دراسات وبحوث

واحدة أم مثنى وثلاث ورباع؟

mohamadtaqi jonيبقى القرآن بلا تفسير أكثر حرية وإنصافاً، كأني أراه وهو ضمن تفسير مسجوناً بالآراء والأهواء، وحين أراه بلا تفسير أراه طليقاً يتنفس الراحة والحقيقة.

 لقد ساد القول بإباحة زواج الرجل من امرأتين وثلاث وأربع في الإسلام باعتيادية تامة، حتى صار الإسلام (دين تعدد الزوجات). وصار كل رجل تسمح له ظروفه يتزوج على زوجته، فإذا اعترض عليه أحد قال: الله يدعو إلى ذلك، ويقرأ قوله (تعالى): (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ْ(النساء: 3)). وقد سمح ذلك للطبيعة الشهوانية بالاستفحال والظهور، وكاد يصبح الزواج المتعدد هو القاعدة على الرغم من رفضه من قبل واقع الاسرة، وطبيعة المرأة.

إنَّ عدم الشرح الدقيق لآية التعدد هو وراء سيادة هذا المفهوم عن الإسلام، وتنشيط شهوانية الرجل، والقلق النسائي الدائم، وتشتت العوائل. وان قراءة الآية أو فكرتها تامة سيظهر مقدار الغبن، وسوء الفهم، والتمادي في الخطأ. وطبعاً فكرتها تتم مع الآية السابقة عليها. والآيتان هما:

(وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا* وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (النساء: 2- 3)).

ويتضح بالقراءة العميقة الآتي:

1- الآيتان تتكلمان عن حقوق اليتامى وحفظها بالشكل الأمثل. فالأولى تحذر من أكل حقوقهم وتدعو إلى إعطائها وافية لهم مقابل الأجر لقول الرسول (ص) (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين = إصبعيه). وتأتي آية التعدد لتقترح طريقة أضمن لحفظ تلك الحقوق لليتامى، (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى) أي خفتم ألا تعدلوا في منح حقوقهم  (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء (الأرامل) لتكون صلة قوية بهم ويتحقق إشراف مباشر من الكافل لليتامى. وليس صحيحاً ما ذهب إليه بعض المفسرين بأن آية التعدد خرجت من موضوع اليتامى الخاص إلى العموم فسمحت بالزواج المتعدد، لأن الكلام متعلق باليتامى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ).

2- سمحت الآية بالزواج إلى حد أربع أرامل، ولولا ضعف الطبيعة الإنسانية عن العدالة لكان الرقم مفتوحاً، لأنَّ هذا الزواج ليس المطلوب منه المتعة بل الأجر.

3- إذا خاف الكافل ألا بعدل بين (زوجته الأصلية) وبين الأرامل إذا صرن اثنتين وثلاثاً وأربعاً، فيكتفي بواحدة تصير نظيرة لزوجته. وإذا لم يعدل بينهما لأي سبب كان فلا يتزوج حتى واحدة. وقد أوضح جل جلاله عدم قدرة الرجال على العدل حتى بين اثنتين في قوله (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ (النساء: 129)). ويذكر صاحب تفسير الجلالين أن المسلمين كانوا يتزوجون العشر أو الثمان من الأزواج (الأرامل) ولا يعدلون بينهن، فلما نزلت هذه الآية تحرّجوا من ولاية اليتامى واقتصروا على أربع.

 نخرج من ذلك بأن الزواج المثالي (القياسي) الذي يطرحه الله (تعالى) في القرآن والذي يمثل رأي الإسلام هو الزواج من امرأة واحدة فقط. وهذا الزواج هو المبني على المودة ويؤسس لمبدأ الحب والخير، وعليه يبنى كل مظاهر وظواهر الحب والخير التي تتجلى بصناعة مجتمع متماسك ومدينة فاضلة بكل التفاصيل، وهو معني قوله (تعالى): (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً (الروم: 21)).

 ويؤكد القرآن بما لا يقبل الشك الزوجة الواحدة في الآية (4) من سورة الأحزاب، فذكر أن ثلاثة أمور (لم يجعلها) أي لم يقرها هي: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ) (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ). ومعنى الآية أن الله لم يجعل بمقدور الرجل أن يحب ويقدم زواجاً صحيحا إلا مع امرأة واحدة، وهو الزواج المثالي في الإسلام لذا يقول الله في تمام الآية (ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).

 وواقعاً، لا يمكن للمرأة التي يتزوج عليها زوجها أن تحبه إلا ظاهراً قسرياً، أو تكون مغلوبة على أمرها، وفي دواخلها  تبغضه وتنقم عليه، وإذا امتلكت الجرأة وساعدتها الظروف في يوم ستعلن ذلك البغض المقدس. ولا يمكن لزوجها وقد اختار امرأة جديدة أن يحبها، فسيحول وده إلى الجديدة. وهذا الزواج الجديد سيشطر العائلة إلى شطرين مهما حاول الرجل حالماً أن يوحدها. والاولاد من أم واحدة وآباء مختلفين أقوى أخوَّة من الأولاد من أب واحد وأمهات مختلفات، والعرب تسميهم (أخوة علات) بمعنى ليسوا أخوة خالصين.

إذن الزواج يجب أن يكون في الظروف الطبيعية من امرأة واحدة فقط وهو (الزواج القاعدي) الذي يدعو اليه الله. أما الزواج من أكثر فهو استثنائي، إما بالزواج من الأرامل لكفالة الأيتام، أو اضطراري بسبب عدم إنجاب الزوجة أم لمرض يمنع التواصل، أو لسبب قاهر. وقد ارتضاه الله كرهاً للطلاق، فيتزوج الرجل زواجاً ثانياً ويبقي الأولى إذا أرادت البقاء.

وعليه يجب على الرجل أن يجيد اختيار الزوجة ليعيش معها العمر كله بلا أدنى رغبة في استبدالها أو إضافة أخرى عليها، وهذا الزواج يكون وعداً بالحب الدائم، وحبذا لو ذكر ذلك بصيغة عقد الزواج فما يذكرونه في عقود الزواج اشبه بعقود البيع (هل تقبلين الزواج من فلان بمهر قدره....) وليس في العقد طلب بالحب والحفاظ على الحياة الزوجية والتفاني من اجلها. بينما يوجد هذا في عقد الزواج المسيحي.

فإذا قال لك أحدهم: إن الله يقول (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ)، فقال له: إنَّ الله يقول: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).  

 

أ.د محمد تقي جون

 

 

في المثقف اليوم