دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (2): مرجعيات الثقافة الكبرى وأحلام البشر

mutham aljanabi2من هنا جوهرية النبي محمد والقرآن في كل هذه الشبكة العنكبوتية الهائلة في تحرير الروح من أسار الجسد المباشر وإخضاعها "المنظومي" للعقيدة الدينية. وليس مصادفة أن يتوصل ابن سيرين في فكرته العامة حالما يفسر أنماط الأنبياء في أحلام البشر إلى القول، بأن من رأى كأنه نفسه أصبح نبيا معروفا، نالته الشدائد بقدر مرتبة ذلك النبي في البلاء، ويكون آخر أمره الظفر أو يصير داعيا إلى الله. وتعّبر هذه الصيغة عن مثالية النبي والنبوة في الفكر الإسلامي. بمعنى أنها تعبر عن واقع وحقيقة المآثر التاريخية الروحية للأنبياء بوصفهم مصلحين. ومن ثم فإن بدايتهم هي عين البلاء، وخاتمتهم عين الفلاح والصفاء. وليس مصادفة أن يكون للنبي محمد صيغة جامعة تشخصن الفكرة الإلهية في احد النماذج التاريخية الرفيعة للرؤية الإسلامية عن الرؤيا. من هنا مرجعية الفكرة العامة التي جرى وضعها في جملة أحاديث مثل "من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة فإن الشيطان لا يتمثل بي" و"من رآني فقد رأى الحق" و"من رآني في المنام فلن يدخل النار".

إننا نقف هنا أمام توكيد مسبق ومرجعية عقائدية كبرى يقوم مضمونها في تزاوج فكرة الحق والإخلاص في رؤيا النبي محمد، بوصفها حقيقة الرؤيا والرؤية الحقيقة. من هنا قول ابن سيرين، بان الله قد بعث محمدا رحمة للعالمين فطوبى لمن رآه في حياته فاتبعه، وطوبى لمن يراه في منامه، فإنه إن رآه مديون قضى الله دينه، وإن رآه مريض شفاه الله، وإن رآه محارب نصره الله، وإن رآه مسرور حج البيت، وإن رُؤِيَ في أرض جدبة أخضبت أو في موضع قد فشا فيه الظلم بدل الظلم عدلا أو في موضع مخوف أمن أهله. هذا إذا رآه على هيئته، وإن رآه شاحب اللون مهزولا أو ناقصا بعض الجوارح فذلك يدل على وهن الدين في ذلك المكان وظهور البدعة، وإن رأى أنه شرب دمه حبا له في خفية فإنه يستشهد في الجهاد، وإن رأى أنه شربه علانية دل على نفاقه ودخل في ذم أهل بيته وأعان على قتلهم. فإن رآه كأنه مريض فأفاق من مرضه، فإن أهل ذلك المكان يصلحون بعد الفساد، وإن رآه راكبا فإنه يزور قبره راكبا، وإن رآه راجلا توجه إلى زيارته راجلا، وإن رآه قائما استقام أمره وأمر إمام زمانه، وإن رآه يؤذن في مكان خراب عمر ذلك المكان، وإن رآه كأنه يؤاكله فذلك أمر منه إياه بإيتاء زكاة ماله، فإن رأى النبي قد مات فإنه يموت من نسله واحد، وإن رأى جنازته في بقعة حدثت في تلك البقعة مصيبة عظيمة، فإن رأى أنه شيع جنازته حتى قبره فإنه يميل إلى البدعة، وإن رأى أنه قد زار قبره أصاب مالا عظيما، وإن رأى كأنه ابن النبي وليس من نسله دلت رؤياه على خلوص إيمانه، وإن رأى كأنه أبو النبي دل على وهن وضعف إيمانه ويقينه. ورؤية الرجل الواحد رسول الله في منامه لا تخص، بل تعم جماعة المسلمين.

وتعكس الفكرة أعلاه عما يمكن دعوته بالمرآة الجمعية للصورة المحمدية في نفسية الجماعة الإسلامية، التي لا يشكل الحلم بها جزء من مسار النفس الفردية ومشكلاتها وعوالمها، بقدر ما هو جزء من النفسية الكلية للجماعة والأمة. ومن الممكن فهم المقدمات العقائدية لهذا الربط وتأثيره الفعلي في ظل منظومة أصبحت فيها الشخصية المحمدية معيارا جوهريا للحكم على نموذجية العقيدة المتغلغلة في جزيئات الوجود المادي والمعنوي للفرد. وليس مصادفة أن يكون القرآن هنا اقرب إلى كتاب نموذجي أو صورة مرجعية وميزان توزن به أحجام الصور وقيمتها. انه يستعيد نفس الصورة المميزة لنموذجية الله والأنبياء و"خاتم المرسلين". لهذا يكون من رأى كأنه يقرأ (الفاتحة) فتحت له أبواب الخير وأغلقت عنه أبواب الشر. ومن رأى كأنه يقرأ (سورة البقرة) طال عمره وحسن دينه. ومن رأى أنه يقرأ (سورة آل عمران) صفا ذهنه وزكت نفسه وكان مجادلا لأهل الباطل. ومن قرأ (سورة النساء) فإنه يكون قسّاما للمواريث صاحب حرائر من النساء ويورث بعد عمر طويل. ومن قرأ (سورة المائدة) علا شأنه وقوي يقينه وحسن ورعه. ومن قرأ (سورة كالأنعام) كثرت أنعامه ودوابه ومواشيه ورزق الجود. ومن قرأ (سورة الأعراف) لم يخرج من الدنيا حتى يطأ قدمه طور سيناء. ومن قرأ (سورة النحل) رزق علما وإن كان مريضا شفى. ومن قرأ (سورة طه) لم يضره سحر ساحر. ومن قرأ (سورة الأنبياء) نال الفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر ورزق علما وخشوعا. ومن قرأ (سورة الفرقان) كان فارقا بين الحق والباطل. ومن قرأ (سورة الشعراء) عصمه الله عن الفواحش. ومن قرأ (سورة النمل) أوتي ملكا. ومن قرأ (سورة القصص) رزق كنزا حلالا. ومن قرأ (سورة المؤمن) رزق رفعة في الدنيا والآخرة وتجري الخيرات على يديه. ومن قرأ (سورة الدخان) رزق الغنى. ومن قرأ (سورة الفتح) وفق للجهاد. ومن قرأ (سورة النجم) رزق ولدا جميلا. ومن قرأ (سورة الحديد) كان محمولا الأثر صحيح البدن. ومن قرأ (سورة المجادلة) كان مجادلا لأهل الباطل قاهرا لهم بالحجج. ومن قرأ (سورة الجمعة) جمع الله له الخيرات. ومن قرأ (سورة نون) رزق الكتابة والفصاحة. ومن قرأ (سورة المطففين) رزق الأمانة والوفاء والعدل. ومن قرأ (سورة الليل) وفق لقيام وعصم من هتك الستر. ومن قرأ (سورة القدر) طال عمره وعلا أمره. ومن قرأ (سورة الإخلاص) نال مناه وعظم ذكره ووقى زلات توحيده.

نعثر فيما سبق على صورة تقليدية ومبسطة للغاية فيما يتعلق بتفسير الرؤيا. وذلك لأنها لا تتعدى في الواقع أكثر من تطبيق حرفي للأحلام على سور القرآن أو تطبيق المضمون المتميز لسور القرآن على الأحلام. وهو تفسير اقرب ما يكون إلى الأحكام الآلية المباشرة، التي لا تخلو من سذاجة الإيمان التقليدي. بحيث يتحول القرآن وآياته إلى مرآة لأحلام المسلمين والمؤمنين. وتستمد هذه الفكرة مقوماتها من نموذجية القرآن ومرجعية كلماته "المقدسة"، باعتبارها علم الله الأزلي والأبدي. أما في الواقع، فأنها تتمثل مظاهر الثقافة الروحية والأخلاقية السائدة آنذاك بصيغتها التقليدية الأقرب إلى سطحية وسذاجة العوام.

وتغتني معالم الرؤيا وتتنوع صور الحياة التاريخية للناس في ثقافة المرحلة، حالما ننتقل إلى ميدان الحياة العادية. ولعل أكثرها إثارة بهذا الصدد هي الرؤيا المتعلقة بالموقف من السلطة والمثقفين. فالعلاقة بالسلطة لا تحتوي على أية أبعاد ذات صلة بفكرة الدولة والمصلحة العامة. من هنا لا يتعدى تفسير الأحلام قضايا القرب والبعد والعزة والمذلة والرفعة والسخط من جانب السلطة تجاه أتباعها.

ففي القرب والرفعة من السلطة أن يرى المرء وكأنه ولي الخلافة. فإن رأى أنه أصبح خليفة بعينه وكان للخلافة أهلا نال الرفعة، وإن لم يكن للخلافة أهلا نال ذلا وتفرق أمره وأصابته مصيبة. ومن رأى أنه أصبح ملكا من الملوك أو السلاطين نال جدة في الدنيا مع فساد دين. وتحتمل هذه العلاقة في تفسير الأحلام الطبيعة المركبة لوحدة المجاورة والمخاطرة مع السلطة، فإن رأى كأنه نام قبل الإمام سلم مما خاطر بنفسه، وذلك لأن النوم معه مساواته بنفسه وهى مخاطرة. فإن رأى كأنه نائم على فراش الإمام وكان الفراش معروفا فانه ينال منه أو من بعض المتصلين به امرأة أو جارية. وإن كان الفراش مجهولا قلده الإمام بعض الولايات. إننا نعثر في هذه العلاقة على نفسية الحاشية والمتقربين من السلطة. كما أنها الميدان الذي تتمرغ فيه الرفعة. كما نراه في تفسير الأحلام التالية: من رأى كأنه ضاجع حرم الإمام اختلف في تأويله فمنهم من قال انه يصيب منه خاصية، وقيل انه يغتاب حرمه. فإن رأى انه أعطاه شيئا نال شرفا، فإن أعطاه ديباجة وهب له جارية أو يتزوج بامرأة متصلة ببعض السلاطين. ومن دخل دار الإمام ساجدا نال عفوا ورياسة، فإن اختلف إلى بابه ظفر بأعدائه. ومن رأى كأنه ولى الوزارة فانه يقوم بأمر المملكة. ومن رأى أنه قائد في الجيش نال خيرا. ومن رأى بواب أمير نال ولاية. ومن رأى كأنه يأكل من ديوان السلطان نال ولاية بلدة. ومن رأى أن يده تحولت يد سلطان فإنه ينال سلطانا ويجري على يديه مثل ما جرى على يد ذلك السلطان من عدله وظلمه. وهي نتيجة مرتبطة بدورها بطبيعة العلاقة المتبادلة التي تكشف الأحلام عنها، مثل إن رأى أن الإمام عاتبه بكلام جميل فإن ذلك صلاح ما بينهما. فإن رأى أنه خاصم الإمام بكلام حكمة ظفر بحاجته. فمن رأى انه سائر مع الإمام فانه يقتدي به. فان رأى كأنه صدمه في مسيره فإنه يخالفه. وإن كان رديفه على دابة فإنه يستخلفه في حياته أو بعد مماته. فإن رأى انه يؤاكله نال شرفا بقدر الطعام الذي أكل.

إننا نقف أمام علاقة نموذجية تحكم علاقة السلطة بأتباعها ومعارضيها على السواء. حيث تستمد هذه العلاقة مقوماتها من طبيعة السلطة، التي تحب الخضوع والانغماس في متعها بوصفه الأسلوب الذي يجعل من العزة والذلة والقرب والبعد أشكال متناوبة ومتوحدة فيها. ومن خلالها يجري تجديد "شبابها" الذي يجعلها عاجزة عن بلوغ سن الحكمة. وليس مصادفة فيما يبدو أن نعثر على تفسير متميز لصورة حلم يقول، بأن من رأى القراء مجتمعين في موضع، فإنه يجتمع هناك أصحاب الدولة من السلاطين والتجار والعلماء! إذ تكشف هذه الصورة بطريقة نموذجية واقع وآفاق العلاقة الممكنة بين العلماء والسلطة، بوصفها العلاقة التي يتوسطها التجار. ومع أن هذه الشريحة ليست دليلا ولا مؤشرا على شر اجتماعي بحد ذاته، لكنها تحتوي في أعماقها على حدّ المخاطرة. بينما حقيقة العلم والعلماء هو التجرد منها، لان العلم هو الشيء الوحيد الذي لا يحدد قيمته غيره. وضمن هذا السياق يمكن فهم قيمة القلم في تفسير الأحلام. إذ عادة ما يدل القلم في التقاليد الاسلامية المتنوعة عن تفسير الأحلام، كما نراه عند ابن سيرين، على ما تنفذ الأحكام بسببه كالسلطان والعالم والحاكم واللسان والسيف والولد الذكر. ولهذا جرى تفسير من رأى أنه أصاب قلما، فإنه يصيب علما يناسب ما رأى في منامه أنه كان يكتبه به. بل قيل القلم هو الأمر والنهي والولاية على كل حرفة. وقمة هذا التأويل في الموقف من الكتاب. فمن رأى بيده كتابا نال قوة. والكتاب خير مشهور إن كان منشورا، وإن كان مختوما فخير مستور.

إن هذا التوقير والتبجيل والاحترام للقلم والكتاب لا يخلو من تفاهة وسفاهات هائلة، لكنها كانت في اغلبها نتاج المرحلة ونمط التفكير المميز لتقاليد التفسير السائدة آنذاك. والشيء نفسه يمكن قوله عن كل ما جرى إيراده في بعض نماذج وأنواع الصور المتداولة للأحلام، التي تراكمت فيها كمية التجارب الفردية والاجتماعية ومحاولات الغوص في أعماق النفس الإنسانية المتحررة من كابوس العرف ومجهول الغيب. وما بينهما تتراوح تجارب الأقوام والثقافات والأفراد والعقائد ومشاربهم في الاقتراب مما يعتقدونه حقيقة. وهي تجارب متنوعة على قدر تنوع الثقافات والأجيال والأمم، لكنها محصورة دوما بين ثنائية الروح والجسد، والتاريخ والزمن، والثابت والمتحول، والمطلق والعابر.

وليس مصادفة فيما يبدو أن تكون الصبايا والنساء الأكثر ولعا بالحلم واكتشاف أسرار الماضي والمستقبل من خلال التأويل الحالم للأحلام. وذلك بسبب طبيعة الرغبة الوجدانية العارمة التي تتطابق من حيث كميتها ونوعيتها الإنسانية مع كينونة المرأة، بوصفها كتلة الوجدان المتمردة في أحضان المتناقضات من حب وكراهية، واشتياق واستياء، وحرب وسلم، وانتقام وعفو، وحنين وجفاء. وهي الوحدة المتناقضة للحياة التي يجسد الحلم بريق حريتها وحريق التهابها الكامن في الروح والجسد والظاهر والباطن. وفي هذا أيضا يكمن سبب الرغبة الجارفة للسباحة في مجراها من اجل العوم في بحر الحياة الهادئة.

فالأحلام الهائجة ترمي إلى الهدوء والسكينة. وهي الصورة الرمزية التي يمكن العثور فيها على الرغبة الأبدية الهائجة في أعماق النفس البشرية للتحرر من القيود التي تعرقل إمكانية حركتها المتجانسة بمعايير النسب الضرورية للجمال والفضيلة. بعبارة أخرى، إن الحلم يحتوي على قدر من الحرية الهائجة بذاتها، والمستعدة لتجاوز حدود الجسد والعرف والتقاليد والقيم من اجل الفناء في نعيم الهموم الدفينة للمرء. من هنا استعداد العقل للتعامل مع هذا الكم المتناقض من العجائب والغرائب الكامنة في الباطن من اجل استظهار حقيقتها. وهو سر التفسير والتأويل المتنوع لما يمكن دعوته بفلسفة الأحلام، التي تعكس في مسارها التاريخي ثقافة الروح والجسد في البحث عن نسبة عقلانية تعطي لهما إمكانية رؤية المستقبل وتكسير حواجز القوة والزمن والإرادة والسلطة .

إن الارتقاء التاريخي للفكرة الفلسفية عن الحلم هو جزء من الحلم الإنساني الدائم لتأسيس النسبة المعقولة بين مكونات الوجود المتناقضة. كما أنه الحلم الذي تمظهر تاريخيا بصور مختلفة ومتنوعة بدأ من أكثر أنواع الحدس الباطني غموضا وانتهاء بأكثر مظاهره عقلانية وجلاء، أي في الإيمان الديني والعقل الفلسفي. من هنا قيمة الإلهام والوحي في الدين، والبحث عن علل الأشياء وتأسيسها المنطقي في الفلسفة. فكل منهما يسعى إلى بلوغ اليقين بوصفها غايته الخاصة، احدهما من الباطن إلى الظاهر، والآخر من الظاهر إلى الباطن. فالدين يبدأ بالإلهام والوحي الباطني، بوصفه الصوت "النقي" للحلم الإنساني بعالم الروح والتاريخ والثابت والمطلق. فهو الحدس المتجسد في صوت الأزل وصورة الأبد، وباطن الروح وظاهر الجسد، وماضي الأنا ومستقبل الجماعة. أما العقل الفلسفي فيبدأ بالتأمل العقلي والشك المنطقي بوصفه الأسلوب الضروري لبلوغ الحقيقة، والأكثر تجانسا لتحقيق الحلم الإنساني بعالم الروح والتاريخ والثابت والمطلق. فهو اليقين المتراكم في البحث العقلي عن منظومة تستجيب للوحدة المرنة بين الظاهر والباطن، والماضي والمستقبل في حاضر الوجود الإنساني. وهو تنوع واختلاف سوف يشاطره الدين واللاهوت، والفلسفة والعلم على الدوام بوصفه قدرهما المحتوم. وهو قدر محكوم بما في وجودهما من تباين واختلاف ضروري. فإذا كان الله بالنسبة للإيمان التقليدي هو مصدر الحل الأمثل للمشاكل والمعضلات الوجودية والأخلاقية الكبرى، فإنه مصدر المشاكل والمعضلات الوجودية والأخلاقية بالنسبة للعقل النقدي. ولا يحل هذا الخلاف سوى جمع هذه المتناقضات، بمعنى الإبقاء عليهما بوصفهما اجتهادات الحلم الإنساني ببدائل متسامية. حينذاك يمكن للإيمان أن يتمتع برؤية المتناهي وغير المتناهي في كل شيء بما في ذلك في الخرافات والأساطير، تماما بالقدر الذي يمكن للعقل أن يتمتع برؤية المتناهي وغير المتناهي في كل شيء، بما في ذلك في أحلام الحالمين جميعا.

***

 

ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر عراقي

.................

1-  يمكن اعتبار الفرويدية احد النماذج المثلى لهذا الانتقال الفلسفي في تفسير الأحلام عبر نقله من سماء اللاهوت إلى غيب الناسوت، أو من مركزية الإله إلى مركزية الجنس. وهو نموذج يعبر عن إحدى محاولات جعل الحلم تحد للقيود وأسلوبا لتمثل الحرية المهدورة من خلال تحرير فكرة الجنس والممارسة الجنسية. مع أن تحرير الجنس ليس ضمانة الحرية، لأن الحرية منظومة. لكنه مكون جوهري للحرية، بما في ذلك للثقافة ومواقف المثقفين من النفس (وهي السلطة الباطنية الأولى) ومن العرف والتقاليد (وهي سلطة الماضي المقننة) وسلطة العقائد والقيم الأخلاقية المتعايشة (وهي سلطة الحاضر). وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى فلسفته على أنها تجسيد خاص لتحرير الجسد والقيم الأخلاقية عندما انزل تأويل الرؤيا من معتقدات اللاهوت وبهاء أنواره المشعة إلى غياهب الناسوت وعتمة غرائزه المحببة. وبهذا كان اقرب إلى الطبيعة والحقيقة وأصفى وأنقى فيما يتعلق بالعقل والوجدان، لأنه ينصف الجسد بمتطلباته، والعقل بتحريره من الرياء، والذهنية من خضوعها لدجل التأويل المفتعل والمرتهن لتقليد الأسلاف، والخضوع لسيطرة وسلطة النص والصورة الجاهزة. (التقييم هنا يخص الإمكانيات الفعلية للمنهج فقط ولا شيئا خر)!!

 

 

 

في المثقف اليوم