دراسات وبحوث

الفكرة الحضارية اللاهوتية عند أنور الجندي (1): نقد الغرب والتغريب

mutham aljanabiترتبط الفكرة الحضارية عند أنور الجندي بمنهجيته العامة بوصفها رؤية لاهوتية دينية، اتخذت في موقفه من إشكاليات الحضارة والبديل الاسلامي هيئة الترتيب والتنسيق المعقول بين كفتي نقد التغريب واسلمة التعريب. بمعنى أنها اتخذت الصيغة المنهجية لنقد مظاهر ومحددات التأثير الحضاري الغربي، ومن ثم تأسيس البديل الاسلامي في مجال الرؤية الثقافية ووعي الذات العربي. 

ينطلق أنور الجدي من أن المشكلة الجوهرية بالنسبة للوعي الاسلامي الثقافي والحضاري بشكل عام يقوم في كيفية تذليل التغريب. والمقصود بالتغريب عنده هو "حمل المسلمين على قبول ذهنية الغرب" مع ما يترتب عليه من "تدمير الشخصية المسلمة" عبر وضع المسلم أمام إشكالية الاختيار الحادة "بين الإسلام والعلمانية". وهذا بدوره محكوم بفكرة مبطنة قوامها أن "الإسلام لا يستطيع حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية" .

إن الهدف الأكبر والعام للتغريب، حسب تصور أنور الجندي، يقوم فيما اسماه "بهزيمة العقل الاسلامي بإذاعة الإلحاد والتعطيل"، و"تقويض المجتمع بنشر الإباحية والفساد" ، عبر التأسيس لفكرة "عبادة الحياة، إسقاط الأسرة" . وقد جرت وتجري محاولاته المتنوعة والمختلفة المستويات من اجل بلوغ هذه الأهداف من خلال القضاء على الوحدة الإسلامية والخلافة بإثارة النعرات القومية والعصبية، ونشر التعليم الغربي ونظامه الربوي عبر إسقاط الشريعة، وإنكار دور المسلمين الحضاري وهدم اللغة العربية، والقول بنظرية وحدة الحضارة العالمية، وإعادة كتابة التاريخ الاسلامي عبر الدفاع عن"الحركات الهدامة" من صوفية وباطنية وقرامطة، وفرض التجربة الليبرالية والماركسية، والتطبيل لنظرية دارون باعتبارها مقدمة ومدخل إلى الإلحاد، وكذلك نظرية فرويد عن الإنسان بوصفه حيوانا تحكمه الغرائز، وإنشاء دوائر معارف عن الإسلام مبنية على مناهج خاطئة . فهي الصيغة المكثفة للقضايا التي وضعها وتناولها بالنقد في مؤلفاته العديدة.

وترتبط هذه الحصيلة المتراكمة في الوعي الغربي (الأوربي) الذي يجري إدخاله في الوعي الاسلامي عبر ما اسماه أنور الجندي بروافد السموم الكبرى وهي كل من  الاستعمار والصهيونية والماركسية. وان لهذه الروافد جذورها في كل من المسيحية والكنيسة واليونان، أي يفي تراثها التاريخي الخاص، وكذلك بأثر هيمنة بفكرة الاستعلاء بالجنس واللون، إضافة إلى السيطرة الاقتصادية والاستعماري. إذ جرى توظيف كل ذلك من اجل احتواء العالم الاسلامي عبر مفاهيم اقتصادية وسياسية وتربوية . وقد كان للغرب بهذا الصدد أدواته التي يجملها أنور الجندي في كل من الفنون والعلوم (الاستشراق بشكل خاص) والايدولوجيا (مختلف المفاهيم والأفكار). وسعى لبلوغ مأربه بوسائل مباشر أو ظاهرية (الاستعمار المباشر) وأخرى غير مباشرة أو باطنية (تربية الشخصيات وأنماط الفكر).

فقد سعى عبر المسرح والسينما، على سبيل المثال، إلى اتهام العرب والمسلمين بالخلو من المسرح. كما سعوا إلى إحياء مختلف المظاهر البدائية من اجل تشويه الوعي الاجتماعي والتاريخي والثقافي وإضعاف اللغة العربية وإزالتها، كما هو جلي عبر ما اسماه الجندي بإحياء التراث الجاهلي والوثني والفولكلور.

بينما شكل الاستشراق الجزء المهم والأكبر في منظومة ومنهج التغريب، عبر محاولة "تغريب الإسلام وإخراجه من طبيعته الخاصة وجوهره الذاتي". وجرى استكمال كل ذلك بالصيغة الأكثر فاعلية في نشر التغريب وترسيخ جذره في الوعي، ألا وهو مناهج "التعليم والثقافة والتربية" التي أدت إلى "انحسار القران والسنة عن التعليم". وذلك لان "التعليم بالطريقة الغربية هو الخنجر المسموم للغرب" في جسد الأمة العربية والإسلامية . بحيث نراه يتوصل في بعض أحكامه بهذا الصدد إلى أن يجعل من الاستشراق إلى وسيلة تنفيذ مهمة "مسخ الشخصية الإسلامية" عبر ما يسمى بصنع الشخصية العالمية

 وقد وجد أنور الجندي في هذه "السموم" وأدواتها أساليب متنوعة ترمي إلى غاية واحدة، ألا وهي جعل التغريب منظومة متغلغلة ف يكل مسام الوجود العربي ومن ثم القضاء على هويته وذاته الإسلامية. فإذا كان للسينما والمسرح مقدماتهما الخاصة في الثقافة الغربية فانه لا معنى لهما عند المسلمين. فالمعروف عن المسلمين، كما يقول أنور الجندي، هو "طبيعتهم المعروفة بالوضوح والصراحة ومن ثم فهم ليسوا بحاجة إلى مسرح". وينطبق هذا على السينما. فهي أسلوب للترفيه والتسلية والإباحة والجنس والعنف. أما الغاية من وراء نشر التراث الشعبي (الفولكلور) فهو مجرد "سموم وغثيان وسذاجة" لبلوغ الأهداف الاستعمارية . وليس مصادفة أن يتشدد في نقده لدعوات إحياء التراث الشعبي (الفولكلور) بحيث نراه يعتبرها "من اخطر دعوات التغريب في مصر" . وذلك لانها ترمي إلى تغليب العامية والأساطير والأغاني الساذجة على الأدب البليغ والفن الرفيع والفكرة الإنسانية . أما محاولة تبرير ذلك بأنه أسلوب لمخاطبة الطبقات الشعبي، فوجد فيها مغالطة يراد بها الهبوط... إضافة إلى أنها "لا تمثل حقيقة ذوق الأمة ولا مزاجها" . بعبارة أخرى، أنها دعوة تسعى إلى وضع ما اسماه أنور الجندي "باللون المحدود من الأدب بالضد من الاسلامي" عبر تصويره على انه محافظ ورجعي وبعيد عن التقدم . ولعل محاولاتهم تقديم كتاب ألف ليلة وليلة، على انه يمثل حياة المجتمع المسلم هو مجرد خدعة لا قيمة لها، وذلك لان هذا الكتاب في اغلبه هو تلفيق وأكاذيب . بل أن الكتاب العرب فيما مضى اعتبروه كتابا غثا وباردا كما هو جلي عند المسعودي وابن النديم.

إن الغاية الفعلية من وراء الدعوة للعامية التي سعى إليها بعض الكتاب مثل لطفي السيد وقاسم أمين وسلامة موسى ولويس عوض وأمثالهم، فأنها كانت تهدف إلى إقصاء اللغة الفصحى والبلاغة والبيان العربي عن الأسلوب العام وصنع أسلوب عامي ساذج . مع ما يترتب عليه من إحياء العصبيات الجاهلية من فرعونية وفينيقية وبابلية ووضعها بالضد من الشخصية الإسلامية الجامعة بملامحها وأخلاقها . 

أما الاستشراق فقد جسد كل أساليب ونماذج التغريب فيما يتعلق بالتاريخ العربي والإسلامي. فهو نموذج لاستخدام العلم في خدمة السياسة، وان مادته في الأغلب نافعة لتغذية حركة التبشير، ومن ثم ليس مجرداً عن الهوى. كما انه من حيث وظيفته لم يكن موجها صوب العلم، وإلا لماذا يركز على الجوانب الضعيفة والروايات المدخلة والشبهات ويركز على الفلسفة والباطنية؟ . ووجد في ذلك أمرا ليس معزولا عن التقاليد الأوربية وتراثها الثقافي، الذي "هو مجموعة أساطير وخرافات". من هنا تشويههم، بأثر انزعاجهم من "هذا الكم الكبير والعظيم من العطاء العلمي والروحي والثقافي للإسلام" . من هنا دعواتهم وسعيهم للبحث فيما قبل الإسلام وإثارة الدعوة الفرعونية والفينيقية والبابلية وما إلى ذلك، وكذلك الحديث عن ثقافة مصرية وسورية وعراقية وسودانية. أو أن يجري الاهتمام المفرط" بما هو مخرب" كما هو الحال على سبيل المثال عند ماسنيون في عمله طوال حياته من اجل الحلاج. بينما يبث الآخر "سمومه" عن وحدة الوجود والحلول، وتشويه علاقة القرآن بالشعر الجاهلي، والخلط بين مفهوم التدوين والسنة، والعرف والشريعة وما إلى ذلك. وكذلك بالتركيز على شخصيات مثل ابن عربي وابن سبعين والسهروردي والحلاج وحركات الباطنية والإسماعيلية والقرامطة وإخوان الصفا .

إن هذه المواقف النقدية التي تلامس الحقيقة المجردة في الكثير من جوانبها، تتيه بين أدغال الرؤية اللاهوتية التي تنظر إلى الأحداث التاريخية بمعايير "الخير الإلهي" و"الشر الإنساني" بعد مطابقة ذلك على التوالي مع النفس والآخرين. ويصبح التاريخ وانجازاته الحضارية جزء من توليف المؤامرات والمغامرات. بعبارة أخرى، تصبح الرؤية الثقافية وانجازاتهم العلمية عند الغير كما لو أنها شرا خالصا حالما يجري تطبيقها على التراث والتاريخ الاسلامي. بينما يتحول الإبداع الاسلامي إلى فضيلة مطلقة بما في ذلك في الموقف من الآخرين. وهي نظرية تدعو إلى أصالة العلاج (عند النفس) بالضد من أصالة السموم (عند الآخرين). وهذا بدوره نتاج الرؤية الدينية اللاهوتية التي تجعل من العقائد الدينية الخاصة يقينا مطلقا وفضيلة مثلى، وما عداها أو غيرها ضلال وزيغ وسموم. من هنا يمكن فهم الصيغة التي نعثر عليها في مواقف أنور الجندي من التراث العربي الاسلامي نفسه. بمعنى تصنيفه وتقسيمه وتقييمه على أسس مذهبية ضيقة، تجعل من "الفرقة الناجية" مصدر الحق والأمان، وما عداها تخريب وتخريف. ومفارقة الظاهرة هي أن الواقع التاريخي يمثل ويتمثل العكس تماما. فقد حول أنور الجندي الكثير من الإبداع الثقافي العربي "العالمي" مثل ألف ليلة وليلة، وإبداع عظماء الفكر الصوفي كابن عربي وابن سبعين والحلاج، والحركات الاجتماعية والسياسية والفلسفية الإنسانية الكبرى كالإسماعيلية وإخوان الصفا والقرامطة وأمثالهم إلى قوى "مخربة"!

بعبارة أخرى، إننا نعثر عنده على خلط مشوه بين وقائع التاريخ وحقائق الإبداع وتاريخية الفكر وانجازات العلوم والعقائد الدينية الخشنة. لكنها محكومة في اغلبها بمنهج محدد من مناهج الرؤية الإسلامية اللاهوتية السلفية. ويبرز ذلك بوضوح في مواقفه من تحليل ونقد الأفكار والمفاهيم، كما هو الحال في موقفه من فكرة التغريب نفسها، والفلسفة والتصوف والمعتزلة، ومن مفاهيم الثورة الفرنسية وغزوة  نابليون، ومفاهيم الجهاد والتسامح والحرية، والأفكار المتعلقة بقضايا العقل العربي والعروبة والإسلام، ومفاهيم المعرفة والعقائد،والحضارة والثقافة وغيرها من القضايا الكبرى والجزئية.

إذ نراه ينظر إلى التغريب هنا باعتباره "قوة ضخمة تقف الصهيونية وراءها" . ليتعداها ذلك إلى البحث في نكبة عام 1948 ونكسة 1967 بوصفهما  ثمرات مخطط لها منذ البدء في مناهج التغريب . بحيث نراه يعثر في الترغيب ككل على نتاج "لمؤامرة يهودية". رغم أن التغريب بوصفها ثقافة الغرب (الأوربي) لا علاقة له باليهود واليهودية. وأنهما كلاهما كان يشكلان حالة طارئة وسيئة ولا قيمة لها بل ومحتقرة سواء بمعايير الدين أو الفكر أو الثقافة أو العرق. غير أن الوقائع التاريخية لا تعني بالنسبة للذهنية السلفية الدينية شيئا. على العكس أنها تشكل مصدر كل شيء، بما في ذلك يقين الأوهام والخرافات. من هنا نراه يدفع بهذه "المؤامرة اليهودية" إلى أقصى مدى ممكن لها في الموقف من الثقافة الإسلامية بحيث نراه يستند إلى حديث موضوع (كاذب) يقول "احذروا الأهواء المضلة، وشرها الرافضة، فأنهم يهود هذه الأمة.... يقول الرافضة لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وكذلك قالت اليهود من قبل" . ووجد أدلته في دور أبي لؤلؤة الفارسي ومقتل عمر باعتبارها "مؤامرة يهودية مجوسية"، وفي عبد الله بن سبا وفكرة الحق الإلهي في الدولة وأبطال الشورى، وفي فكرة وممارسة التأويل في النصوص والقول بالظاهر والباطن، وفي صناعة البدع، وفي إذاعة الأساطير الإسرائيلية، وفي فلسفة الإشراق والاتحاد والحلول. وأخيرا في الإسرائيليات الجديدة لفرويد وقوله عن تطور الأخلاق، ومذهب دوركيم وفكره عن المسؤولية الجماعية ، والماركسية في فلسفة التفسير الاقتصادي للتاريخ . 

وفيما لو تركنا الحقيقة القائلة، بان السلفية السنية أكثر من لفق الأحاديث الكاذبة عن النبي محمد ثم رفعها إلى مصاف "السنة النبوية"، فان كلمة الرفض نفسها الملصوقة بالتشيع هي نقيض لما في هذا الاتهام. كما أن تاريخ التشيع بشكل عام هو تاريخ الدعوة للقتال والجهاد ضد السلطات الغاشمة. وهم من حمل فكرة المعارضة بمختلف أشكالها ومستوياتها على امتداد التاريخ الاسلامي وحتى الوقت المعاصر. وبينهم ظهرت أقوى وأكثر الشخصيات المبدعة بمعايير الروح الإنساني والنقدي الحر والتفكير الفلسفي والوجدان السياسي. فهو يتذكر أبو لؤلوة الفارسي وينسى سلمان الفارسي وقول النبي فيه "سلمان منا آل البيت". ولا علاقة للصورة المصنعة بمخيال التسنن السلطوي لشخصية وأفكار عبد الله بن سبأ. فحتى في حال افتراض قولهن بان عليا لم يمت، فقد قال قبله عمر بن الخطاب بان محمدا لم يمت وهدد بقتل من يقول بذلك! ثم لا علاقة بما ينسب له بإبطال الشورى، إذ لا وجود لها. فالشورى لم توجد بالأساس والفعل، سواء بهيئة منظومة أو حتى قواعد محددة. وفي شكلها التاريخي الجزئي والوحيد عند عمر بن الخطاب قبيل مماته، كانت اقرب منها إلى رغبة سياسية شخصية من أن تكون موقفا فكريا أو عقائديا.  أما التأويل والقول بالظاهر والباطن فأنها أجزاء وسائل في مناهج التيارات العقلية والعقلانية بشكل عام والمعتزلة بشكل خاص، التي طورها الفلاسفة ثم المتصوفة إلى أقصى مدى ممكن لها آنذاك. والتشيع كان يفعل حينذاك ضمن تقاليد الفلسفة والعرفان (التصوف). أما إدخال الإسرائيليات إلى الإسلام فان أكثر من قام به أوائل من أطلق عليهم لقب "أئمة أهل السنة والجماعة" من ذوي الأصول اليهودية، إضافة إلى الجهلة أو ضعيفي الرؤية النقدية وأصحاب الإيمان الساذج من الصحابة والتابعين. أما "البدعة"، فأنها من الإبداع. وحملتها في الأغلب هم من صنعوا الإرث الإنساني والعقلاني والجميل في ثقافة الإسلام وحضارته. بينما كانت محاربته تجري من قبل أكثر القوى تخلفا بمعايير العقل والإبداع والنزعة الإنسانية. وبالتالي، فان محاربتها فيما مضى والآن هي "بدعة" بمعايير التاريخ والارتقاء الثقافي والإنساني. وينطبق هذا على "الإسرائيليات الجديدة". فهو "تأويل" سياسي وأيديولوجي مسطح لا علاقة له بادراك حقيقة التطور العلمي والثقافي الأوربي الحديث. فالأصول القومية والدينية للمرء تتحكم في بعض جوانب رؤيته وسلوكه، إلا أنها لا تحدد مسار التطور والإبداع الثقافي الكبير. فللأخير تقاليده وسننه الخاصة. وماركس لم يكن يهوديا، بل عبرانيا بمعايير "الدم". بينما هو ألماني في كل شيء. ولا بأس بان تتعلم السلفية السنية الإسلامية من مثال نبيها القائل، بان العربي ليس بالدم بل باللغة. وكل ما في ماركس هو ألماني بمعايير القومية، وأوربي بمعايير الثقافة، وإنساني بمعايير النزعة النقدية الحرة. 

نقد التقليد الفكري للغرب

أما في موقفه من الفلسفة نراه يدعو إلى التفريق بينها وبين العلم. فالفلسفة بالنسبة له ليس علما. من هنا تقييمه موقف الغزالي النقدي من الفلسفة في كتبه المشهورة على انه "حين هاجم الفلسفة الإلهية الوثنية"، فانه كرّم في الوقت نفسه الفلسفة العلمية في مجال الرياضيات والطبيعيات. وبالتالي، فان "الفلسفات الأوربية الحديثة من ماركسية ووجودية ونفعية ليست علوما" وذلك لانها "قائمة على النظرة الخاصة المحدودة بحدود الزمن والبيئة". بينما نراه يعتبر التصوف "بدعة" حسنة. فإذا كان من حيث أصله زهدا فعلا مقبولا وحسنا لحد ما، فان اتصاله بالفلسفة اليونانية ومفاهيم التصوف الهندي والوثنية الفارسية والهيلينية، أدى به إلى "اضطراب كبير". الأمر الذي جعله يعتبر "النوع الفلسفي للتصوف ليس إسلاميا". أما المعتزلة، التي حاول ويحاول التغريب جعلهم ذروة العقلانية الإسلامية والممثلين الفعليين لحقيقة الإسلام العقلية،  فانه استنتاج يتناقض مع الواقع وحقيقة الإسلام. وبالتالي، فان "هزيمتهم" التاريخية لم تكن هزيمة للعقل والثقافة الإسلامية، بل على العكس، أنها أدت إلى هيمنة "الاعتدال الاسلامي" و"الوسطية". وعلى الرغم من أن أنور الجندي يبرز ما اسماه بالدور الايجابي الذي لعبه المعتزلة "في الدفاع عن عقائد الإسلام"، إلا أنهم "غالوا لاحقا بالعقل". ومن ثم فان "سبب هزيمتهم يكمن في غلوّهم العقلي" لما فيه من "تناقض مع اعتدال الفكرة الإسلامية".

إننا نقف هنا أمام صيغة نموذجية للاستقامة اللاهوتية العقلية في تناول أهم التيارات النظرية الكبرى في تاريخ الثقافة الإسلامية (الكلام والفلسفة والتصوف)، بل لا غيرها من حيث الجوهر، عبر إخراجها من حيز الثقافة الإسلامية "المعتدلة والوسطية"، بل واعتبارها مجرد غلوا (الكلام المعتزلي) وبدعة (التصوف) ولا علما (الفلسفة). إضافة إلى ما فيها من جهل بحقيقة الفكرة الفلسفية في الكلام المعتزلي والتصوف والفلسفة. وتكمن جذور هذه الرؤية في العداء التاريخي والثقافي والمنهجي للفلسفة بوصفها عما نظريا عقليا خالصا. على عكس كل تأملات العقل اللاهوتي، الذي يبقى حتى في اشد حالاته الاجتهادية إخلاصا "للعقل" خاضعا في أعمق أعماقه للنصوص "المقدسة" والإيمان.

والشيء نفسه نعثر عليه في مواقفه من الثورة الفرنسية و"حملة نابليون". بمعنى الخلط بين الغث والسمين، بين الرؤية النقدية السليمة وتوظيفها اللاهوتي. فقد كانت آراءه النقدية بهذا الصدد عميقة ودقيقة وسليمة مثل قوله، بان الثورة الفرنسية هي "حركة غربية مرتبطة بالمجتمع الأوربي لها وبواعثها الخاصة"، وأنها "رد فعل قوي على واقع سيئ. بل نراه يجد فيها من حيث أفكارها العامة نتاجا للفكر الاسلامي! بمعنى أنها تمثلت مفاهيم الإسلام الكبرى عن الحرية والعدل والإخاء والمساواة وما شابه ذلك. أما الحملة الفرنسية، التي يجري الترويج لها على أنها من وضعت مقدمات "اليقظة العربية"، فانه وجد فيه مفهوما خاطئا، ودعوى باطلة. إذ اعتقد، بان اليقظة العربية هي نتاج الحركة الوهابية الأولى بقيادة محمد بن عبد الوهاب. ونظر إلى هذه القضية من منطلق منهجي سليم يقول، بان "الأمم لا تتجدد من خارجها، وإنما من مصادر فكرها ومن أعماق روحها". أما شعارات الحرية والإخاء والمساواة، فأنها جميعا "مستمدة أساسا من الإسلام".

وطبق نفس هذا الموقف الأخير من مفاهيم الجهاد والتسامح والحرية، بمعنى انه حاول تدقيقها بمعايير الفكرة الإسلامية أو عبر إرجاع مضامينها إلى الفكرة الإسلامية الأولى. ومن ثم تحريرها من التأثير الغربي، باعتبارها نتاجا له ولثقافته. فالجهاد هو ليس ما يقدمه الغرب قي تعليقاته وفهمه بوصفه حربا وقتالا لاعقلانيا ومتعصبا ودينيا، بل هو فريضة إسلامية تعني حماية الفكرة والأمة من عدوان المعتدي والاستعداد المتصل بحماية النفس. أما الصيغة الأخرى التي حاول الاستعمار عبر دعايته تحويل فكرة الجهاد إلى جهاد قلبي (كما حاول الانجليز في الهند)، فانه كان يهدف إلى قتل الروح الجهادية من اجل الحق والاستقلال. أما قضية التسامح التي يعتبرها الغرب من صفاته ونتائج رؤيته وثقافته، فان أنور الجندي يعتقد بأنه ليس هناك فكرا في التاريخ الإنساني عرف معنى التسامح كما عرفه الفكر الاسلامي وخاصة في مجال العقائد المختلفة. وهو أمر جلي فيما بلغ فيه أرباب الديانات الأخرى من مكانة في الحضارة الإسلامية. وينطبق هذا على فكرة الحرية، التي يحاول الغرب مطابقتها مع نفسه، بينما هي ليست كلك. فالأمة التي تستعبد الآخرين ليست حرة. وليس هناك من شعوب استعبدت الآخرين في العصر الحديث أكثر من الغربيين. بينما كان الإسلام هو حامل فكرة الحرية وحقيقتها حسب معاييره وتصوراته. فالحرية حسب الإسلام هي القدرة على عمل كل شيء لا يضر بالغير، بما فيها الدفاع عن النفس أمام القضاء، والتفكير والحكم على الأشياء، والتعليم، والاعتقاد والقول، والتملك. أما الحرية السياسية، فأنها في الإسلام "قائمة على الشورى". وكل ذلك نابع من أن اصل فكرة ومبدأ الحرية في الإسلام هو أن الناس تولد أحراراً، وانه لا فضل لعربي على أعجمي أو ابيض على اسود إلا بالعمل النافع. وتاريخ الإسلام يكشف عن أن حرية الفكر في الإسلام كانت مضمونة ومكفولة ومدعومة. وانه لم يرهب الفكر ولم يضيق على الحرية. على العكس لقد جرى دعم العلوم واكتشافاتها. أما العقوبات التي نسمع عنها في التاريخ الاسلامي بهذا الصدد فقد كانت في اغلبها لأسباب ودواعي سياسية.

وضمن هذا السياق حاول إبراز خصوصية "العقل العربي" المنهجية والثقافية بمعايير اللاهوتية الإسلامية التأملية، التي وجدت فيه نموذجا "للتكامل والوسطية، الذي يجمع بين الدين والدنيا، والعقل والقلب والعلم والدين والروح والمادة". فهو "العقل الذي استطاع توحيد الأضداد في انسجام: المسجد والقصر، كما جمع بين العقل والطبيعة وبين الحكمة والشريعة". فالعقل" أساس ضخم لكنه وحده عاجز عن أن يصل إلى كل الصواب والمعرفة". أما العقل الاسلامي فهو" نور في القلب يعرف الحق من الباطل والخير من الشر". 

ووضع هذا الموقف أيضا في أساس رؤيته لعلاقة المعرفة بالعقيدة. إذ اعتبر  محاولات إحلال كلمة المعرفة عوضا عن العقيدة يؤدي إلى نتائج خطرة. فالعقائد تتصل بالأمة، وذلك لان العقائد تتشكل وتتراكم من خلال التراث والقيم والتاريخ والدين. وبما أن "الأمم الشرقية" ذات تراث الروحي يستمد مفاهيمه من آراء بوذا وكونفوشيوس والبرهمية وغيرها، من هنا إعلاءها لشأن الوجدان والقلب والبصيرة. بينما "الأمم الغربية" بتراثها اليوناني والروماني والنصراني، فأنها تتمثل عبادة القوة والجسد والعقل. أما الأمة الإسلامية ومنها العرب، فأنهم ذوي تراث توحيدي قائم على منهج تكامل العقل والبصيرة، والروح والمادة، والدنيا والآخرة، والعلم والدين. من هنا عدم صلاحية تطبيق الأحكام المتراكمة في الوعي الغربي عليهم. لهذا نراه يقول، بان مفهوم التطور والثبات السائد في اللغات الغربية لا يصلح لعالم الإسلام. وذلك، لان هذا المفهوم يستمد وجوده  في الفكر الاسلامي من قانون الاعتدال والتوازن.

وطبق موقفه النقدي هذا على علاقة العروبة والإسلام. فقد انطلق من فكرة مفادها، أن الإسلام والأمة العربية مترابطان. فقد حملت الأمة العربية لواء الإسلام إلى العالم كله. وارتبطت بها قيادة الدولة الإسلامية قرونا طويلة حتى سقوط بغداد عام 656  لهجرة. وأن الإسلام هو الدين القومي للأمة العربية  . بل ونراه يتوصل إلى استنتاج يقول، بان حركات النهضة العربية الحديثة كانت إسلامية من حيث جذورها. بمعنى أنها ظهرت من قلب الأمة مثل الوهابية والسنوية والمهدية وحركات الإصلاح عند الأفغاني ومحمد عبده والمدرسة السلفية في المغرب . لهذا نراه يجد في محاولات فصلهما أو إبعاد احدهما عن الآخر مجرد فكرة تغريبية. وذلك لان العلاقة بين الإسلام والعروبة حسب نظره هي علاقة عميقة الجذور. بل أن مقومات القومية العربية وثيقة الارتباط بالإسلام من حيث اللغة والتاريخ والتراث. الأمر الذي جعله يتوصل إلى أن مفهوم الوحدة العربية بحد ذاته هو إسلامي الجذور. وكما أن القوميات الأوربية لا تفصل نفسها عن النصرانية، كذلك لا معنى لفصل العرب عن الإسلام، لاسيما وان العلاقة بينهما أكثر جذرية وجوهرية. وعندما تناول قضية تحديد ماهية الحضارة الإسلامية، فانه شدد على أن الحضارة الإسلامية هي عربية وليست سامية". لان العرب ما قبل الإسلام في المشرق كانوا قبل أكثر من ألفي سنة" . وضمن هذا السياق أيضا نظر إلى فكرة الوحدة العربية على أنها ليست هدفا نهائيا، بل مرحلة نحو الوحدة الإسلامية .

من هنا تحذيره من الأفكار الواردة في كتاب (يقظة العرب) لجورج أنطونيوس، وكتاب (يقظة الأمة العربية) لنجيب عازوري، وبالأخص ما يتعلق منه بتاريخ العرب الحديث، والموقف من العثمانية، والفكرة القومية العربية. ولهذا السبب أيضا اعتبر أن من الخطأ اعتبار نصيف اليازجي وبطرس البستاني من رواد ومؤسسي اليقظة العربية الحديثة. بل ونراه يحلل وينتقد المفاهيم لمرات عديدة مثل الفينيقية، ووحدة الوجود، والفرعونية، وإخوان الصفا، والخلافة، والسلطان عبد الحميد، وحريق مكتبة الإسكندرية، والاستعمار التركي، وكتاب ألف ليلة وليلة، وكتاب الأغاني، وساطع الحصري، وكتاب الأخلاق عند الغزالي لزكي مبارك، وشخصيات المتنبي وعمر الخيام وغاندي وتولستوي وأديب إسحاق وابن المقفع وغيرهم من الشخصيات والقضايا التي يتكرر وجودها في اغلب إن لم يكن مؤلفاته.  

ووجد هذا المنهج النقدي تجسيده تجاه مفهوم الحضارة والثقافة. إذ وجد في العبارة الواسعة الانتشار في الثقافة الغربية وعلومها التاريخية والسياسية عن "وحدة الحضارة" مجرد عبارة خلابة المظهر، لكنها تخفي في أعماقها الاحتقار للثقافات غير الغربية. والشيء نفسه ينطبق على مفهوم الثقافة. إذ تعادل الثقافة عند أنور الجندي معنى الفكر القومي للأمم. وفكرة ومعنى القومية يقوم على اللغة والوطن والعنصر. فالفكر الاسلامي يمثل العالم الاسلامي لكنه ينقسم إلى ثقافات عربية وفارسية وتركية وهندية وغيرها. ولكل منها اصل في الإسلام وارتباط باللغة والوطن والأجناس. من هنا عدم دقة وخرافة مفهوم الثقافة العالمية. فالثقافة العربية مثلا تختلف عن الثقافة الغربية. العربية لها أصلها وجنسها وتاريخها، بينما الغربية اي كان نوعها القومي، فتستمد مصادرها من اليونان والرومان والنصرانية واللغة اللاتينية. إن الثقافة وطنية أو قومية دوما. من هنا قوله الفاصل عن أن العلم عالمي بينما الثقافة قومية ووطنية.

**

 

 

في المثقف اليوم