دراسات وبحوث

الأشباح والأرواح (20): بداية السلطة وتوظيف الوحي (1)

mutham aljanabi2إن الصيغة التاريخية والسياسية التي جعلت من عثمان بن عفان خليفة للأمة الناشئة ودولتها الصاعدة تبقى من بين أكثر الفصول الدرامية في التاريخ العربي والإسلامي. وسوف لن ينتهي هذا الفصل بسبب دوره الفاعل في انعطاف فكرة الدولة والسلطة والحق. مع ما ترتب عليه من موت مأساوي للخلافة الراشدة، الذي دفع الإمام علي ثمنه الباهظ. أما مقتل عثمان فقد كان اقرب ما يكون إلى عثرة لا قيمة لها بمعايير التاريخ المأساوي للدولة والثقافة. لكنه استكمل الشوط الآخذ في التراكم بالنسبة لصعود السلطة، وضمور الوحي، وغياب منظومة القواعد الضرورية لإدارة الدولة وتداول سلطانها.

فإذا كان وصول الخليفة الأول إلى السلطة "فلتة"، فإن استخلاف عمر كان نتاجا لاعتبارات وعلاقات شخصية. أما تسلم عثمان للخلافة، فقد كان الصيغة الأكثر بؤسا لفلتة العلاقات الشخصية. من هنا ضحالتها بالنسبة للقيم المتسامية، وتفاهتها المريعة بالنسبة للفكر السياسي والتاريخي. لهذا لم يتعد دمجه اللاحق في سلسلة الخلفاء الراشدين أكثر من محاولة بائسة لتبرير انتقال السلطة للحكم العائلي (الأموي)، الذي وضع عثمان تقاليده الفعلية. فقد كان عثمان من حيث الواقع والرمز والأصل والفصل والنفسية والشخصية الخليفة الأموي الأول.

إذ لا يمكن لشخصية رشيدة أن تتعرض للسحق والقتل بالطريقة التي تعرض لها عثمان بن عفان. لقد سحقته الجماهير الإسلامية التي لم تفطمها السلطة عن قول الحق والتمسك العملي به، كما ستفعل الأموية لاحقا. ومن ثم لم يرتق إلى مصاف "القيمة الروحية" إلا بالنسبة لأولئك الذين أصبح قميصه، ولا شيء آخر، بيرق الصراع من اجل السلطة. إذ تعكس هذه العلامة والرمز قيمته الفعلية بالنسبة للوعي السياسي والتاريخي آنذاك. كما أنها العلامة الرمزية التي سيجري لاحقا رؤية ملامحها الأولية في تضييعه لخاتم النبي محمد، التي جعلت المسلمين يتشاءمون لفقدانه[1]‏. بحيث جعلهم يقولون "إن عثمان لما مال عن سيرة من كان قبله كان أول ما عوقب به ذهاب خاتم رسول الله من يده". ومن الممكن فهم هذه الفكرة بمعايير الرؤية الإيمانية وذوق التخمين المناسب لها في تصورات العوام عن القضاء والقدر والإشارة والرمز في الوقائع والأحداث. لكنها رؤية كانت تسعى لتوكيد نتائج الأحداث. ومن ثم تبرير ملامحها التعيسة بوصفها عقابا إلهيا جرى التبشير به بصورة أولية في ضياع خاتم السلطة "النبوية"، بوصفها سلطة الحق والعدالة. والنتيجة لا يمكنها أن تكون شيئا آخر غير ضياع الارتباط الروحي بأصل النبوة وتقاليدها مهما كان الثمن المدفوع من اجل صنع نسخة منه. فالفرق يبقى جوهريا بين النسخة والأصل. وفي الحالة المعنية لا يمكنه أن يكون شيئا غير العقوبة التي تجّسد حالة الضياع الفعلي للسلطة والأمة في أشد الفتن وأقواها وأكثرها خطورة في تاريخ الإسلام. وفيما لو حاولنا تصوير ضياعه بمعايير الرؤية التاريخية الثقافية والسياسية، فإنه يعادل انكسار السلسلة "النبوية" في إحدى حلقاتها. ومن ثم انفراط وحدتها، الذي انتج مقدمات وبواعث الاختلاف العنيف والتنوع اللاحق في المواقف والآراء. ومن ثم ظهور التمايز الحاد بين السلطة والمثقف الإسلامي الجديد.

فقد كانت شخصية الصدّيق، من حيث موقعها التاريخي في صيرورة الدولة العربية الإسلامية، التمثيل النموذجي لنهاية الوحي وبداية الدولة. لهذا كان يعي نفسه باعتباره حلقة في سلسلة الحق دون أن يفقده ذلك لمعانه الخاص فيها بوصفه خليفة النبي محمد. لكنه لم يتحسس هذه الخلافة ويدركها بمعايير الهرمية، بل بمعايير القرب من مثالها والسعي لتجسيدها وتحقيقها بالقدر الذي تبقى فيه النفس ونياتها عارية أمام البصر الإلهي، أو الضمير الحي. لهذا عاش بأعلى درجات الزهد والتقشف ممتلئا بصدق الإخلاص لفكرة الحق والدولة الشرعية. وفي هذا كان يكمن المضمون الفعلي لفكرته عن الرشاد في إدارة شئون الأمة والدولة. كما انه النموذج الأولي الذي تركه لخلفه اللاحق.

أما شخصية عمر بن الخطاب فقد تكاملت مع تكامل الفكرة الإسلامية وانتقالها من الغيب اللاهوتي إلى تاريخ الدولة. حيث تمثلت شخصيته معالم الانتقال الكبرى من الفكرة المجردة إلى الواقعية، ومن الوحي المقدس إلى التأويل السياسي. وبهذا يكون قد جّسد بداية الصيرورة الثقافية للدولة والسلطة، التي حقق مثالها بمعايير الوحدة الإسلامية للدين والدنيا. من هناك غياب المعارضة الفكرية والروحية غيابا تاما. لكنه كان أكثر من صنعها عبر تأسيسه لمرجعية الدولة والسلطة المحكومة بمعايير العدل والحق السياسي ونموذجها الروحي في وحدة الدين والدنيا.

وقد وقف عثمان أمام هذه النتيجة. ومن الممكن القول، بأنها كانت تحتوي على "مشروع" قتله اللاحق، لأنها كانت تحتوي على مكونات تصرع ما فيه من رقة ورخاوة وضعف. وهي صفات لم تكن مجهولة لمن وضعه ضمن قائمة الشورى. وبهذا المعنى يمكننا القول، بأن سلفه قد وضعه أمام مطرقة الخلافة واستحقاقاتها الدينية والدنيوية، وسندان الضعف الشخصي. وكلاهما كانا يطرقان عجينة عثمان الشخصية بطريقة لا تنتج غير أصوات شاذة لم يعد الرجل معها قادرا على الاستماع إلى أصوات المعارضة وأنغام الاحتمالات القائمة فيما يمكن أن تؤول إليه الأمور. ولم تكن هذه الحالة معزولة عن شخصيته وعن الحالة التي ميزت الدولة الناشئة ومرجعيات وجودها المادية والمعنوية.

فقد تبلورت شخصية عثمان بين يسر التجارة وعسر المرارة المتراكمة في نهمها الغريزي الشره. كما أنها حالة ملازمة للمهنة. ومن ثم فإن معاناتها هي معاناة الكمية النهمة. وتبقى ما بقيت جزء من نفسية وذهنية حاملها. بل أنها حاملة وجوده المادي والمعنوي. فإسلامه لم يكن نتيجة لمعاناة عسيرة في الروح والجسد، ولم تكن أيضا نتاجا للبحث عن مخرج من نفق "الوثنية" ولا لحاجة سياسية. إننا لا نعرف بالضبط مكنونها الدفين، لكننا نعرف مظهرها العام. إننا نعرف كيف انه أسلم وهو في عمر تجاوز الثلاثين. وكان نتيجة لدعوة أبي بكر إياه إلى الإسلام فأسلم. وكانت هذه الدعوة اقرب إلى المحادثة الشخصية والعابرة. فقد عرض أبو بكر عليه الإسلام، كما تنقل الروايات التاريخية قائلا له:

- ويحك يا عثمان! إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل. هذه الأوثان التي يعبدها قومك، أليست حجارة صماء لا تسمع، ولا تبصر، ولا تضر، ولا تنفع‏؟‏

- بلى! إنها كذلك!

- هذا محمد بن عبد الله قد بعثه الله برسالته إلى جميع خلقه، فهل لك أن تأتيه وتسمع منه‏؟‏

- نعم‏!

وفي هذا اللحظة مر النبي محمد فقال لعثمان:"يا عثمان! أجب الله إلى جنته، فأني رسول الله إليك وإلى جميع خلقه!". عندها فال عثمان "فوالله ما ملكت حين سمعت قوله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله!". وفي حال قبول هذه الصيغة "المقدسة" لإسلام عثمان، فإننا نقف بذلك أمام إسلام لا معاناة فيه وقبله. وقد تكون المعاناة الوحيدة هي ما تورده كتب التاريخ والسير عن الكيفية التي أخذه بها عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية عندما عرف بإسلامه. بحيث أوثقه برباط وقال له:

- أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث‏!‏ لا أخليك أبدا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين!

- والله لا ادعه أبدا!

وجرى تصوير هذا الرد على انه نموذجا "للصلابة في الدين"[2].‏ لكنها كانت في الواقع اقرب إلى الرخاوة. وذلك لأن مجرد فسح الرجل وهو في عمر تجاوز الثلاثين وغني الثروة أن تتعامل معه الأعمام بهذه الطريقة هو مؤشر على رخاوة قد لا تتعارض مع "الصلابة في الدين"، بمعنى التمسك بفكرة أو عقيدة أو عادة. لكنها تحتوي على ما فيه من استعداد للانقياد سوف يظهر في وقت لاحق ويصبح موضوعا لتجريمه ومعاقبته من جانب المنتفضين والرافضين لحكمه وأسلوبه في قيادة الدولة. ولم تكن هذه النتيجة معزولة عن نوعية إسلامه. بمعنى خلوها من المعاناة الشخصية العميقة. لاسيما وأن إسلامه كان أقرب ما يكون إلى نزهة تكللت، كما يقول عثمان نفسه، بزواجه من رقية بنت النبي محمد. بحيث قيل لاحقا "أحسن زوجين رآهما إنسان، رقية وعثمان". وهو سجع اقرب إلى سجع إسلامه.

 أما الصور اللاحقة التي حاولت أن تعطي لعثمان بعدا متمثلا لفراسة الفارس الروحي فهي من صنع الخيال اليتيم ليتامى الخيال! وينقل لنا ابن سعد في (كتاب الطبقات) صورة عن "رؤيته" المستبقة لإسلامه. ففيها يقول للنبي محمد:"يا رسول الله! قدمت حديثا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام إذا مناد ينادينا‏:‏ أيها النيام! هبّوا فإن أحمد قد خرج بمكة! فقدمنا فسمعنا بك!". هكذا ببساطته المعهودة. انه لم يسمع بمحمد وهو الذي يعيش بينهم لعقود طويلة، كما لو أنه بقي يتيما في صحراء الربع الخالي! ومهما يكن من أمر هذه "الرؤية"، فإنها تعكس في الواقع خلو التاريخ الشخصي لعثمان عما يمكنه أن يكون مادة للخيال الديني في صنع صوره الخلابة لذوق العوام.

وليس مصادفة أن تكون "فراسته" ما قبل الإسلام متساوية من حيث القيمة لفراسته الوحيدة التي تنقلها لنا كتب السير والتواريخ عن الحادثة التالية، التي تحكي لنا عن دخول رجل عليه فخاطبه عثمان قائلا:

- يدخل علي احدكم والزنا في عينيه!

- أوحي بعد رسول الله؟!

- لا! ولكن فراسة صادقة!

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة وحيدة من الفراسة الصائبة حالما تتفحص وجود الزناة ودعارة المسلمين الخفية! وقد تكون الحادثة فعلا لا خيال فيها. لكنها تعكس أولا وقبل كل شيء فراسة عثمان الصغيرة، المحصورة بسفاح الرجال. ومن المكن العثور على هذه الفراسة عند سماسرة المومسات! ‏وليس مصادفة أن يستغرب الرجل مطالب أولئك الذي قطعوا مسافات شاسعة بين مصر والعراق والحجاز من اجل إرغامه على التخلي عن الخلافة أو القتل. وقد جرى وضع هذه الحالة في "كرامات عثمان". بمعنى تحول "كراماته" إلى جزء من نفسية التعويض عما تعرض له الرجل، كما نراها على سبيل المثال في القصة التي تروى عما أصيب به (جهجاه) من الأكلة (الحكة) في رجله، لأنه كان احد الذين اشترك في الهجوم على عثمان، وكسر عصا الخليفة على ركبتيه! كما أن هناك حكاية مروية عن "كرامة" أخرى تتحدث عن سماع أحد الرواة (أبو قلابة) كيف أنه سمع صوت رجل يقول‏ "يا ويلاه النار!". وعندما نظر إليه وجده مقطوع اليدين والرجلين، أعمى العينين، منكبا لوجهه! وعندما سأله عن حاله، أجاب الرجل "إني قد كنت ممن دخل على عثمان الدار، فلما دنوت منه صرخت زوجته فلطمتها!". عندها قال لي (عثمان) "‏ما لك؟! قطع الله يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار!". "فأخذتني رعدة عظيمة وخرجت هاربا فأصابني ما ترى ولم يبق من دعائه إلا النار!".

مما سبق يتضح حجم وعدد وطبيعة "الكرامات" المزيفة. والقضية هنا ليست فقط في أنها كرامات "الانتقام" ممن انتفض ضده وهاجمه، بل وفي ضعفها الجلي حالما نضعها على محك الرؤية العقلية والواقعية والأخلاقية. إذ لا كرامة في الأولى. بل على العكس. إن الكرامة في كسر العصا، وذلك لأنها أداة لا ينبغي أن يتعامل بها إنسان مع إنسان، وخليفة مع أمته! أما الثانية فإنها "شهادة زور" لا يقوم بها رجل على نفسه. لاسيما وأن سلوك المنتفضين كان محكوما بفكرة إسلامية كبرى تقوم في انه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".

ذلك يعني، أن تأريخ "الورع" اللاحق لم يفلح في إيجاد ما يمكنه أن يكون كرامة فعلية كبرى فألحقها بإيديولوجية الاتهام اللاهوتي التي ميزت مساعي وأكاذيب الأموية الأولى للاستيلاء على السلطة. وذلك لأن حقيقة الكرامات أعمال تاريخية كبرى لها أبعاد جليلة بالنسبة للدولة والأمة والعقل والأخلاق والروح الإنساني. وكلها مكونات لم تكن موجودة في الأعمال "الجليلة" التي اقترفها عثمان وكوّنت مرحلة الانتقال العاصفة من حكم الراشدين إلى ملوكية العائلة والوراثة المنوية. أما جعل الانتقام والتشفي كرامة فهي الصيغة الموازية لتحويل دمه وقميصه إلى بيرق القوى المتعطشة للدماء والسلطة. وهي نتيجة لم تكن معزولة عن شخصيته الرخوة والمفتعلة. لهذا لم ينقذه كونه "أحد العشرة المبشرين بالجنة‏"، ولا كونه "كان أعلم الصحابة بالمناسك". فكلاهما من ولع الكسب المباشر لمرحلة صدر الإسلام ومعترك تثبيته في الواقع والخيال. والشيء نفسه يمكن قوله عما يسمى باختصاصه في كتابة الوحي. وجرى رفع هذه الصورة إلى مصاف المقدس عندما كان يقول له النبي محمد:"اكتب يا عثيم!". كما جرى وضع هذه المطالبة في الفكرة القائلة، بأنها منزلة "شخص لا يمكنه أن يكون إلا كريما على الله ورسوله". لكننا نعرف وجود من كتب الوحي وهو في أدنى درجات الخسة والرذيلة. وليس اعتباطا أن يرى الجاحظ لاحقا في الكتّاب نموذجا للانسلاخ عن الورع والصدق والأمانة. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى الأحاديث المنسوبة للنبي محمد مثل "‏اللَّهم إني رضيت عن عثمان فارض عنه"، و"‏عثمان أحيا أمتي وأكرمها‏"، و"‏عثمان في الجنة"، و"‏عثمان رفيقي معي في الجنة"، و"‏عثمان حيي تستحي منه الملائكة" على أنها أحاديث عادية يمكن رؤية بواعثها المباشرة في طبيعة ومستوى المواجهة التي تعرض لها النبي محمد في بداية الدعوة.

ففي تلك المرحلة كانت ابسط الأعمال والمواقف ترتقي إلى مصاف "الجود الإلهي" مثل حفر بئر وشراء طعام وماء. وهي أفعال كانت تجود بها نفسية عثمان الكريمة بوصفها أيضا جزء من تقاليد الكرم والجود العربية. وليس مصادفة فيما يبدو أن يعجز أبو نعيم الأصفهاني وهو المتمكن في بلورة الحد الأقصى للأبعاد الروحية في تاريخ الأولياء أن يقف معقوف اللسان في رسم صورة جذابة عن عثمان بن عفان. لهذا نراه يكتفي بالقول:"عثمان بن عفان، وهو ثالث القوم القانت ذو النورين، والخائف ذو الهجرتين، والمصلي إلى القبلتين"[3]. ولا معنى لهذه الصورة لغير حركة الجسد مرتين باتجاه نساء، ومرتين باتجاه جهات، ومرتين في الصلاة. كما انها تخلو من مثالية وتميز وأصالة يمكنه أن يجعلها قيمة بذاتها أو فضيلة.

غير أن الأمر يختلف فيما يتعلق بالأحاديث الموضوعة مثل "‏عثمان وليي في الدنيا والآخرة، و"‏غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة"، و"‏رحمك الله يا عثمان ما أصبت من الدنيا، ولا أصابت منك"، و"‏يا عثمان إنك ستبلى بعدي فلا تقاتلن". فقد كانت مهمة هذه الأحاديث إعادة تركيب صورته بطريقة تجعله جزء من المستقبل. بينما لا مستقبل في شخصية عثمان بن عفان. وفي هذا تكمن كل دراما الموت التعيس الذي واجهه وهو في أوج ما لم يحلم به. وقد يكون هو السرّ الذي جعله يفضل الموت على التنازل عن السلطة وهو في هرم الشيخوخة.

لقد واجه عثمان بن عفان موته بلا بطولة ولا فروسية، خاليا من أي تحد أو استعداد للتضحية. فقد كان موته مجرد تجارة صغيرة لا قيمة لها. من هنا لم يكن بإمكانها ألا تكون بضاعة رخيصة بأيدي قوى ارخص منها عندما ننظر إليها بمعايير الرؤية الأخلاقية والمستقبلية. وبالتالي، فإن الأحاديث الموضوعة عن الولاية والغفران الأبدي والشهادة ليست إلا الصيغة الأيديولوجية للغنيمة الأموية. وإلا فإن مجرد كونه "من العشرة المبشرين بالجنة" تكفي بحد ذاتها لكي تكون صك الغفران الأبدي. ومن ثم لا معنى للولاية والشهادة وما شابه ذلك. وذلك لكونه تعارض كان يمكن حله بسفسطة القضاء والقدر اللاهوتية. غير أن للتاريخ منطقه الشديد والواقعي. وحالما يحدث، حينذاك يمكن رفعه بسهولة إلى مصاف الأزل. أما في حالة عثمان، فقد تحولت هذه السهولة الممتعة للعقل البليد إلى معضلة عصية. إذ كيف لمن كان من المبشرين بالجنة أن يقتل بتلك الطريقة الشنيعة على أيد مسلمين مؤمنين شعارهم الحق ورايتهم الاقتصاص لله والأمة من انحراف شخصي وسياسي جلي للحس والعقل والضمير؟

 وقد كان الجواب سهلا مثل حياته وموته: انه الحلقة الثالثة في سلسلة الخلافة الراشدة. ومن ثم فهو من ثالث القوم وثالث الخلفاء الراشدين! لكنها حلقة شكلية، إذ لا مضمون فيها يمكنه الارتقاء إلى مصاف القيمة المتلألئة ما وراء التاريخ الواقعي بالنسبة للوعي التاريخي والضمير الإنساني والعقل النقدي. وذلك لأن الصورة الجليلة تفترض نوعا من الموازاة الممكنة بين الحياة الفعلية ومآثرها التاريخية. فالصورة الجذابة للشخصية التاريخية تتلون بألوان الأشعة الكامنة في تجاربها الفردية ومستوى تمثلها في الأقوال والأعمال، أو في الإبداع الشخصي وخاتمته. وحالما نضع هذه المقدمة في أساس الموقف من شخصية عثمان، فإننا نقف أمام صورة باهتة وشاحبة باستثناء ما كان يتلون به في مظهر لحيته المخضبة بالحناء وأسنانه الذهبية وملابسه المزركشة وطلعته الجميلة وحياءه وأدبه وكرمه. ولا علاقة لهذه الصفات بمكونات الشخصية التاريخية لأنه يمكن العثور عليها بين اشد الشخصيات انحطاطا وجهالة.

وليس مصادفة أن تضع كتب التاريخ والسير "المؤدبة" و"المهذبة" كرمه وبذله الأموال في سبيل الدعوة الإسلامية باعتبارها أعلى فضائله العملية. فقد اشترى بئر رومة في عقيق المدينة من اليهود بعشرين ألف درهم وتصدق بها للمسلمين. كما قام بتجهيز جيش العسرة. إذ جهَّز ثلث الجيش بتسعمائة وخمسين بعيرا وبخمسين فرسا‏.‏ وقد كانت تلك بالفعل نفقة لم يقم بها قبله أحد من المسلمين. بل قيل انه جاء بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجر النبي محمد، عندها قال النبي:"‏ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم‏". وهو سلوك يشير إلى ثروة عثمان الكبيرة وكرمه الفعلي. وقد لازمته هذه الصفات مدى الحياة. بحيث طبعت سلوكه السياسي. بما في ذلك توزيع الأراضي والثروات والمناصب على أقرباءه وأصدقاءه. وهو سلوك لا علاقة له بفكرة الدولة بقدر ما يعّبر عن شخصيته الخاصة وفعل الثروة العميق في بلورة أخلاقه العملية، كما نعثر عليها حتى في موقفه من الأكل. فقد نقل عنه عمرو بن أمية الضُمري القصة الطريفة التالية، قال‏:‏ كنت أتعشى مع عثمان خزيرا (نوع من الطبخ) من أجود ما رأيت، فيها بطون الغنم وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان‏:

- كيف ترى الطعام‏؟

- هذا أطيب ما أكلت قط!

- يرحم الله ابن الخطاب! هل أكلتَ معه هذه الخزيرة‏؟‏

- نعم! فكادت اللقمة تفرث بين يدي حين أهوي بها إلى فمي وليس فيها لحم! وكان أدمها السمن ولا لبن فيها!

- صدقت! إن عمر أتعب والله من تبع أثره!!

ذلك يعني أن عثمان ظل يعيش بمقاييس حياته العادية وليس بمقاييس الخلافة الرشيدة. لهذا كانت ثروته بعد مقتله حوالي ثلاثين ونصف مليون درهم (عند خازنه)، وحوالي مائة ألف دينار (نقدا)، وألف بعير، وصدقات بحوالي عشرة ملايين دينار!! بينما مات أبو بكر وعمر بلا شيء على الإطلاق. فقد تحسس هذا التعارض، لكنه كان عاجزا عن العمل بمقتضاه. مما يعكس اختلاف طبعه وتطبعه من جهة، ونوعية التحول العميق في صيرورة الأفراد والجماعات والعلاقات، الذي استتبع تحول الخلافة إلى إمبراطورية، وارتقاء السلطة الروحية إلى دولة لها "منطقها" الخاص في التطور وإفراز قواها وتياراتها واتجاهاتها المتصارعة، من جهة اخرى. فسيرته الشخصية ما قبل الإسلام لا تتعدى التجارة والمتاجرة. وما بعده لم تحتو على أي قدر من الصفات التي تشير إلى نوعية الشخصية القادرة على مواجهة الصعاب والتحديات. وقد تكون المعاناة الوحيدة هي هجرته إلى الحبشة. فقد هاجر إلى أرض الحبشة مع زوجته رقية، فكان أول مهاجر إليها. ثم تابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة[4]‏. ولا يخلو هذا الفعل من بطولة بمعايير ذلك الزمن، لكنها أقرب إلى بطولة الاختباء والهروب. ولم يكن ذلك معزولا عن شخصيته اللينة وهدوءها الباطني وطابعها المسالم. وليس مصادفة أن يكون دوما من المتخلفين أثناء المعارك. فقد تخلف عن غزوة بدر وهرب في معركة احد. بحيث عيّره بها أبو عبيد الجراح أو على الأقل انه قال له في إحدى مشاجراته معه:

- يا عثمان تخرج عليَّ في الكلام وأنا أفضل منك بثلاث.

- وما هن‏؟‏

- الأولى إني كنت يوم البيعة حاضرا وأنت غائب، والثانية شهدت بدرا ولم تشهده، والثالثة كنت ممن ثبت يوم أحد ولم تثبت ‏أنت‏.

- صدقت! أما يوم البيعة فإن رسول الله بعثني في حاجة ومدَّ يده عني‏.‏ وأما يوم بدر فإن رسول الله استخلفني على المدينة ولم يمكنني مخالفته، وكانت ابنته رقية مريضة واشتغلت بخدمتها حتى ماتت ودفنتها‏.‏ وأما انهزامي يوم أحد فإن الله عفا عني وأضاف فعلي إلى الشيطان‏". ثم استشهد بالآية (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم).

‏ بعبارة أخرى لقد جرى تبرير غيابه في بيعة الرضوان ومعركة بدر بصورة مقبولة نسبيا وذلك لتزامنها مع ما كان ينقذه على الأقل أمام الكلمة ومظاهر الأحداث ولحد ما الضمير المتراخي في نعيم الثروة وطيبة القلب. فقد كان تخلّفه عن الاشتراك في معركة بدر مرتبطا بمرض زوجته رقية، حيث أذن له النبي محمد بذلك. وترافق موتها مع انتصار المسلمين في المعركة، فجعله من المشتركين فيها بحيث ضرب له سهمه وأجره فيها، ومن ثم حصوله على حصته من الغنيمة واعتبروه بدريا. وهو فعل يمكن رؤية الأبعاد الرجولية والإنسانية الرقيقة فيه، لكنه فعل بلا فروسية. كما أن تخلّفه عن بيعة الرضوان كانت بطلب من عمر بن الخطاب الذي اقترح إرسال عثمان عوضا عنه إلى مكة لأنه لا ظهير له فيها على عكس عثمان، الذي وجد فيه رجلا مقبولا من جانب قريش بشكل عام وآل سفيان بشكل خاص[5]. أما هروبه في معركة احد، فهي المحك الفعلي لشخصيته. بمعنى أنه سلك هنا السلوك الطبيعي المناسب لما في أعماقه وشخصيته. فالرجل لم يكن فارسا ولم يكن شجاعا ولا متمرسا في القتال. وليس من سبب يدعوه لأن يكون مقاتلا وفارسا بالضرورة. غير أن الشجاعة ليست صفة عضلية، بل شخصية ونفسية وذهنية وأخلاقية. من هنا يصبح فقدانها نقصا جوهريا في الرجال وبلأخص زمن رئاسة الدولة. فانعدامها عادة ما يجعل من ضعف الشخصية مرتعا للرذيلة والجبناء، ومن تاريخ الدولة زمن السلطة.

تعكس الصور والحالات المذكورة أعلاه طبيعة ومضمون الصورة الفعلية لعثمان بن عفان وشخصيته، أي الصورة المعبّرة عن تاريخه الواقعي وليس اللاهوتي. وفي الواقع، لا نعثر على تمايز كبير بينهما. والسبب في ذلك يقوم في أن تاريخه الواقعي عادي للغاية، بمعنى أنه تاريخ بلا مآثر بطولية و"معجزات" يمكن أن تلهب العقل والضمير، ومن ثم ضعف قدرتها على شحذ الذاكرة والخيال في إبداع ما يمكنه أن يرتقى إلى مصاف "السماء" و"سر الغيب". وليس اعتباطا أن تسجل في مآثره أيضا زيادته وتوسيعه للمسجد النبوي والمسجد الحرام وكذلك تحويل الساحل الذي اعتاد عليه أهل مكة من منطقة الشعيبة إلى منطقة جدة. وهي إجراءات عادية، لكنها تصبح مقبولة في سلة "المآثر" مازالت المآثر قليلة فعلا.

والشيء نفسه يمكن قوله عما يسمى بالأوليات، أي أول ما قام به في تاريخ الخلافة والأمة. حيث أدرج فيها مجموعة من الإجراءات والأحداث قد يكون أهمها من الناحية التاريخية والثقافية هو ما يسمى بجمع الناس على حرف واحد في القراءة. والمقصود بذلك جمع القرآن وقراءته بطريقة موحدة. غير أن هذا الانجاز الهائل لم يكن من إبداعه الشخصي بقدر ما ارتبط بزمنه. بمعنى أنه كان جزء من تاريخ القرآن وتطور الإدراك الذاتي العربي الإسلامي بضرورة جمع القرآن بوصفه "كتاب الله". إذ لم يكن هذا الجمع معزولا من حيث مقدماته وأسلوبه وغاياته عن آلية فعل الدولة المركزية وسعة انتشارها ومتطلبات توحيدها الروحي والعقائدي. أما الانجازات الفعلية التي ارتبطت بإرادته السياسية ورؤيته باعتباره أول من قام بها وادخلها في ذهنية وذوق الدولة والسلطة والأمة فهي "قطع القطائع"، و"نخل الدقيق"، و"رزق المؤذنين"، و"اتخاذ صاحب شرطة"[6]. وتعكس هذه المبادرات الأولويات عند عثمان. بمعنى التركيز على توزيع الأرض وشراء ذمم المؤذنين وتوسيع دائرة التجسس والتنظيم الشرعي للمطاردة. ومع أنها جزء من آلية الدولة، إلا أن تراكمها في أولوياته السياسية يكشف عن طبيعة التحول النوعي في الموقف من السلطة.

وحاول توظيف هذا التحول من اجل أن تكون السلطة أداة قائمة بحد ذاتها. مما أدى إلى قلب العلاقة المتراكمة في خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب تجاه السلطة من خلال جعل السلطة كيانا قائما بذاته وفوق كل اعتبار آخر. فقد كانت خلافة الصدّيق تجسيدا لمرحلة الانتقال من دولة النبوة إلى الدولة السياسية. من هنا دراما تأويل النص القرآني والسلطة. فقد جعلت هذه العملية الاجتهادية من الوحي مصدرا متساميا وواقعيا. بينما دفعها عمر بن الخطاب إلى الأمام من خلال إعلاء شأن الدولة ومؤسساتها، أي من خلال رفع وحدة الدولة والسلطة إلى مصاف المرجعية التي توازي وحدة الدين والدنيا. وهو استمرار كان يصعب على عثمان تحقيق اليسير منه. من هنا تعاظم التشوه الفعلي في مكونات الدولة والسلطة، والدين والدنيا. بمعنى تعاظم الخلاف والتشوه في الموقف من كمية ونوعية المرجعيات الخفية والعلنية المتراكمة في الوعي السياسي والأخلاقي الإسلامي قبل صعوده إلى سدة الحكم. من هنا بروز أولوية توظيف الوحي (الدين) في كل ما يمكن أن تصل إليه الأيادي وتنطق به الألسن. لاسيما وأن الدولة لم تستطع آنذاك بعد أن تؤسس لقواعد عمل السلطة ونظامها على أسس شرعية وواضحة المعالم.

***

 

ا. د. ميثم الجنانبي

........................

[1] يورد الطبري هذه القصة بالشكل التالي:" فقد استلم الخاتم الذي جرى تصنيعه للنبي محمد عندما أراد أن يكتب إلى غير العرب كتبا يدعوهم إلى الإسلام. عند ذاك قالوا له، بان الأعاجم لا يقبلون كتابا إلا مختوما‏.‏ عندها طلب بان يعملوا له خاتم من فضة. وكان نقشه ثلاثة أسطر تحمل كلمات محمد ورسول والله. ولما استخلف أبو بكر ختم به‏.‏ ثم ولي عمر بن الخطاب فجعل يختم به. وعندما صار إلى عثمان فتختم به ست سنين. لكنه أضاعه في بئر كانت قليلة الماء عندما جاءه ذات يوم فقعد على رأسه يعبث بالخاتم، فسقط من يده في البئر. ولم تفلح محاولات البحث عنه، بحيث نراه يوعد الذي يعثر عليه بجائزة كبيرة ولكن دون جدوى. وقد اغتم عثمان لذلك غما شديدا، فلما يئس منه صنع خاتما آخر على مثاله ونقشه، فبقي في إصبعه حتى قتل. ثم ضاع هذا الخاتم ولم يعلم من أخذه" (الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 2، ص 614، ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 9.)

[2] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 119.

[3] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج1، ص55.

[4] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص120

[5] الذهبي: تاريخ الإسلام، ج1، ص 253. ‏

[6] السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص131.

 

 

في المثقف اليوم