دراسات وبحوث

في نقد العقلانية المبتورة لطه حسين (1)

mutham aljanabi2توطئة: احتل طه حسين موقعه الخاص والمتميز في صرح الثقافة العربية الحديثة بوصفه شخصية عقلانية ونقدية حرة وتنويرية تجمع بين التجديد والأصالة. كما حصلت بالقدر ذاته على مكانة الشخصية المرجعية بالنسبة للفكر العربي الحديث بشكل عام والأدبي بشكل خاص. من هنا تنوع مظاهر ومضامين التقييم المؤيد والمعارض. بحيث نقف بقدر واحد على أغلبية تؤيد التقييم القائل بشخصيته الفذة، وأقلية تجد فيه شخصا يفتقد إلى ما ينسب إليه. وفيما بين هذين التيارين تباينت أيضا المواقف المعارضة والمؤيدة، والمبجلة والمستخّفة. ولا خلاف عما في هذه الحالة من تنوع يعكس تنوع المواقف والآراء والأحكام من جهة، ويشير في الوقت نفسه إلى حيوية طه حسين وتأثيره المستمر في الوعي الثقافي العربي المعاصر. الأمر الذي يجعل منه شخصية إشكالية.

لكن غرابة القضية ككل تكمن في إشكالية شخصية وليست إشكالية فكر وفكرة. الأمر الذي جعل من كل ما قيل ويقال عنه جزء من معترك المواقف والأحكام الأيديولوجية، وليس من مسار التراكم العلمي والنقدي الضروري لوعي الذات القومي في احد مجالاته ومستوياته ونماذجه.

وتنعكس في هذه المفارقة من حيث الجوهر القضية التالية، وهي أن المشكلة ليست في إشكالية طه حسين بقدر ما تقوم في معضلة الوعي الثقافي العربي الحديث والمعاصر التي جعلت من شخصيته إشكالية، ومن أسلوبه في الكتابة والتعبير نمطا متبعا، ومن مستوى بحوثه التاريخية والأدبية نموذجا للمحاكاة والتقليد، ومن آثاره النقدية مآثر علمية، ومن معلوماته المتناثرة معرفة منظمة، مع أنها لم ترتق في أي من هذه المجالات إلى مستوى العلم والمعرفة الحقيقية، دع عنك قضية الإبداع الفكري الأصيل. الأمر الذي يجعل من إشكالية طه حسين في الحقيقة إشكالية ضعف وتدني وسطحية الوعي النظري الذي ميز وما يزال يميز الوعي الثقافي العربي الحديث والمعاصر. وإذا كانت هناك من مأثرة لطه حسين بهذا الصدد، فإنها تقوم في قدرته الفذة على تمثل هذه الحالة الأولية لتراكم الوعي المعرفي البدائي لحد ما من حيث المقدمات والأسس والمنهجية، ورفعها إلى مصاف المرجعية الثقافية، التي أعطت له تلك القيمة المؤثرة والفعالة في الوعي الاجتماعي، رغم سطحيتها في مجال العلم والمعرفة الحقيقية. وإذا كان لهذه الحالة ما يبررها من الناحية التاريخية، بوصفها الصيغة المبسطة والجزئية لكيفية وطبيعة التراكم الأولي للثقافة العربية آنذاك (والمصرية بشكل خاص)، فان ضررها المعرفي يقوم في تقديم تجارب الثقافة الأوربية العريقة والعميقة والجديدة عبر موشور الرواية والحكاية المميز لتقاليد الأزهر المختبئة في أعماق الوعي الذاتي لطه حسين نفسه. مما أدى إلى صنع سبيكة مشوهة من مظاهر الرؤية النقدية المتشبثة ببعض كسرات المناهج الأوربية (الديكارتية بشكل خاص)، وبواطن الرؤية التقليدية العاجزة عن إرساء أسس الرؤية النقدية الفعلية وتأسيس منهج الرؤية الثقافية الذاتية. وقد يكون أسلوب الرواية والحكاية الصيغة الأكثر تعبيرا عن هذه المفارقة المزعجة، أي الخاوية من إشكالية الإبداع الحقيقي، والفاعلة في الوقت نفسه على خلخلة الوعي النقدي الحقيقي. وذلك لأنها لا تصنع في نهاية المطاف غير شهية الاستماع والاستمتاع بالتقاليد الشفوية المغرية لنفسية وذهنية العوام. ومن ثم فعلها المباشر وغير المباشر على تسطيح الوعي وابتذال مستوياته النظرية.

فمجرد وضع صورة طه حسين ضمن "لوحة التكريم" الملونة للثقافة العربية، وتحوله إلى احد عناصرها المرجعية المعاصرة يعكس أولا وقبل كل شيء بقاء واستمرار فاعلية الثقافة الشفوية وتقاليد الرواية والحكاية. فقد مّثل طه حسين احد نماذجها الكبرى في القرن العشرين (العربي)، أي في زمن الصعود المشوه لما ادعوه بعقلانية الفطام التاريخي، التي تميزت أيضا بقوة الحشو والمعلومات الجزئية، وضعف مستويات التمحيص والتحقيق العلمي، وشبه انعدام للتدقيق الفكري. كل ذلك جعل من الرواية والحكاية اجتهادا. من هنا فقدانها للفكرة المنظمة مع ما يترتب عليه من آثار مخربة للوعي النظري العقلي والعقلاني. وبالتالي، فان مهمة نقد طه حسين هي أولا وقبل شيء مهمة نقد تقاليد المنهج والتسطيح المعرفي وأساليب الاستلاب الثقافي التي أدت بعد مرور قرن من الزمن الى البقاء ضمن معايير الزمن، ومن ثم انعدام التاريخ الفعلي بوصفه تراكما للمؤسسات في الوجود الفعلي للمجتمع والدولة والمعرفة والعلم والثقافة. وحتى الجدل الذي أثارته مؤلفاته فقد كان مجرد انهماك في صراع فارغ لم يؤسس للفكرة المنهجية ولا للثقافة العلمية. والسبب يكمن في أن كتب طه حسين "المثيرة للجدل" هي الوجه الآخر والأصدق والأدق عن طبيعة الوعي النقدي (المؤيد والمعارض) المثير للحيرة والاندهاش! إذ لم يكن في تلك الكتب وأغلب الردود قيمة ذاتية من حيث الأصول والأسلوب والمنهج والغاية. من هنا جوهرية الاهتمام الذي ينبغي توجيهه صوب القضايا المتعلقة بالأصول والأسلوب والمنهج والغاية، أي كل ما يستحيل بدونه إرساء أسس المنظومة العلمية والعقلانية والإنسانية للثقافة.

مفارقة"مثقف الاستلاب الثقافي"!

إن مهمة هذه السلسلة من المقالات ترمي الى إعادة النظر النقدية بالتراث الفكري العربي من اجل تنقية هوائه من فساد التقليد، الذي نعثر عليه في اضمحلال وتلاشي النخب الفكرية الاجتماعية والقومية القادرة على الارتقاء الى مصاف المرجعيات النظرية والعملية. من هنا تحول المثقف الى تابع ذليل لأزلام السلطة وقادة الأحزاب المخنثين. بينما المسئولية الكبرى في التاريخ العالمي عادة ما يتحملها في بادئ الأمر رجل الفكر والثقافة. ومقابل كل تضحية تتراكم عناصر الفكرة الهائجة في الوعي والضمير التاريخي للأمم. مع ما يترتب عليه من ترتيب وإعادة إنتاج أصيلة لمنظومة الفكر بوصفها المقدمة الضرورية لتفعيل الوعي والإرادة.

وليست هذه التضحية في الواقع سوى الصيغة الإنسانية المعذبة بعذوبة الذاكرة وبقايا الذكرى العميقة للألم الذي تواجه الشخصيات الكبرى في إرساء أسس اللحظات التاريخية الكبرى. وضمن هذا السياق يمكننا القول،بان بروميثيوس لم يسرق النار بل وهبها لبشر! بينما واجه النبي محمد أصنام الجاهلية العربية بقوة الكلمة! وكلاهما فعل من اصل وجذر واحد، ألا وهو العمل بوحي المعاناة الذاتية في مواجهة كل ما يعيق المسار الطبيعي لوجود الأشياء. وينطبق هذا في الواقع على كل ما له اثر في الوجود التاريخي الفعلي للحضارات والثقافات والأمم. فالمثقف الكبير هو روح التاريخ الحقيقي.

ومن هذه المقدمة يمكنني القول، بان الثقافة الحقيقة هي التي تبدع بمنطق وعيها القومي، ومعايير تجاربها التاريخية، وصور خيالها الذاتي. ومن ثم يمكن وضع هذه الفكرة العامة في أساس أو منهج التحليل النقدي لكل ما أنتجه الفكر النظري العربي الحديث والمعاصر. وسوف اتخذ من طه حسين أو بعض جوانب إنتاجه الفكري نموذجا من اجل نقد كل ذلك الركام الذي لا تركم فيه بالنسبة للفكرة العقلية. بمعنى الكشف عما في هذا الكم الهائل من الكتب والمؤلفات والمقالات من حشو يفتقد من الناحية الفعلية لمعنى التراكم الفكري الضروري. وبالتالي الوقوف أمام ظاهرة غريبة ألا وهي وجود "فكر" بلا تراكم! والسبب يكمن في أن هذا الفكر نفسه هو نتاج تجزئة لمصادر غريبة سواء من حيث رؤيتها المنهجية أو من حيث صورها وخيالها. إضافة الى حالة الاستلاب الهائلة في كيفية استعمال المناهج الجاهزة، أي المناهج الفكرية والفلسفية المتراكمة في تجاب الأمم الأخرى. الأمر الذي طبع اغلب ما كتب بطابع الانتقائية. ومن ثم انتشار وهيمنة التسطيح الفكري والابتذال المعرفي. وذلك لأنه استخدام لا استلهام يه، واستغلال بلا تمثل.

وقد تكون أسطورة "المعجزة اليونانية" من بين أكثرها بروزا في مواقف وآراء وتقييمات طه حسين للواقع العربي وإبداعه التاريخي. فقد تراكمت في مجرى تأمل التجربة الثقافية الأوربية الحديثة ومحاولات تأسيسها أصولها التاريخية والثقافية. وذلك لان حقيقة اليونان وتراثها الثقافي العام والخاص لا علاقة له بأوربا الجغرافية والتاريخية. إلا أن ذلك لم يحل دون صعود أسطورة المعجزة اليونانية بوصفها معجزة أوربية أولا وقبل كل شيء، وقد يكون كتاب برتراند رسل (حكمة الغرب) نموذجا لهذا الموقف والرؤية من خلال محاولاته جعل فكرة الحكمة الأوربية والفلسفة اليونانية شيئا واحدا. ولاحقا سترتقي هذه الفكرة الى مصاف خرافة الجوهر اليوناني الكلي، كما قال بها الألماني زيلر في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية)، وارنست رينان في كتابه (تاريخ الأديان). وسوف يدفعها آخرون مثل غومبيرس في كتابه (مفكرو اليونان) الى أبعادها القصوى عندما ردد عبارة هنري سومر القائل: "باستثناء قوى الطبيعة العمياء، لا يوجد شيء يتحرك في هذا الكون إلا وهو إغريقي الأصل!". بينما يستكملها آخر وهو غلبرت موراي بعبارة :"لا يوجد شيئا تحت الشمس إلا وهو من اصل يوناني!".

وبالمقابل يجري التأسيس لفكرة الشرق "خرافي" و"غير عقلي" و"صوفي" وغير منطقي" و"روحاني" و"ديني" فقط وما شابه ذلك. بعبارة أخرى، يجري تصنيع ثنائية خلافية عدائية بمعايير المنطق والعقل والعلم! وهذا أسخف ما يمكن تصوره بمعايير المنطق والعقل والعلم!

أما من الناحية الفعلية فقد كان لهذه الأسطورة والخرافة مذاقها الخاص في مجرى الصيرورة التاريخية الثقافية لأوربا القرن التاسع عشر والعشرين. أما تحويلها الى مبدأ وغاية الرؤية المنهجية في الموقف من التراث العربي وإشكالاته الحديثة، فليس إلا الصيغة الأكثر فجاجة للاستلاب الثقافي والمعرفي على السواء. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تمازجها وتداخلها وتأثرها بنفسية وذهنية الإثارة المميزة للاندهاش المسطح عند طه حسين، فمن الممكن معرفة أثرها المدهش للتسطيح المعرفي! والقضية هنا ليست فقط في كون طه حسين لم يفهم خصوصية الثقافة الإغريقية ضمن محيطها الخاص، وضمن معاناة التراث العربي الإسلامي، بل وفي إفراطه المتبجح والجازم في الأحكام والتقييم. بحيث أدى ذلك في نهاية المطاف الى تخبط لا يخلو من تخريب باطني كبير في الموقف من "مستقبل الثقافة" العربية كما هو جلي في رؤيته التي وضعها في "مستقبل الثقافة في مصر". إذ لم يكن هذا "المشروع" في الواقع أكثر من لقطات ولحظات متناقضة. وفي أفضل الأحوال لا يتعدى كونه حكايات تقريرية لا غير!

فالخطوة الأولية والضرورية لأية ثقافة حية تفترض تذليل نفسية وذهنية الصنمية فيها. وللصنمية أشكال ومستويات متعددة ومتنوعة. ومن بين أكثرها غرابة أن تتحول شخصيات ثقافية مغتربة ومسطحة لحد ما الى "مرجعيات" الفكرة الثقافية. وقد يكون أكثرها إثارة بهذا الصدد، تلك الشخصيات التي تتماهى صورتها في الوعي العادي والسائد مع النماذج العليا للوعي التنويري، كما ترتقي أيضا في تاريخ الثقافة الأكاديمية الى مصاف المرجعيات النظرية الراقية للمنهج العقلاني والنقدي. ومن هذه الحصيلة عادة ما يجري إعادة تسطيح الوعي الثقافي وحقنه بجرعات التقليد الفج للأكاديمية الزائفة. وتمتلئ الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة بهذا النمط المغري للوعي التائه في دهاليز التقليد الذي زرعته بقدر واحد تيارات الراديكالية الثقافية والسياسية المغتربة والسلطات الهامشية الرخوية.

تكمن المقدمة الخفية لهذه الظاهرة أولا وقبل كل شيء في غرابة الحالة، على الأقل من الناحية الشكلية، التي تجعل من المثقف محلا للاستلاب الثقافي. عندها يبرز السؤال المنطقي الضروري القائل، وهل يمكن للثقافة أن تكون مستلبة؟ أما الجواب الواقعي والعلمي عليه فيفترض النزول من علياء الفكرة المجردة والمنطقية الخالصة الى ميدان الواقع من اجل اختبار حقيقتها. فالحقيقة ملموسة على الدوام! والواقع يشير الى إمكانية استلاب الثقافة والمثقف. لكن المنطق المجرد، وهو الأدق والأعمق، يقول، بان الثقافة المستلبة والمثقف المستلب هما وجهان للزيف والتقليد، أي لانعدام الثقافة الأصيلة. وذلك لان الزيف والتقليد صنوان! وليس مصادفة فيما يبدو أن يتكلم الفارابي قبل قرون عديدة عن فيلسوف مزيف وآخر مقلد وثالث أصيل، كما صنفت الرؤية الشعرية العربية القديمة الشعراء الى شاعر وشويعر وشعرور!

وفيما لو أجملنا بصورة منطقية مجردة الحالة العامة للمثقف العربي "الحديث"، فان أغلبيتهم المطلقة تتراوح بين المزيف والمقلد. وليس مصادفة فيما يبدو أن يتحول طه حسين وسلامة موسى وأمثالهما الى "مرجعيات" للثقافة العقلانية والتنويرية والنقدية، رغم سطحية ما فيهما. طبعا إن طه حسين أرقى وأنقى وأوسع وأعمق من سلامة موسى، لكنه مع ذلك لا يتعدى من وجهة نظر الحقيقة مستوى التقليد والاستلاب "الأكاديمي". وذلك لان إنتاجه الشخصي لا يتعدى في الواقع أكثر من جزيئات متناثرة في "ثقافة" تفتقد للحدود والمنظومة. الأمر الذي يفسر سر انتشاره الكبير وأثره الباقي في الثقافة العربية المعاصرة. وسبب ذلك يقوم في أن الفكر العربي الحديث والمعاصر يفتقد الى معنى وحقيقة المنظومة. وينطبق هذا بالقدر ذاته على مجمل الحياة العربية في مجال الدولة والمجتمع والعلم.

وضمن هذا السياق يمكن فهم طبيعة المفارقة الكبرى لشخصية طه حسين الثقافية وحصوله على لقب "عميد الأدب العربي" بينما كان يجسد من حيث المنهج والأسلوب نموذجا كلاسيكيا للاغتراب الثقافي. طبعا، أن إطلاق الألقاب والنعوت في الثقافة المصرية الحديثة ظاهرة مثيرة للتشاؤم والسخرية بقدر واحد. بمعنى أنها تتميز بقدر هائل من الاستخفاف بالكلمة والمعنى. بحيث استسهلت توظيف كل كلمات القاموس العربي فيما يتعلق بالتضخيم والتبجيل لا لشيء إلا للتمتع بنحت ما يمكنه إن يكون أكثر فخامة وضخامة! من هنا انتشار كلمات العبقري والعظيم والجليل والكبير ويتيم دهره وما شابه ذلك على كل ما هب ودب في ميدان الكتابة. وتحولت الكتابة إلى مصدر الكاتب. وكانت هذه تكفي بحد ذاتها لكي تلصق بها كل ما تجود به النفس من ألقاب وإطناب. وهذه بمجموعها كانت أيضا موضوعا للتفاخر والاعتزاز والحذلقة "الأدبية". من هنا عبارات أمير الشعراء وسيد الأدباء وعبقري العباقرة وعظيم العظماء. وبما أن عدد الكتاب في ازدياد من هنا استغلال كل ما لم يستغل بعد. وضمن هذا السياق فيما يبدو جرى نحت لقب "عميد الأدب العربي". وليس المعروف مما إذا كان هذا النحت مأخوذا من العمدة أو العمادة أو العامود. وهذه أمور في الأغلب ليست بذي أهمية مازال وقع النعوت والأوصاف كاف بحد ذاته من حيث غرابته وأصالته أو استطرافه واستظرافه للسمع والأذواق!

ليست مهمة هذا المقال كسر أصنام النحت المفتعل في الألقاب والنعوت، بقدر ما تهدف إلى كسر أصنام الفكرة المزيفة بحد ذاتها. مع إن ذلك لا ينفي القيمة التاريخية والأدبية لطه حسين وموقعه الخاص في تاريخ الفكر العربي الحديث بشكل عام والأدبي منه بشكل خاص.

إن سبب الخلل الذي يجري الحديث عنه هنا يقوم أساسا في ضعف بل انعدام تقاليد التقييم الذاتية وأحكامها المناسبة في الفكر العربي الحديث. وهذا بدوره نتاج ضعف بل انعدام مدارسه الفكرية والعلمية الخاصة. وفيما لو أردنا إجمال طبيعة وخصوصية الضعف المشار إليه أعلاه وتطبيقه على شخصية طه حسين، فان سببه يقوم في هيمنة نفسية وذهنية الاغتراب الثقافي التي لازمت صيرورة نموه المعلوماتي. فقد كان طه حسين شخصية معلوماتية وليست معرفية. من هنا سعة انتشارها في العالم العربي الحديث والمعاصر، شأن كل هذا الكم الهائل والمشوه لما يسمى بالفكر التقدمي واليساري والثوري، الذي يجمع في ذاته دعوات بلا حدود ذاتية. فالتقدم مجرد مسار لا إلى غاية، واليسار عسر، والثورية عفوية مدوية، أي كل ما لم يرتبط ويتحدد بتلقائية المواجهة العقلانية والإنسانية الحقيقية لإشكاليات الوجود الفعلي للفرد والجماعة والمجتمع والأمة، أي لإشكاليات الحاضر والمستقبل بوصفها إشكاليات التاريخ الذاتي.

وسوف اتخذ من مقاله الذي قدم به لكتاب (نقد النثر) المنسوب لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، نموذجا للتدليل على الفرضية الموضوعة في أساس هذا المقال (وما يتبعه من مقالات أخرى).

نعثر في هذه المقدمة التي وضعها تحت عنوان (في البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر) على نموذج كلاسيكي للتأثر المستلب وغير النقدي في الموقف من التراث. إذ لا تتعدى هذه الرؤية "النقدية" في الواقع أكثر من كونها استلابا معرفيا وثقافيا لمستوى الاستعراب والاستشراق الأوربي آنذاك. فقد كان هذا المستوى في اغلب مكوناته المنهجية محكوما بالتجارب الأوربية في ميدان المعرفة النظرية والعملية. ونعثر على ذلك في الحكم، وليس الفرضية، التي ينطلق منه طه حسين في موقفه من البيان العربي. فهو ينطلق مما يدعو بالأثر الهيليني الهائل في الأدب العربي ومن ثم تكوين البيان العربي من خلال المعتزلة (وتأثرهم بالفلسفة)1 . وأن هذا الأثر (في الأدب العربي) يبرز بوضوح في الأعاجم أو من ذوي أصول أعجمية(!!) (وتأثرهم باليونانية) مثل أبو تمام (كان من أصول نصرانية!) وغيّر اسمه واعتنق الإسلام وانتسب إلى قبيلة طي2 . وحاول التدليل على ذلك فيما اسماه باختلاف أبي تمام الواضح ليس في استعمال التشبيه والمجاز فحسب، بل وفي تصوره للشعر نفسه، وأهمية المعنى، ووحدة القصيدة، والاهتمام بالطبيعة، والميل للمعاني الفلسفية"3 . وحالما تناول قضية البيان العربي، فانه نظر إليه من زاوية "معرفتهم" أو "جهلهم" بالتراث اليوناني (الأرسطي) وكثرة أو قلة استعمالهم للأمثلة اليونانية (التي جمعها أرسطو)(!). بل ونراه يتعدى ذلك الى تفعيل الدونية المبطنة من خلال التوكيد على أن قلة استعمال الأدباء العرب لأمثلة كتاب الخطابة لأرسطو متأتي من كونهم لم يفهموا هذه الأمثلة(!)4 . واختتم هذه الأحكام بموقف يقول، أن علماء البيان العربي لجهلهم التام بنظم اليونان وآدابهم لم يستطيعوا فهم الأنواع الخطابية وما يتصل بها، ولا الشواهد التي استعملها أرسطو من غرر الأدب اليوناني .

إننا نقف هنا أمام صيغة نموذجية للخل المنهجي في رؤية التراث والتاريخ الثقافي القومي. فاليوناني المعاصر، بل واليوناني على امتداد آلاف السنين بعد اندثار المركزية الدولتية اليونانية، لم ينتج خطباء وأدباء كبار، مع انه يعرف تراثه اليوناني ويفهم الأنواع الخطابية اليونانية وغيرها. تماما كما أن العارف الكبير باللغة لا يمكنه أن يكون خطيبا أو شاعرا، ولا العارف بتاريخ الفلسفة فيلسوفا بالضرورة. إن قضية البيان، بما في ذلك من الناحية النظرية والفلسفية، هي أولا وقبل كل شيء مظهر وأسلوب من مظاهر وأساليب الحالة الثقافية. من هنا سخف الفكرة التي توصل إليها طه حسين في بحثه عن اثر الهيلينية في صيرورة وإبداع كل كاتب وأديب أو شاعر كبير في الثقافة العربية الإسلامية. إذ ليس هذا الموقف في الواقع سوى النتاج الملازم للرؤية المستلبة لمثقف مصر آنذاك وانبهاره "العقلي" الصغير بالتطور الأوربي المتزامن من صعود "الموجة الإغريقية" في فهم النفس والتراث والحاضر والمستقبل. وليس مصادفة على سبيل المثال ألا نرى الآن ولا نسمع من يتكلم عن ذلك بفعل اندثار الموجة اليونانية. وينطبق هذا على الشعر التمثيلي والملحمي بل والمسرح وما الى ذلك. بعبارة أخرى، ليس البحث في أبي تمام عن هيلينية (نصرانية) وفي عبد الحميد الكاتب وقبله ابن المقفع عن أصول فارسية (ومجوسية محتملة!) واحمد بن يوسف عن أصول قبطية (ونصرانية محتملة) سوى الصيغة "النقدية" المزيفة لولع الإثارة، وبالتالي الوجه الآخر لسخف أحكام الرؤية التقليدية المتشددة في بعض التيارات السلفية (الإسلامية القديمة) التي حاولت اتهام كل الشخصيات الحرة والنقدية باتهامات مثيلة، أي البحث عن أصول غير إسلامية أو غير عربية فيها! فالجامع بين هذه المواقف "النقدية" المتضادة هو وحدتها في خلل الرؤية المنهجية من حيث الجوهر، ونوعية العقائد من حيث العرض.

من هنا فان النقد الموجه هنا ضد آراء ومواقف وأحكام طه حسين سوف لن يتناول تحليل مضامينها، وذلك لأنها مجرد دعاوي جزئية ومفتعلة. وبالتالي فان تحليلها النقدي يفترض السير معها وموازاتها في الدحض والنفي على كل عبارة وتقييم وموقف وحكم من اجل الكشف أيضا عن ضعفها المعرفي. ولا طائل من وراء ذلك، لأنه في الأغلب مضيعة للوقت والجهد ولا يحتوي على أية قيمة منهجية. انه يحتوي دون شك على قيمة علمية، لكن قيمة العلم الضرورية بالنسبة لتأسيس المعرفة الحقيقة والثقافة الحية تفترض توجيه الرؤية صوب تأسيس الرؤية العلمية كما هي. والاهم من ذلك تأسيس الرؤية المنهجية السليمة.

لهذا سوف أركز هنا على البعد المنهجي فقط. لاسيما وانه جوهر القضية. وفيه تكمن أسباب الخلل في الرؤية "النقدية" لطه حسين بهذا الصد. فالأصول الشخصية والعائلية والعقائدية للمبدعين في كل مجال واختصاص عوامل مهمة، لكنها جزئية وعارضة، أو في أفضل الأحوال أنها مكون طبيعي من مكونات الوجود الطبيعي. بينما الإبداع هو ذروة الوجود "الاصطناعي" التاريخي لمنظومات الوجود الإنساني في مختلف ميادينه ومستوياته. وإذا كان أبو تمام نصراني الأصل قد اعتنق الإسلام، فانه أولا وقبل كل عربي المنشأ والثقافة. والفرق بينهما جوهري، هو الفرق بين الأصل والفرع، الجوهر والمظاهر، المكون الثقافي الفعلي وتأثير العقائد. إضافة الى أن الانتماء الطوعي (لأبي تمام الى عقيدة أخرى) يعكس أولا وقبل كل شيء إدراك أفضلية من يجري الانتماء إليه. ثم ما علاقة النصرانية باليونانية هنا. فالنصراني المتعرب (في حال كونه ليس من أصول عربية) هو عربي بفعل الطابع الثقافي للقومية العربية. فالقومية العربية ثقافية من حيث المنشأ وليست عرقية. إضافة لذلك أن النصرانية (كدين في عالم الخلافة آنذاك) لم تصنع ثقافة عقلية أو فلسفية. كما أن نصرانية تلك المرحلة (على النطاق الأوربي، أي جغرافية انتشارها آنذاك) كانت في عداء تام وغريزي للتراث اليوناني العقلي وجاهلة بما فيه وله. بعبارة أخرى، أن الحقيقة البسيطة والمباشرة والجلية واليقينية أيضا تقول، بان التأسيس الأدبي واللغوي والمعنوي (للأدباء والشعراء الذين ينتقيهم طه حسين) قد جرى بفعل العربية وتراثها وإشكالاتها وصراعها، أي أن ما جرى هو جزء من اثر الصيرورة التاريخية للثقافة العربية الإسلامية. وكل ما عداه هو مجرد أجزاء ومكونات وعناصر يمتلك كل منها قدرا من الضرورة بما في ذلك أشدها غرابة وطرافة وصدفة.

إن الحصيلة التي يمكن الوصول إليها بهذا الصدد تقوم في أن آراء ومواقف وأحكام وتقييمات طه حسين ليست في الواقع سوى الصيغة المقلوبة أو الوجه الآخر للاستلاب المعرفي والمنهجي والثقافي الذي ميز ما يسمى بنزعته النقدية. إذ لا نقدية فيها بالمعنى الدقيق للكلمة. وقد يكون من الأدق القول، بأنها ومضات ومواقف اقرب ما تكون إلى لدغات إثارة بفعل تدني المستوى المعرفي والعلمي السائد آنذاك.

فالفكرة النقدية الكبرى هي التي تتجاوز منظومات الفكر إلى أخرى أكثر رفعة ودقة وتأسيسا. بينما لم تحتو كل كتابات طه حسين النقدية على شيء يتعدى حدود التطويع والتطبيق الجزئي لأجزاء المعرفة المتناثرة في الفكر الأوربي آنذاك، مع البقاء من حيث الجوهر ضمن الدهاليز العتيقة والعمل على نفض الغبار العالق على جدرانها. كما يمكننا أن نعثر فيها على الشخصية الباطنية أو المستبطنة لطه حسين نفسه، في استعماله النهم للأشياء التي "فهمها" من التراث الأوربي الحديث و"اليوناني" بشكل خاص، مع أن إلقاء نظرة سريعة إلى كل ما كتبه تكشف عن ضعف وسطحية استلهامه للتراث اليوناني بشكل عام والفلسفي بشكل خاص (وليس اليوناني فقط).

***

 

ا. د. ميثم الجنانبي

..............

1- طه حسين: البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ضمن كتاب (نقد النثر) المنسوب لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982، ص8-9.

في الواقع أن شعراء الجاهلية كانوا كثر فلسفية من أبي تمام.

2- طه حسين: البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ص9.

3- طه حسين: البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ص12.

4- طه حسين: البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر، ص13.

 

 

في المثقف اليوم