموصل، بكل تلك الخفّة واللاّمسؤولية، والأمر ذاته في سوريا، حيث لا تزال الرقة ونحو ثلث الأراضي السورية تحت هيمنة داعش. وللإرهاب أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مثل الفقر والأمية والتخلف وعملية غسل الأدمغة التي تقوم بها الجماعات الإرهابية والتفسيرات الخاطئة للدين وغير ذلك.

 

الأزمة العراقية والسيناريوهات المحتملة

وضعت الأزمة العراقية الأخيرة، الدولة ومستقبلها على بساط البحث، فهل سيتعرّض العراق إلى التفتيت؟ ثم ما هي السيناريوهات؟ وإذا كان هذا السيناريو محتملاً بفعل استفحال الأزمة العراقية وعدم وجود حلول جذرية لإعادة لحمة الدولة باستمرار الطائفية السياسية التي تمثّل جوهر الأزمة ، فالدراسات المستقبلية تضع سيناريوهين آخرين لأزمة الدولة، أولهما سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه أو تفاقمه، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى احتمالات أخرى، وثانيهما سيناريو التوحيد وخصوصاً إذا ما توفرت إرادة سياسية موحدة وظرف موضوعي وذاتي مناسب. ما الذي يمكن أن يحصل؟ وأي السيناريوهات المستقبلية سيكون أقرب إلى الواقع؟

 

أولاً- سيناريو التفتّت

1- التفتّت الواقعي Defacto fragmentation، وذلك بتحوّل الدولة إلى كانتونات أو فيدراليات أو دوقيات أو مناطقيات لا يربطها رابط وثيق فيما بينها سواءً كانت معلنة أو غير معلنة، معترف بها أو غير معترف بها رسمياً، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لكنها قائمة بالفعل ويمثّل إقليم كردستان نموذجاً لها، من حيث السلطة والإدارة والموارد والخدمات، وهكذا تضمحل وتتقهقر  الدولة تدريجياً.

2- التفتّت الرسمي (الفعلي) Dejure Fragmentation وهو الشكل الفعلي للانقسام أو الانشطار وقد يتحقق بالقوة وبعد احترابات ونزاعات مسلحة، أو بالاتفاق سلمياً، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف شيئاً إلى اسمها السابق، وسيكون لهذه الدولة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرّت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك عن امتيازات، حينها سيكون من الصعب تخلّي النخب الحاكمة الإقليمية عنها.

3- الانضمام والإلحاق،   Joining and Annexوهو وسيلة أخرى للتفتت، يضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الرسمي (الفعلي)، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح  المشتركة "القومية" أو "المذهبية" أو غير ذلك،  وأعتقد إن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، خصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي.

ومن العوامل التي تساهم في تزايد التحدّي وعدم الاستجابة الفعّالة لحلول ممكنة هو الإخفاق في مواجهة الأزمات والمشكلات الحادة وعدم التمكّن من تلبية المطالب الشعبية، بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، وكذلك عدم التمكّن من تحسين الخدمات واستمرار الارهاب وأعمال التفجير والمفخخات وتدهور الوضع الأمني، إضافة إلى استمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول والموارد،  وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية بما فيها المصالحة والتخلّي عن مساعي الانتقام والثأر ومحاولة كسر شوكة الآخر، ناهيك عن شحّ موارد الدولة ووصول نموذجها التنموي إلى طريق مسدود، واقتراضها من البنوك الدولية وغير ذلك.

 

ثانياً- سيناريو استمرار الحال

وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه دون إحراز تقدّم يُذكر، وذلك سيعني فشل الخطط المعلنة للاصلاح، بسبب عوامل الكبح والمعارضة من جانب الجماعات المتضرّرة من الإصلاح، خصوصاً وأن هناك تحالفاً سرّياً بين مختلف الكتل والجماعات على عدم فتح ملفّات الفساد، وحين تجرّأ العبادي  (وإنْ كان تحت الضغط الشعبي) على إعلان ذلك  استنفر جميع الفرقاء (من الفاسدين) لوقف هذا المسلسل. وإذا توقّف ولم يستطع الاستمرار فعلاً، فإن ذلك  سيكون سبباً في الخيبات والمرارات التي سيعيشها العراقيون، وإن استمرار مثل هذا الأمر لفترة غير قصيرة سيؤدي إلى تعميق فشل الدولة الفاشلة والرخوة، ويساهم في تفتيتها وتشظيها.

ومن احتمالاته عدم بقاء رئيس الوزراء في موقعه، وانفتاح الأزمة على مصراعيها، فالأمر لا يتعلّق بالعبادي، بل بمستقبل الدولة العراقية ومسألة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين: فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة حتى رأسها بالأزمات والمشاكل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خصوصاً بفشل إدارتها وفشل إدارة حلّ الأزمة؟

هل سنذهب إلى انتخابات مبكرة؟ أم إن العبادي سيستخدم "صلاحياته" أو يتجاوزها بفعل الخطر الذي يتهدد الدولة العراقية بإعلان حالة الطوارئ وتعليق الدستور وحلّ البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني جديدة انتقالية من كفاءات عراقية تحدّد بعد سنتين مثلاً الذهاب إلى انتخابات؟

إن استمرار الحال لم يعدْ ممكناً، وفي أحسن تقدير : أما الإطاحة بالعبادي، لاسيّما إذا بقيت الاصلاحات فوقية، وهو ما يذكّر برغبة الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف في العام  1956 بإجراء إصلاحات لمعالجة آثار الحقبة الستالينية، لكن طاقم ستالين وجهازه ظلّ هو الحاكم والمتنفذ. وتدريجياً عادت الأمور كما كانت إلى حدود غير قليلة، وفي نهاية المطاف أزيح خروتشوف عن موقعه وحلّ ليونيد بريجينف محلّه وحكم بالبيروقراطية الاستبدادية ذاتها لعشرين عاماً.

ثم جاء ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في العام 1985 فأعلن عن رغبته في إجراء إصلاحات جذرية، أطلق عليها " البريسترويكا والغلاسنوست" أي "إعادة البناء والشفافية"، لكنه واجه مشكلات جمّة، فلم يكن لديه أدوات للاصلاح والتغيير، وكان جهاز الدولة منخوراً والحزب مترهّلاً، ناهيك عن إنه لم يلتجئ إلى خطوات متدرّجة وتراكمية وطويلة الأمد، ولهذه الأسباب لم يكن بإمكانه الاحتفاظ بالسلطة، ولكن هذه المرّة لم يزاح هو فحسب، بل أطيح بالاتحاد السوفييتي في العام 1991، بعد إسقاط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية بانهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 .

صحيح أن العبادي ليس خروتشوف ولا غورباتشوف ولا يمكن مقارنته بأي منهما، كما أن العراق ليس الاتحاد السوفييتي، لكن هذا الاستطراد مع الفارق في التشبيه والحالة والزمان والمكان، يستهدف إلفات النظر إلى أن أمام العبادي طريق واحد للاستمرار أو أنه إمّا أن ينحر أو ينتحر وقد يطاح بالعراق، إنْ لم يتّخذ خطوات عاجلة وسريعة لتدارك ذلك، ببناء تحالفات جديدة خارج الطاقم الحاكم، لأن أعداءه يمثّلون حيتان كبيرة من داخل حزبه ومن خارجه ، وليس معه أحد، لا السنّية السياسية ولا الكرد، وحتى الحشد الشعبي فإن ولاءه الأساسي ليس له. وإنْ لم يستطع العبادي الإطاحة سريعاً برؤوس الفساد، فسيطاح برأسه وقد تنهار الدولة العراقية.

 

ثالثا- سيناريو التوحيد

إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية  لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضاً،  فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب بشأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته، وكانت جزء من أسباب الخراب التي تعاني منها البلاد.

إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في مجتمعنا لا تزال ضعيفة ومستلبة وملحقة لحساب النخب السياسية التي بيدها القدح المعلاّ ولها سطوة عليها، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي " القابلية على الاستعمار"، لاسيّما وأن النخب السياسية تملك المال والسلطة أو جزء منها والنفوذ وأحياناً معها ميليشيات وبعض دول الجوار أو القوى الدولية،  ولذلك فإن أي استعادة لدورها، يتطلّب استعادة الوعي أولاً واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدّي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه.

كما إن إجراء إصلاحات واستجابة لمطالب المتظاهرين قد يفتح آفاقاً جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير  تمثل طيفاً واسعاً من القوى، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحّدة مع الكثير من أن المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، ولاسيّما الدينية والطائفية والإثنية، تمنع وتعرقل أي لقاء بينها، بل وتضع العصا في دولاب أي تحرّك باتجاه الحوار.

وهذه القوى هي: جماعات المصالح الاقتصادية والأحزاب والقوى السياسية المهمّشة من داخل العملية السياسية أو من خارجها، إضافة إلى المجموعات الثقافية المتنوّعة والتي تشعر بالغبن بسبب الإقصاء أو العزل أو التهميش أو حتى احتساب بعضها على النظام السابق، فجرى اجتثاثها، وبعضها  من أصحاب الكفاءات والخبرات التي لا يستهان بها. يضاف إلى ذلك مؤسسات المجتمع المدني من داخل وخارج العملية السياسية، ومراكز الأبحاث والدراسات والجامعات، فضلاً عن أن البيئة الدولية والإقليمية قد تكون مشجّعة للتوحيد لأسباب تتعلق بالخوف من انتقال عدوى التفتيت إليها، ناهيك عن فايروس الإرهاب.

وسيكون على عاتق الطبقة الوسطى، وخصوصاً المثقفين والأكاديميين والمفكرين دوراً مهماً على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللامركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ودون صفقات سياسية  باعتبارها  نظاماً لتوزيع الثروة والسلطة، كما  لا بدّ من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون.

يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن التجاوز عليها، وأولها الحرية وثانيها المساواة وثالثها العدالة، ولاسيما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصبّ في مبادئ المواطنة، التي تشكل جوهر الهوّية الجامعة ، مع احترام الهوّيات الخصوصية.

 

 خاتمة

بين الطائفية والمواطنة فرق كبير وشاسع، والمواطنة ليست طائفية حتى وإن انتمى المواطن إلى طائفة، إلاّ أن الأساس الذي يربطه بالمواطن الآخر هو الوطن والمواطنة والحقوق المتساوية، المتكافئة، والمشترك الإنساني في إطار سيادة القانون، وإذا ما أقرّ الجميع ذلك وفق دستور ينظّم علاقة المواطن بالدولة، فالأمر يقتضي أن تكون هي المرجعية وليس غيرها، وهو ما يتطلب التصدّي لمرتكبي الطائفية، طبقاً لقانون يحظرها ويعاقب من يدعو أو يروّج أو يتستر عليها، أو يتهاون في مكافحتها أو يخفي معلومات عنها، وذلك بهدف تعزيز المواطنة وتعميق أواصر اللحمة الوطنية والوحدة الكيانية للمجتمع والدولة.

وإذا ما اقترنت الطائفية والتمذهب بأفعال وأنشطة من شأنها أن تؤدي إلى انقسام في المجتمع ونشر الفوضى والاضطراب، واستخدام العنف والقوة والتمرّد، وقد تقود إلى حرب أهلية، فإن ذلك يرتقي إلى مصاف جرائم أمن الدولة الكبرى، بما فيها جرائم الإرهاب، وقد تصل إلى جرائم الخيانة العظمى إذا ما ترافقت مع تحريضات لجهات خارجية وفقاً لأجندات أجنبية، خصوصاً في ظل استفزاز المشاعر الخاصة، ودفعها باتجاه عدواني ضد الآخر، الأمر الذي قد يصل إلى ما لا يُحمد عقباه!!

ولتعزيز قيم المساواة والمواطنة وتطويق الطائفية سياسياً واجتماعياً بعد تحريمها قانونياً، ينبغي حظر العمل والنشاط السياسي، وتحت أية واجهات حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو نقابية أو ما شابه ذلك، إذا كانت تسعى لنشر الطائفية أو المذهبية (التمييز الطائفي أو المذهبي)، بصورة علنية أو مستترة، خصوصاً بحصر الانتساب إلى ذلك المجتمع أو المنظمة أو الجمعية أو تلك، بفئة معينة، بادعاء تمثيلها أو النطق باسمها أو التعبير عنها.

كما لا بدّ من منع استغلال المناسبات الدينية للترويج للطائفية أو المذهبية، بغية إثارة النعرات والعنعنات بين الطوائف وإضعاف مبادئ الوحدة الوطنية والهوّية الجامعة المانعة، التي أساسها الوطن والإنسان، ويقتضي ذلك أيضاً منع استخدام الطقوس والشعائر والرموز الدينية بما يسيء إلى الطوائف الأخرى، خصوصاً من خلال الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي والألكتروني، الأمر الذي يتطلّب على نحو مُلح إبعاد الجيش والمؤسسات الأمنية ومرافق الدولة العامة عن أية إنحيازات أو تخندقات طائفية بشكل خاص وسياسية بشكل عام، وقد يحتاج الأمر إلى إعادة التجنيد الإلزامي لجميع العراقيين.

وإذا أردنا وضع اليد على الجرح فلا بدّ من حظر استخدام الفتاوى الدينية لأغراض سياسية، لاسيّما انخراط رجال الدين فيها، خصوصاً إذا كانت تتعلق بالشأن العام السياسي، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الجامعات والمراكز المهنية والاجتماعية والدينية والأندية الرياضية والأدبية والثقافية، التي ينبغي أن تكون بعيدة عن أية اصطفافات طائفية أو مذهبية.

إن بناء دولة دستورية عصرية واحترام حقوق المواطنة كاملة، يقتضي وضع حد للطائفية السياسية تمهيداً لتحريمها ومعاقبة القائمين عليها أو الداعين لها أو المتسترين عليها، وهي الطريق الأمثل للوحدة الوطنية والهوية الجامعة- المانعة.

ومثلما بدأنا في المقدمة بالحديث عن الطائفية ودورها في الأزمة الراهنة، فإننا نختتم هذا الموضوع بإعادة نشر اقتراحنا لمشروع قانون تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق الذي سبق وأن عرضناه على العديد من الجهات في العام 2008 . وندرج هنا نص المشروع كملحق لهذه الدراسة.

 

د. عبد الحسين شعبان

أكاديمي ومفكر – نائب رئيس جامعة اللاّعنف

وحقوق الإنسان "أونور"- بيروت

..........................

ملحق: مشروع قانـون تحريم الطائفيــة وتعزيز المواطنة في العراق

د. عبد الحسين شعبان

 

مشروع قانون أعدّهُ الباحث واقترحه على الفاعليات والأنشطة السياسية والحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني للمناقشة وابداء الرأي، وقد تجاوب معه عدد من الحقوقيين والمحامين والأكاديميين والباحثين ونخبة من المثقفين وأبدوا ملاحظات حول المشروع، بهدف تكييفه ليصبح أمر تشريعه يسيراً لاحقاً، علماً بأن الصيغة الاولى للمشروع نشرت ضمن كتاب للباحث بعنوان "جدل الهوّيات في العراق – الدولة والمواطنة" الصادر عن الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009. وقد تم إعداد المشروع لاحقاً وفقاً للقوانين العراقية النافذة، وقد ورد فيه ما يفضي إلى عقوبة الإعدام التي يعارضها الباحث، بل ويدعو إلى إلغائها! الأمر الذي رغب في تثبيته كملاحظة مرافقة لمشروع القانون، الذي يدعو إلى تحريم وتجريم الطائفية وفي الوقت نفسه تعزيز وتوثيق المواطنة.

 

المادة الاولى: تعريف الجرائم الطائفية

الفقرة (1) - كل فعل أو سلوك إجرامي يهدف إلى إثارة حرب أهلية أو اقتتال طائفي، وذلك بتسليح المواطنين أو حملهم على التسلّح أو حثّهم على القتال أو تأجيج الفتنة الطائفية أو استخدام العنف أو زعزعة الأمن الداخلي والوطني أو المساس بالوحدة الوطنية أو تدمير الثروات البشرية والمادية والمشاريع والممتلكات العامة والخاصة.

الفقرة (2)- تعتبر الطائفية جريمة بحق الشعب والوطن، ويعاقب بأشد العقوبات من يرتكبها بالدعوة إليها أو ترويجها أو التستّر عليها أو التهاون في مكافحتها أو إخفاء معلومات عنها، لاسيما اذا ما اقترنت بأفعال وأنشطة من شأنها أن تؤدي إلى اضطراب وفوضى في المجتمع، خصوصاً إذا استخدمت العنف والقوة والتمرّد على السلطات العامة أو أدّت الى حرب أهلية.

 

المادة الثانية: تجريم الطائفية

تعتبر الأعمال الآتية جرائم طائفية:

الفقرة (1)- العمل والنشاط السياسي تحت أية واجهة سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو ما شابه ذلك، لغرض نشر الطائفية أو ممارسة التمييز الطائفي، بصورة علنية أو مستترة، لاسيما إذا حصرت انتساب أعضائها بفئة طائفية محدّدة أو ادّعت تمثيلها أو تأييدها ويحظر ذلك حظراً كاملاً.

الفقرة (2) - استغلال المناسبات الدينية في الترويج للطائفية أو المذهبية بغية إثارة النعرات والكراهية بين الطوائف وإضعاف مبادئ الوحدة الوطنية و الهوّية الوطنية العراقية. ويمنع استخدام الطقوس والشعائر والرموز الدينية لأهداف طائفية أو مذهبية منعاً باتاً.

الفقرة (3) - استخدام وسائل الاعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والألكترونية في الترويج لأي غرض طائفي أو مذهبي، بغض النظر عن الأسباب والمبررات.

الفقرة (4) - التصنيفات والتقسيمات الطائفية والمذهبية في الجيش والقوات المسلحة والشرطة  وقوى الامن الداخلي والمخابرات وجميع دوائر الدولة ومرافقها.

الفقرة (5) - فتاوى رجال الدين التي تتعلق بالشأن العام، لاسيما ذات الطابع السياسي الطائفي، وكذلك خطابات أئمة الجوامع ، ذات الصلة بالحضّ على الطائفية والمذهبية، ويمنع منعاً باتاً اعتلاء المنابر وإلقاء الخطب للترويج والدعاية للتوجهات الطائفية والمذهبية المؤدية إلى إثارة الاضطراب والفوضى في المجتمع  وتهييج المشاعر والعواطف.

الفقرة (6)- استخدام الشعارات الدينية الطائفية والمذهبية في الجامعات والمعاهد العليا وفي المدارس الثانوية والابتدائية، وفي مراحل التعليم كافة. ويحظر تقسيم المناصب التعليمية والتربوية وفقاً لاعتبارات مذهبية وطائفية. ويُعاد النظر بصياغة المناهج التعليمية والتربوية بهدف إبعادها عن أية تصينفات أو توجهّات طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو مناطقية تضرُّ بالوحدة الوطنية وبمعايير العلم والتقدم. ولا يعترف بشهادات المدارس الدينية الاّ إذا كانت برامجها مقبولة ومعتمدة لرقابة حكومية وتوافقت مع البرامج والمناهج التعليمية المعتمدة في الدولة. ويُحظر على المدارس الدينية حصر القبول على أساس طائفي أو مذهبي، وعليها أن تقدّم كشف حساب سنوي من مدقق حسابات معترف به رسمياً وفقاً للأنظمة المالية والمحاسبية المعتمدة في الدولة وتتعرض للمساءلة والملاحقة القضائية إذا أخفت أية معلومات ضرورية.

الفقرة (7)- نشر أو عرض أو تداول أو ترويج أو تشجيع أو التستر على أي عمل فني أو ثقافي أو فكري أو سياسي يهدف الدعاية الطائفية والمذهبية بما يضعف روح المواطنة والتعايش السلمي بين تكوينات المجتمع العراقي بما في ذلك الصحافة والاعلام والكتب والعروض المسرحية والسينمائية والغناء والموسيقى والأناشيد  والفنون التشكيلية وانواع الفنون والآداب الأخرى. ويُمنع ذلك منعاً باتاً.

الفقرة (8)- طبع أو نشر أو استيراد أو بيع أو تداول أية كتب أو مطبوعات أو أفلام أو ألعاب أو وسائل إيضاح للأطفال والناشئة من شأنها تكريس روح الطائفية والمذهبية وكره الآخر وازدراء المذاهب الأخرى. ويُمنع ذلك منعاً باتاً.

 

المادة الثالثة: تعتبر بوجه خاص الافعال الاتية من جرائم امن الدولة

الفقرة (1)-  توزيع أو اقتسام المناصب الحكومية أو غير الحكومية على أساس الانتماء الطائفي والمذهبي.

الفقرة (2)- الترشّح في أية انتخابات برلمانية أو مجالس المحافظات أو الادارة المحلية أو البلدية، استناداً إلى أي معيار طائفي أو مذهبي.

الفقرة (3)-  تقسيم الوظائف القضائية بكل درجاتها وأصنافها وفق لأي اعتبارات طائفية او مذهبية.

الفقرة (4)- ادارة العتبات المقدسة والأوقاف ووفقاً القسمة الطائفية والمذهبية، وبما يضرّ بالوحدة الوطنية.

الفقرة (5) - برامج المدارس الدينية على أساس طائفي، وكذلك القبول على أساس طائفي أو مذهبي في كافة المراحل الدراسية .

الفقرة (6) - برامج الانتساب إلى الأندية الرياضية والمنتديات الشبابية والجمعيات الاجتماعية والتعاونية والأدبية والخيرية ومنظمات المجتمع المدني كافة، إذا اعتمدت على أية اعتبارات دينية أو طائفية أو مذهبية.

الفقرة (7) - ادارة المستشفيات أو المستوصفات أو الرعاية الصحية أو دور العجزة أو الصيدليات أو المختبرات وجميع الطواقم الطبية والصحية وفقاً لأي اعتبار ديني أو طائفي أو مذهبي .

 

المادة الرابعة: العقوبات

الفقرة (1)-  يعاقب بالاعدام كل من ارتكب – بصفته فاعلاً أصلياً أو شريكاً أياً من الأفعال الجرمية والطائفية الواردة بالمادتين الثانية والثالثة من هذا القانون، ويعاقب المحرّض والمخطّط والمموّل، وكل من مكّن المرتكبين من القيام بالجرائم الواردة في هذا القانون بعقوبة الفاعل الأصلي .

الفقرة (2)- يعاقب بالسجن المؤبد من أخفى عن عمد أي ارتكاب جرمي أو تستر على المرتكبين أو قام بتضليل العدالة .

 

المادة الخامسة: الظروف القضائية المخففة

الفقرة (1) - يعفى من العقوبات الواردة في هذا القانون كلّ من قام بإخبار

السلطات المختصة قبل اكتشاف الجريمة أو عند التخطيط لها ، أو ساهم اخباره في القبض على الجناة أو حال دون تنفيذ الفعل .

الفقرة (2)-  يعدّ عذراً مخففاً من العقوبة في الجرائم المنصوص عليها، في المادتين الثانية والثالثة من هذا القانون لكل من قدّم معلومات بصورة طوعية للسلطات المختصة بعد وقوع أو اكتشاف الجريمة من قبل السلطات وقبل القبض عليه، وأدّت معلوماته إلى التمكّن من القبض على المرتكبين الاخرين وتكون العقوبة السجن، وفقاً لقانون العقوبات البغدادي.

 

المادة السادسة: الاحكام الختامية

الفقرة (1) - تعدّ الجرائم في هذا القانون من الجرائم العادية المخلّة بالشرف .

الفقرة (2)-  تصادر جميع الاموال والمواد المضبوطة والمبرزات الجرمية او المهيئة لتنفيذ العمل الاجرامي .

الفقرة (3) - تطبّق أحكام قانون العقوبات النافذ بكل ما يرد به نص في هذا القانون .

الفقرة (4) - ينفّذ هذا القانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية .

الفقرة (5) - للسلطات ذات الصلاحية حق إصدار قرارات وأنظمة وتعليمات لتسهيل تنفيذ أحكام هذا القانون، وتُلغى جميع القرارات، والقوانين واللوائح التي تتعارض مع نصوصه.

 

الأسباب الموجبة

لمّا كانت المحاصصات والتقسيمات الطائفية قد أسهمت في تفتيت المجتمع العراقي وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية باعتمادها قاعدة المحاصصة، ونظراً لجسامة الأضرار وفداحة الخسائر الناجمة عن الجرائم الطائفية التي أصبحت تهدّد الوحدة الوطنية واستقرار النظام والأمن العام، وبهدف تعزيز الوحدة الوطنية وتعميق  الهوّية العراقية الجامعة على أساس مبادئ الدولة الديمقراطية العصرية القائمة على المساواة واحترام حقوق الإنسان وحقوق المواطنة وواجباتها الكاملة،  لذا بات من الضروري إصدار تشريع من شأنه الحدّ من هذه الظاهرة تمهيداً للقضاء عليها وذلك بتحريمها وتعزيز المواطنة.

ولهذه الأسباب شرّع هذا القانون.

 

د. عبد الحسين شعبان

* مفكّر وأكاديمي عراقي- له العديد من المؤلفات في الفكر والقانون والسياسة والأديان، إضافة إلى المجتمع المدني وحقوق الإنسان والثقافة والأدب. مستشار في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية. نائب رئيس جامعة اللّاعنف وحقوق الانسان/ بيروت.

نشرت في International journal of Contemporary Iraqi Studies, Vol. 10, No. 1 & 2, 2016 .

 

في المثقف اليوم