دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (18): بداية الدولة والسلطة ودراما الدين والدنيا

mutham aljanabi2كان بلوغ فكرة الرشاد مضمونها السياسي الأول بصدد إدارة شئون الدولة والأمة، المقدمة الضرورية لما أسميته بنهاية الوحي وبداية الدولة. فهي المرحلة التي أخذ فيها المسار الطبيعي للدولة طابع العملية التاريخية السياسية. مما جعل من مسار الدولة والسلطة خليطا من دراما التأويل والنفعية السياسية. وكلاهما كانا الأسلوب الضروري الملازم لتلازم الدولة والسلطة. كما أنها العملية التي تؤسس أكثر فأكثر لفكرة الاجتهاد السياسي، بوصفه أحد آليات وجود الدولة والسلطة والأفراد والقيم والحقائق. ومن خلالها يمكن للتأويل السياسي أن يرتقي إلى مصاف العقيدة، وهبوط العقيدة من علياء اللاهوت إلى مصاف السياسة. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار، أن وحدة الدين والدنيا هي الصيغة التي كانت تعادل من حيث قيمتها المادية والمعنوية تجانس الوجود والمثال بالنسبة لأولئك الذين شكلوا شخصيات الإسلام الأول وعماد أفكاره العملية.

وليس مصادفة أن ترتقي شخصية عمر بن الخطاب في الخطاب الديني التقليدي (السنّي) إلى مصاف ما سمي أحيانا بموافقة القرآن لرأي عمر. والمقصود بذلك ما هو مشهور من مواقفه العملية التي دعا إليها وتحولت إلى فكرة قرآنية، مثل قوله للنبي محمد "يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى"، فظهرت الآية (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)[1]، وكذلك قوله: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فظهرت آية الحجاب (وإذا سألتموهن متاعًا فسألوهن من وراء حجاب)[2]، وكذلك قوله لنساء النبي وقد اجتمعن عليه في الغيرة كلمات ظهرت كما هي في الآية (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن)[3]. وقد جعلت هذه الوقائع والحقائق النبي محمد يقول مرة "جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه". وفي هذا كانت تكمن إحدى مقدمات الأفكار الجليلة والمبجلة لشخصيته التي جرى وضع أحاديث لا يخلو اغلبها من أثر الصراع السياسي اللاحق. لكنها كانت تعكس بقدر واحد تمازج الخيال الديني والمنفعة السياسية الضيقة. كما هو الحال في الأحاديث الموضوعة (الكاذبة) مثل "ما من نبي إلا له وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء ‏‏فجبريل‏ ‏وميكائيل،‏ ‏وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر". وكذلك الحديث الذي توج الصورة المسرحية التي تصور كيف أن النبي محمد ‏خرج ذات يوم فدخل المسجد ‏‏وأبو بكر ‏وعمر ‏أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وهو آخذ بأيديهما، ثم قال: ‏"هكذا نبعث يوم القيامة!"، أو التصوير القائل، بأن النبي محمد ‏‏كان ‏‏يخرج على أصحابه من ‏المهاجرين ‏‏والأنصار ‏‏وهم جلوس، ‏‏فلا يرفع إليه أحد منهم بصره إلا ‏أبو بكر وعمر، ‏‏فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويتبسم إليهما.

إننا نقف هنا أمام صورة تحاول جعلهما ظل النبي وأجنحته الطائرة في حواره وجواره. كما تسعى لإعطائهما بعدا روحيا إضافيا، هي الصيغة الدينية والعقائدية الموازية لما أسميته بدراما التأويل والنفعية السياسية التي لازمت مسار الدولة والسلطة. ولا تخلو هذه الصيغة من دراما الانضمام لجوقة الإسلام الأولى، وبالأخص من جانب عمر بن الخطاب. فمن المعلوم عنه كونه أحد أشد المعادين والمعارضين لمحمد قبل أن يعتنق الإسلام. فقد ظل على معاداته وصراعه وعنفه ضد النبي محمد والمسلمين عموما حتى الهجرة الأولى إلى الحبشة. وأسلم في السنة السادسة من بدء الدعوة الإسلامية. حيث كان يبلغ آنذاك من العمر حوالي ست وعشرين سنة. وكان انتقاله للإسلام عنيفا كما كان الحال بالنسبة لمعارضته إياه. وتروي كتب التاريخ والسير حادثة إعلانه الإسلام نتيجة الحمية العنيفة التي أوقفته عند حدود الإقدام على قتل محمد. فقد ثارت به حمية الجاهلية مرة بحيث شهر سيفه وصرخ "أريد أن أقتل محمدًا!". وعندما قيل له لم تقتل محمد على إسلامه وهناك من بني بيتك من اسلم؟! وكانوا يقصدون بذلك كل من أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد. وعندما أسرع إليهما وجدهما في الدار وكان عندهما خّباب يقرئهما سورة (طه). فدخل وهو في ثورة عارمة ورغبة فاحشة بالانتقام. فوثب على سعيد فضربه، ولطم أخته فأدمى وجهها. لكنه حالما رأى الصحيفة وأخذ يقرأ ما فيها، فإنه لان و"شرح الله صدره للإسلام". عندها سار إلى النبي محمد. فلما دخل عليه وعلى أصحابه، خرج إليه النبي، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف وقال له:

- أما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟!

- يا رسول الله! جئتك لأومن بالله ورسوله، وبما جاء من عند الله!

إننا نقف هنا أمام رواية يقترن فيها الخيال بالواقع، لكنها تعكس وتعبر عن طبيعة التحول العاصف، الذي عادة ما يميز أولئك الذين تختمر في أعماقهم وحدة الوجدان والعقل في حمية الفعل وهمّة الروح. وقد ظل عمر بن الخطاب أمينا لهذه الصفات مدى الحياة. لهذا رفع من شأن الهمّة بحيث نسمعه يقول:"أجهد أن لا تكون دنيء الهمة. فإني ما رأيت شيئا اسقط لقدر الإنسان من تواني همته"[4]. وصنع هذا التحول شخصيته التي رسم الأصفهاني في (حلية الأولياء) معالمها الروحية وخطها البياني الواقعي في عبارات أخاذة تقول، بأنه ثاني القوم الذي "أعلن الله به دعوة الصادق المصدوق، وفرّق به بين الفصل والهزل، وأيد بما قوّاه به من لوامع الطول، ومّهد له من منائح الفضل شواهد التوحيد وبّدد به مواد التنديد، فظهرت الدعوة، ورسخت الكلمة، فجمع الله بما منحه من الصولة ما نشأت لهم من الدولة. فعلت بالتوحيد أصواتهم بعدما تخافت، وتثبّتوا في أحوالهم بعد تهافت. غلب كيد المشركين بما ألزم قلبه من حق اليقين. لا يلتفت إلى كثرتهم وتواطيهم، ولا يكترث لممانعتهم وتعاطيهم، محتملا لما احتمل الرسول، ومصطبرا على المكاره لما يؤمل من الوصول، ومفارقا لمن اختار التنعم والترفيه، ومعانقا لما كلّف من التشمر والتوجيه. السكينة تنكلّ على لسانه. والحق يجري الحكمة عن بيانه. كان للحق مائلا، وبالحق صائلا، وللأثقال حاملا، ولم يخف دون الله طائلا"[5].

وليس مصادفة أن نراه يخاطب قريشا عندما قرر الهجرة إلى المدينة قائلا:"من أراد أن يثكل أمه، أو ييتم ولده، أو يرمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي!". وتعكس هذه الصورة شخصيته الواقعية في مواجهة الأحداث. بمعنى الانتقال المباشر والسريع دون الالتفات إلى الماضي و"قداسة" إي شيء فيه. فكما نراه يتقد بحمية الرغبة الجاهلية في قتل محمدا، نراه يعلن ولاءه للدين الجديد. بحيث يطالب النبي محمد قائلا: إذا كنا نحن (المسلمون) على الحق سواء كنا أحياء أو أموات فلماذا نخفيه؟ وعندما سمع الجواب بأنه لا معنى لإخفائه، عندها طلب بإخراج المسلمين للدخول علنا في المسجد. وهو فعل كان من الناحية الرمزية والواقعية أول ظهور علني وبصورة دعائية ومتحدية من جانب المسلمين في مكة. وعادة ما يربط اسم الفاروق بهذه الحادثة، استنادا إلى الرواية القائلة، بأن النبي محمد دعاه آنذاك بالفاروق لأنه كان يفرّق بين الحق والباطل ولا يخاف في الله لومة لائم. ومهما يكن من أمر هذه الرواية، فإن تفرقة الحق عن الباطل لا علاقة جوهرية لها بشخصية عمر بن الخطاب، لكنها تطابقت مع شخصيته في العرف الإسلامي بفعل الدور الذي مّيزه بوصفه "رجل الساعة". وليس اعتباطا أن تظهر آنذاك وبعدها عبارة "مازلنا أعزة منذ أسلم‏ ‏عمر"، و"استبشر أهل السماء بإسلام عمر". ذلك يعني أنه ربط في ذاته سمات العزة والاستبشار، بوصفها المكونات التي تعني من حيث الرمز والواقع وحدة الحاضر والمستقبل، والمادة والروح. وليس مصادفة أن يظهر الحديث النبوي القائل في مخاطبته لعمر:"والذي نفسي بيده ‏‏ما لقيك الشيطان قط سالكا ‏فجا ‏إلا سلك ‏فجا ‏غير ‏فجك".

لقد انتقل عمر في "أطوار الولاية"، وتمثل في شخصيته وذاته المسار المعقد للانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، ومما قبل الدولة إلى الدولة. ووجد هذا التحول صداه أيضا في التعبير الذي عادة ما يلازم الحكمة المتألمة من وجع الوجود، عندما ترسم على ملامح رجالها خطوط البكاء وملامح العيون الدامعة. وعندما أرادت الثقافة التقية لاحقا إدراجه ضمن كوكبة حكماءها، فإنها اختارت له صورة رسمتها بعبارة تقول:"كان في وجه عمر خطان أسودان من البكاء". ومن الممكن تأويل هذا الرسم على تلازم دموع الفرح والحزن، بأنه الوحدة المتناقضة لكل ثنائيات الحياة الضرورية من حياة وموت، وجميل وقبيح، وخير وشر. وهو تأويل يمكن القبول به حالما نطبقه على حياة عمر بن الخطاب بوصفه تاريخ الانتقال من سرّ الغيب الإسلامي إلى عالم الوجود الثقافي للدولة. وقد شحذ هذا الانتقال وهذّب حقيقة ما فيه. وفي مجراه تكشفت حقيقة الأبعاد الكبرى للتحول العاصف في صيرورة الإسلام والدولة والسلطة، أي كل ما كان يلازم وحدة الدولة والسلطة، والدين والدنيا.

فقد كان سلوكه الحاد والعنيف تجاه أخته فاطمة بسبب إسلامها، هو نفس ما ميز أسلوبه في التعامل مع فاطمة زوجة الإمام علي وبنت النبي محمد. فقد أدمى وجه الأولى بسبب إسلامها، وكسر أضلاع الثانية بسبب امتناعها عن مبايعة أبو بكر بالخلافة. والشبه الوحيد في هذا السلوك يقوم في سعيه لفطم سلوك المعارضة في مواجهة ما يعتبره حقا. وهو سلوك يشير إلى شخصيته وطبيعة تفكيره وفعله. إذ نعثر فيه على ما يمكن دعوته بالحمية الحامية في إرادته الفردية. ففي الأولى حمية الجاهلية وفي الثانية حمية الدولة. وهي حمية الشخصية الفاعلة بمعايير الرؤية العملية وضرورة تجسيدها مهما كلف الثمن. وضمن هذا السياق يمكن فهم سلوكه ومواقفه بعد اختيار أبو بكر للخلافة تجاه كل من عارض أو اعترض أو توقف أو اعتزل، عندما سعى لإجبارهم على المبايعة. فنراه يطالب أبا بكر، بأن يبايعه سعد بن عبادة[6] قائلا له"لا تدعه حتى يبايعك"[7]. كما نراه يذهب إلى بني هاشم لكي يجبرهم على المبايعة لأبي بكر بحيث نراه يأخذ الزبير بن العوام بالقوة[8]. كما نراه يخاطب عليا بعبارة: "انك لست متروكا حتى تبايع". بل نراه يكرر دعوته لأبي بكر لكي يجبر عليا على المبايعة قائلا له:"لا تمهل هذا المتخلف عنك بالمبايعة"[9]. بل نراه يطالب بقتل علي إذا رفض المبايعة، كما في قوله:

- إذا لم تبايع، فوالله الذي لا اله إلا هو نضرب عنقك!

- إذا تقتلون عبد الله وأخا رسول الله؟!

- أما عبد الله فنعم! وأما اخو رسول الله فلا![10]

ولم يكن سلوك الإجبار هنا سوى المظهر المتوتر والمعبّر عن إدراكه لقيمة وأولوية الدولة ومركزيتها بالنسبة للدين والدنيا. من هنا رغبته في إجبار الجميع على المبايعة والإقرار بضرورة الاعتراف بالدولة والسلطة المركزية. لهذا اعتبر من الممكن قتل "عبد الله"، أي "مواطن" الدولة الجديدة إذا كان ذاك ضروريا بالنسبة لإعلاء شأنها وهيبتها، بينما ترك المجال مفتوحا أمام علاقة "الأخوة" والقرابة. انه شدد على أولوية "عبيد الله"، بوصفهم أعضاء الأمة والدولة، واعتبرهم أفرادا مهما كان أصلهم ومنشئهم. وهي ممارسة تعكس فهمه لقيمة الدولة. وفي هذا الموقف نلمس إدراكه لمبدأ الدولة وأولويتها بالنسبة للدين والدنيا، ورفعه إياه إلى مصاف المرجعية الكبرى.

[1] القرآن: سورة البقرة، الآية 125.

[2] القرآن: سورة الأحزاب، الآية 53

[3] القرآن: سورة التحريم، الآية 5.

[4] الغزالي: التبرك المسبوك في نصيحة الملوك، ص291.

[5] الأصفهاني: حلية الأولياء، ج1، ص38.

[6] سعد بن عبادة (ت- 14 للهجرة)- اسلم مبكرا. وشهد بيعة العقبة وجميع الأحداث الكبرى في صدر الإسلام. سمي بالكامل لإتقانه السباحة والرمي. وهو أول من طرح فكرة أن يكون الأنصار خلفاء للنبي، بمعنى المشاركة الفعلية في إدارة الدولة وليس حصرها بمعايير القبيلة والمنشأ. لهذا نراه يرد في نهاية المطاف على محاولة إبعادهم عن السلطة بفكرة "منا أمير ومنكم أمير". وهي فكرة متناقضة بالنسبة لمركزية الدولة الضرورية، لكنها تعكس من حيث حوافزها وغاياتها إدراك أهمية المشاركة العامة.

يمكن اعتباره أول الشخصيات الحرة في الموقف من السلطة (الخلافة). إذ لم يؤيد البيعة لأبي بكر. وتنسب إليه العبارة التي خاطب بها أبا بكر:"والله لا أبايعكم أبدا". والتزم بها حتى النهاية. بل هو الشخص الوحيد الذي لم يبايع عمر بن الخطاب. وقد اضطر لترك المدينة والهجرة إلى الشام وتوفي في الطريق إليها(منطقة حوران) عام 14 للهجرة.

وبغض النظر عن حوافز معارضته للصيغة التي جرى بها اختيار أبو بكر ولاحقا عمر بن الخطاب لخلافة المسلمين، إلا أن ردود فعله المتجانسة في الموقف من أبي بكر وعمر بن الخطاب تشير إلى صلابة موقفه السياسي المعارض. فقد احتوت معارضته السياسية من حيث مقوماتها الداخلية على عناصر الرؤية التاريخية والحقوقية. بمعنى انه حاول تقديم أولوية أو أحقية الأنصار بالخلافة انطلاقا من دورهم السياسي والأخلاقي والاجتماعي والتاريخي في تثبيت أسس الدعوة الإسلامية وانتصارها. فانتصار الإسلام كان بمعنى ما مرتبطا وثيق الارتباط بالأنصار. وبالتالي فان تمثل فكرة أحقيته بالخلافة مبنية على رؤية ومبادئ لا علاقة لها بالقبيلة وقرابة الدم. وقد كانت تلك فكرة متطورة بحد ذاتها. لاسيما وان الأنصار كانوا من الناحية الفعلية القوة التاريخية للإسلام وقربانه البشري الأكبر. كما انه القربان الذي دفعه سعد بن عبادة في مجرى حياته الأخيرة أيضا عندما توفي وهو في طريقه إلى الشام، باعتباره احد أشكال الاحتجاج على السلطة. وليس مصادفة أن يقول عمر بن الخطاب عن موته:"قتله الله!". (ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج2، ص470). وهي عبارة لا مروءة فيها.

[7] ابن قتيبة: الإمامة والسياسية، ج1، ص16.

[8] الزبير بن العوام (ت- 36 للهجرة)- اسلم وعمره خمس عشرة سنة. من أوائل المسلمين (السبعة). هاجر للحبشة والمدينة. وشهد بدر وجميع غزوات النبي. كما ساهم في فتح مصر. ودخل مجموعة الشورى الستة. ويعكس في شخصيته كل تناقضات مجموعة الشورى التي وقفت إلى جانب خلافة عثمان بن عفان. وهو موقف أسهم من الناحية التاريخية والسياسية بتهشيم أسس الصيرورة الإسلامية السليمة وكينونتها الروحية، كما نعثر عليه بصورة جلية فيما أدت إليه خلافة عثمان من نخر أسس الدولة والأمة والفكرة الإسلامية الأولى ومبادئها الكبرى. وهو اختيار سياسي له مقدماته وغاياته. وليست حرب الجمل التي اشترك فيها الزبير بن العوام وقادها ضد خلافة علي بن أبي طالب سوى الوجه الظاهري لباطن رؤيته السياسية والأخلاقية. فقد غلبّ المصالح الضيقة على مصالح الدولة والأمة والحق. وحكم هذا التناقض حكم سلوكه السياسي المعارض لخلافة علي بن أبي طالب ثم اعتزاله الحرب ومقتله الذي كان يفتقد لكل المعاني الجليلة التي لازمت صيرورته الفردية والاجتماعية والإسلامية.

فقد قرر اعتزال القتال مع علي. وعندما قابله ابنه عبد الله بعبارة "جبنا جبنا"! فانه لم يجد فيها ما يستحق الرد. فمن المعروف عنه شجاعته وبأسه وبطولته في القتال والمعارك. إذ كان من فرسان قريش مقداما. كما كان غنيا كريما كثير الشمائل والفضائل. ويقال انه مات وهو كثير الديون لكرمه. كما كان مخلصا للدعوة الإسلامية. بحيث تنسب للنبي محمد عبارة عنه يقول فيها:"لكل نبي حواريّ. وحواريّ الزبير". والحواري بالعربية تعني ناصر الأنبياء أو الخالص، أو الخليل. وهي عبارة يمكن أخذها على علتها، لكنها تعكس موقعه الشخصي من النبي محمد. غير أن العبارة العابرة في تقييم النبي محمد لمن صحبه ليست صك الغفران الإسلامي ولا تحتمل معنى "الشفاعة" الأبدية. انطلاقا من أنها قيلت ضمن سياق الصراع وسباق الأحداث، شأن كل كلمة تقال في الأفراد أيا كان حجمهم وموقعهم في الوجود.

[9] ابن قتيبة: الإمامة والسياسية، ج1، ص18-20.

[10] ابن قتيبة: الإمامة والسياسية، ج1، ص21. وقد يكون هذا الموقف احد اشد الأشكال تطرفا وغلوا لأدراك قيمة الدولة. بمعنى إننا نستطيع تحسس الهاجس الخفي والعميق والكبير لفكرة الدولة في مواقف وشخصية عمر بن الخطاب. وهو أمر جلي في خضوعه الشخصي للخليفة الجديد. بحيث لم نسمع عن أية معارضة مهما كان نوعها، بل الاشتراك المباشر وغير المباشر في تحسين شروط فعلها وأداءها. ولم يكن هذا الاشتراك معزولا عن الرغبة المحتملة في احتلال موقع الخلافة بعد أبي بكر. لاسيما وان ترشيح أو استخلاف أبو بكر إياه قبيل موته احد الأدلة الواقعية والدقيقة بهذا الصدد. وهو أمر لا تخلو منه الحياة السياسية. فبعد موت النبي محمد لم يعد الإسلام إذعانا لله والدعوة الجديدة، بل إسلاما للدولة والأمة. فقد لازم هذا الانتقال الموضوعي تحول الإسلام إلى دين الدولة، أي أيديولوجيتها "المتسامية". أما عمر فقد طوعها بطريقة واقعية وسياسية خالصة. وقد يكون أكثر أشكالها جلاء بهذا الصدد هو الطابع الحاد المميز لشخصيته في اتخاذ القرار وتنفيذه، بوصفه احد شروط رجل الدولة الكبير. غير أن الخطأ ولحد ما الخطيئة التاريخية في سلوك عمر بهذا الصدد، يقوم في تحويل الحادثة التاريخية العابرة إلى مبدأ. إذ ارتبط هذا التحول بشخصية عمر بن الخطاب، الذي جعل من الإكراه مبدأ ضروريا لمركزية ووحدة الدولة والأمة. بحيث تحولت "المبايعة" لاحقا إلى عمل تقليدي ملزم للجميع. بمعنى جعل المعارضة أيا كان شكلها ومستواها "خروجا على الإسلام". وهو تناقض فض! إذ جعل من فكرته السياسية واجتهاده العملي جزء من العقيدة الدينية والإيمان القويم! وفي هذا يكمن التناقض القاتل لعبارة عمر المذكورة أعلاه وسلوكه العملي. إضافة إلى كمون الخطيئة والفساد الأخلاقي والسياسي فيها. وذلك لأنها أسست لما يمكن دعوته بحاجة الدولة إلى لسان كاذب وقلب خرب. وذلك لأن فكرة المبايعة بالطريقة العمرية أفرغت حرية الإنسان وفكرة الإرادة الحرة وحق الاختلاف من معناها. كما أعطت للسلطة وحدها ممارسة الإجبار بوصفه حقا، بينما جعلت من الاختلاف معها ومعارضتها خروجا على الإيمان ومروقا على الدين! مما أدى إلى جعل الإسلام والقهر السياسي للسلطة تجاه الأفراد والجماعات والأمة شيئا واحدا.

 

 

في المثقف اليوم