دراسات وبحوث

في ملكوت القرآن.. إطلالة على أجواء الإيمان

مجدي ابراهيمالأصل في فهم القرآن هو "التدبر"، وليس الأصل فيه تسطيح المفهوم؛ لأن فهم القرآن أولى وأحرى بالاهتمام من أن يجيء جرس اللفظ وحسن الصوت عالياً على المعنى بغير أن يكون هناك إدراك للعوامل الداخلية التي سببت ارتفاع الصوت وحُسْنه أو جرس اللفظ وحلاوته، فما يكون في خارج اللفظ ليس هو في الحقيقة ما يكون في داخله، إذا تَسَطحتَ معنا المفاهيم وغابت دلائل التدُّبر المنشود في معناه وفحواه.

والذي يقرأ القرآن على التؤدة والتمهل يأخذ منه نصيباً من الفهم على قسطاس الحضور والتدبر؛ فتتلاشى شيئاً فشيئاً عنده أنصبة التسطيح للمفاهيم التي ينساق فيها وراء جرس اللفظ وتواجد الوقع. وليس معنى هذا أن جرس اللفظ لا معنى له وأن تواجد الوقع لا فائدة من ورائه، كلا بل في هذا وذاك كل الفائدة وكل المعنى إذا جاءت ثمراته في مراحل تالية على المرحلة التي لا بد فيها من فهم التدبر للمعنى: كيف جاء على رقي النموذج الذي يدركه القارئ، ومتى أصابت منه قواه الداخلية سبَّبت مثل هذا الوقع المتواجد حلاوةً في اللفظ وفي المعنى على حدٍ سواء؛ فموسيقى الألفاظ الناشئة إنما هى حلاوة معنى مُدْرك مَرَدَّها إلى فهم وتدبر, أو هكذا ينبغي أن تكون في ملكوت القرآن.

على أن التدبر ليس مجرد كلمة عابرة، ولكنه استعداد لفهم أكبر قضية وأشرفها من قضايا الغيب (الإيمان)، فيها فضائل العلوم والأسرار، وفيها الفتوحات الإلهيّة والتنزلات الصمدانيّة، فيها أعلى أنواع الاستعداد لتلقي المعرفة عن الله بالمباشرة، وفيها الكشف عن وجه الحق في كل موهوب لا مكسوب، وفيها أسرار الحق المبثوثة في ظوهر الموجودات وباطنها وحكمها الساري قدراً على الأشياء.

التدبر، معرفة، وإحاطة، وإطلاع، وحضور. والتدبر تأمل في آي الذكر الحكيم. والتأمل في القرآن هو الذي يُقصد لذاته وليس المقصود القراءة لمجرَّد القراءة؛ فقراءة القرآن دون تأمل وتدُّبر نقصٌ شنيعٌ يربأ عنه العارفون بالله هو ذلك النقص الذي يطلبه القلب اللاهي عن فهم معاني القرآن:" أفلا يتدبَّرون القرآن أم على قلوب أقفالها".

من أجل ذلك؛ لا تجدي نفعاً قراءة القرآن بقلب لاهٍ، وإنما جدواه الحقيقية النافعة هى أن يكون قارؤه على طريقة من الإدّكار الفطن تدبُّره، ولا يقف على معناه واقف كائناً ما كان إلا بمقدار ما يفتح الله به عليه من عرفان الأسرار التي هى من عند الله لا من عند هوى النفس البشرية؛ لأن أهواء النفس البشرية قاصرة عاجزة لا تدرك حقائق العرفان بمحض إرادتها، وإنما الإرادة الفاعلة - لا هوى الأمنية - تدرك تلك الحقائق بمحض الموهبة الإلهية المُفَاضَة فتحاً مُبيناً من عند الله.

وللتدبُّرِ في أي الذكر الحكيم جلال وجمال: الجلال منه مهيب، رهيب، مُخَوِّف، قهَّار. والجمالُ فيه: مرغوب، مُحَبَّبٌّ، مُرَجَّى، غفار وستار. والنفس الإنسانية بين حالين في تدبرها، حالة كونها خائفة، وحالة كونها راجية. وفي سورة الإنعام على سبيل المثال لا الحصر آية تدعو إلى جلال التدبر يهتزُ لها الشعور هزات نابضة بالجلال الرهيب المهيب في قوله تعالى:" قُلْ تعالوا أَتْلُ مَاَ حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيْكُمْ أَلَا تُشْرِكُوا بهِ شَيئاً، وبالوالدين إحْسَاَنَاً، وَلاَ تَقْتِلُوا أَوْلَادَكُم مِنْ إمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقَكُم وَإيَّاهُم، وَلَا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَاَ بَطَنَ، وَلاَ تَقْتِلُوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بالحَقِ ذَلِكُم وَصَّاَكُم به لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ. وَلاَ تَقْرَبُوا مَاَلَ اليَتِيمِ إلَّا بالَّتي هىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشَدُّه، وأوْفُوا الكيْلَ والميزانَ بالقِسْطِ لاَ نُكَلِّف نَفْسَاً إلاَّ وسْعَهَا، وإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلوا وَلَو كانَ ذَا قُرْبَي وبعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلكم وصَّاَكُمْ به لَعَلَّكُم تَذَكَّرُون. وأنَّ هذا صِرَاطي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوه, ولا تتبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكم عَن سَبِيلهِ, ذَلكُم وَصَّاَكُم به لَعلَّكم تَتَّقُون".

فما حَرَّم ربنا علينا إنما هو قضايا خمس كلها من كبائر الموبقات والذنوب إذا اقترفها إنسان, كان كمن يرتكب الكبيرة. ولا شك أن قوة "المنع" عن ارتكاب الكبيرة من إنسان يرتكبها لا بد وأن يتوافر فيه زاجر أقوى من كل قوة هو زاجر التوفيق في الإيمان؛ فلا إيمان بغير أن يكون هنالك زاجرٌ عن المعاصي والذنوب. ومعلومٌ أن الإيمان مكانهُ القلب، والقلب الفارغ من الإيمان من شأنه أن يلهو ويعبث ثم يضيق ذرعاً بتطبيق أركان الإيمان من أوامر ونواهٍ. ولا يتأتى هذا التطبيق الرشيد إلا بجهاد شريف يُنَاقض الجهل المركب والإصرار على الغفلة؛ فإن الجاهل جهلاً مركباً ذلك الذي يدرك أن الجهل في جميع الأحوال قيمة، وأن بقاء الجاهلين على حالة الجهل المقدس أهم وأعلى من إدراك العَالمينَ !

الجاهل جهلاً مركباً هو الذي يُقدِّس جهالته؛ لأنه لا يعرف نفسه إذْ لم يجاهد فيها الآفات والرذائل ولم يجتهد في الحصول على قيمة باقية من وراء الجهاد؛ فهو الذي يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأماني. والجهاد الحق جهاد نفس شرهة وكفاح أمراض مستشريّة, ولا يتحقق معنى الإيمان بغير جهاد لنوازع الجسد تحجب الفكر عن الحقائق الإيمانية، فضلاً عن الحقائق الكونيّة المُصَفَّاة؛ فلا فكر على الحقيقة بغير جهاد، ولا إيمان ولا دنيا لمن لا يحيي ديناً من حيث إنه لا إيمان ولا دنيا لمن لا تحيا فيه فريضة التفكير.

قال الإمام علي كرم الله وجهه في هذا الصدد:" خيرُ العَمَلِ مَا أكرَهْتَ نَفْسَكَ عليه". وقال أيضاً:" ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإنْ خُذِلْتُم فيها كُنتم على غيرها أعجز, فجربوا معها الكفاح أولاً".

هذا المعنى يُفَسّر لك العجز العربي والإسلامي اليوم: انسياق دائم كما تُسَاق السَّوَائم وراء الأهواء، وتلبس غير معهود ولا معقول بمطالب المادة، وقلة حيلة في التعامل مع الآخرين شعوباً وأنظمة لا لشيء إلا لأن الواقع العربي اليوم مخذولٌ في نفسه، وخذلان النفس هوانٌ ما بعده هوان؛ لا يقاربه خذلان الآخر مِمَّن لم تتوافر لنا القدرة عليهم ما دامت نصرتنا على أنفسنا خذلاناً وهواناً وعجزاً؛ فمحاربة النفس بالإضافة إلى أنها تمكننا من القدرة على الغير, تعطينا طريقاً إلى معرفة الله، والانتصار عليها طريق الإيمان في كافة الأحوال.

فإذا نحن عدنا من هذه الوقفة إلى القضايا الخمس التي أشارت إليها الآية المباركة والتي حرمها الله على عباده، وجدناها كلها من الكبائر لا يرتدع عنها أحدٌ إلا برادع الإيمان؛ ففيه وحده مِكْنَة التجنّب من ارتكاب أدناها إلى التحقيق. وهذه القضايا تحيطها الوصية الإلهية بسياج محفوظ من "إرتجاء العقل"؛ فما يوصي الله به في تلاوة ما حرم على عباده إنما هو وصية محاطة برجاء أن يكون العبد المنفذ لها عاقلاً معصوماً عن الغفلة أو يكون على أقل تقدير محفوظ عن الغرق في مستنقعها الآسن, وتتضمّن القضايا الخمس الآتي:

(1) التحريم القطعي للشرك بالله في (ألا تشركوا بالله شيئاً).

(2) والإحسان للوالدين في (وبالوالدين إحساناً).

(3) والنهي عن قتل الأولاد من خشية الفقر والإملاق.

(4) وتحريم الاقتراب من الفواحش في (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن).

(5) وتحريم قتل النفس في (ولا تقتلوا النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق).

فهذه القضايا الخمس هى مما يُوصي الله به في قوله تعالى:" ذَلِكُم وَصَّاَكُم به لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ".

ولنلحظ التعقيب على الحكم: إيمان بالعقل، وحَثُّ على استخدامه لتتحقق فوائد الإيمان، لكأنما كان رجاء الإيمان ها هنا مُعَلقاً على وصية إلهية يُرجى فيها استخدام العقول العاقلة عن ربها مطالب العزة وفقه الحكم بالعقل. ولا تنتهي تلاوة ما حَرَّم إلى هذا الحد، بل يستطرد في تلاوة غيرها من الأحكام إلى حيث تكون الوصية في هذه المرة لا لأولئك الذين يعقلون، ولكن لمن يذكَّرون؛ فانتقال الوصية من مجال "إرتجاء العقل" إلى مجال "إرتجاء التذكرة" له مدلوله في تخريج مفهوم الآية. وهذا المدلول لامناص له من أن يؤدي إلى تعميق الإيمان حسبما يشير إليه السياق الواضح والمحدد من تلاوة ما حَرَّم الله على عباده. لكن هذه الوصية التي يرتجي منها التذكرة تشمل على أربعة أركان:

الأول يقول "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هى أحسن حتى يبلغ أشده". فإذا أنتهي هذا الركن بتقرير النهي عن اقتراب مال اليتيم، يأتي الركن الثاني بتقرير الوفاء في الكيل والميزان "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نُكلف نفساً إلا وسعها".

ثم يجيء الركن الثالث ليؤكد هذه الحقيقة:" وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى". والمعنى من هذا هو: أي لو كان المتعلق به قولكم قريباً لكم لا تجاملوا أحداً في الحق، بل العدل أقرب إلى أن تكونوا على منهاج الحق فيما تعاملون به الناس سواء بسواء من غير أن يكون هنالك اعتبار لقريب أو ما يشبه القريب.

ويأتي الركن الرابع والأخير ليقول "وبعهد الله أوفوا"، ثم تنتهي الأركان الأربعة بتعقيب على الحكم يُوصي الله به عباده:" ذلكم وصَّاكم به الله لعلكم تذكرون".

ويلاحظ في سياق الدلالة من أحكام القضايا الخمس السابقة أن الوصيّة كانت منصبة على الذين يعقلون:"ذلكم وصَّاكم به لعلكم تعقلون"، وهنا في هذه الأركان يجيء سياق الدلالة من الوصية تعقيباً على الأحكام:" ذلكم وصّاكم به لعلكم تَذَكَّرُون ".

لاحظ إرتجاء التذكرة في الأركان هنا جاء مُعَلَّقاً على إرتجاء العقل في القضايا هناك في حين كان التعقيب على الأحكام "تذكرة"؛ لماذا؟ لكأنما الإنسان إذا هو عقل وصية ربه في الحالة الأولى؛ حالة القضايا التي تتعدد فيها ذكر ما كان حرم الله على عباده, صار يسيراً عليه فعل التذكرة في الحالة الثانية.

فحينما قال المولى تبارك قوله (لعلكم تذكرون)، كأنه يريد أن يقول لعلكم تذكرون ما قد علمتموه من الوصية الأولى، فإذا كنتم عقلتم وصيتي الكبرى وأوجبتم على أنفسكم تنفيذ ما يمكن أن يكون فيها من زواجر ونواهي, ومن أوامر وتكليفات هى إنْ فعلتموها كانت لا شك في صالحكم، صار ما أقرره في هذه الأركان يسيرة عليكم تأديته في الحالة التي إذا ما أنتم قمتم فيها بواجب الوصية الأولى؛ فإذا الفعل ها هنا ليس فيه عُسر ولا مشقة.

والتذكرة هنا لا تحتاج إلى العناء الذي ربما كانت ظواهره بادية عليكم حال كونكم تنفذون الوصية الأولى؛ فموجب الوصية قطعاً ها هنا لا يحتاج فيه الفعل إلى شيء غير التذكرة وكفى. وإذا تجمّعت الحكمة من وراء إرتجاء التذكرة مع الحكمة من وراء إرتجاء العقل، كانت هنالك نتيجة مؤداها أن تخلص - بمقتضى الإيمان - سريرة الإنسان، تخلص من ماذا؟ تخلص من العوالق والقواطع والأغيار التي تنخر فيها كما السوس مفسدة لها في كل حال؛ لتتوحد السريرة خالصة مع الله؛ فإذا التوحيد شهادة حقيقية ليس فيها مجاز؛ وإذا هو واقع مُحَققٌ لا صورة هزيلة فارغة من المعنى أو من المضمون.

ليس للفكر دين. التفكير فريضة إنسانيّة، ولا يمكن أن يكون غير هذا؛ إذْ ليس للفكر دين؛ لأنه لو كان للفكر دين لأصبح في معزل عن الإنسان من حيث أنه كائن مفكر ولصار الدين هو الحاكم الأول والأخير على فريضة التفكير لديه؛ وإنما الإنسان الذي يفرز الفكر هو الذي يفرز العلم ويناقش الدين بعمل العقل والتفكير؛ ولأن العمل العقلي في كل حال هو الذي يستوجب في كل حال فريضة التفكير.

ولكن الفكر الذي على هذا النحو سرعان ما يتحوَّل إلى وثن يعبد وإلى صنم يقدس. ربما يُقال في هذه المسألة: ما قيمة الدين من أساسه إذا كان في مستطاع الإنسان أن يتخذ من فكره ديناً يتكئ عليه ويستند على مقرراته المعرفيّة فلا حاجة به إلى دين أو عقيدة؟ وبما أن التفكير فريضة إنسانية؛ فالأديان تنحصر في تفكير الإنسان المحدود وتتقزم بما لدى الإنسان من عقائد التفكير.

تدور الأسئلة التي من هذا النوع كثيراً على أذهان المتسائلين، ولكن الذي يوقفها عند حدودها هو التفكير في مسائل المصير والتأمل الدقيق في أجواء الإيمان؛ فالإنسان مهما كان وأيَّا ما كان فهو محدود التفكير ومحدود العمر، وهو بطبيعته كائن محدود العقل، محدود الزمن، إذا هو فكر كثيراً في مصيره لا يلبث إلا ويعود عليه مثل هذا التفكير بتقرير الإيمان والدخول فيه دخولاً يتغشاه من الباطن ويتعمقه بعيداً عن السطح الظاهر؛ ليصل به إلى حقيقة امتداده فيما وراء الحياة المحدودة، والزمن المحدود، والعقل المحدود، والعمر المحدود، ولا يصل إلى تلك الحقيقة إلا بما يتقرّر لديه من مقررات الإيمان .

بيد أنه لو أقتصر على فكره مجرداً عن الدين والإيمان سرعان ما يقدس هذا الفكر فيصبح تفكيره (دجمة) مقدَّساً، مُجَرَّد وثن يعبد كأنه يؤمن به إيماناً خالصاً كمَا يؤمن المؤمنون بالإله الواحد، فلا يستطيع الخروج من ذاته تفكيراً وتعبيراً إلى حيث رحابة الكون وأفق اللانهائي اللامحدود واللامتناهي. والقرآن يقوده بالإيمان والعقل معاً إلى هذا الرحاب العلوي الأكرم ويخلصه من غواشي التفكير المحدود بتحرير اللطيفة الباطنة الجُوّانيَّة عن سطوات الأغيار.    

ولا خُلاص لهاته اللطيفة الجُوَّانيَّة إلا أن يكون خلاصها الوحيد في عقل يعقل وصيّة ربه على قانون الجهاد في سبيله، وضبط النفس والانتصار عليها؛ ليلزمها شرف البقاء دوماً في رحاب المعيّة. فالعقل من ثمَّ هو أشرف معنى من معانيه، وهو هنا أكمل ما يكون كاملاً حين يتصف به الإنسان الكامل في الفهم عن الله. والإنسان الكامل في توخي العبادة وملازمة السلوك القويم بمقتضى فكرة التوحيد وفي إطارها؛ فلا هو بالعقل الذي يستقبل ثم يرفض، ولا هو بالعقل الذي يسمع ولا شأن له بالتطبيق، ولكنه العقل الذي يحيل إلى البصيرة ويقود إلى الإيمان على أكمل ما يكون الإيمان في متابعة السبيل كما يصفه ربّ العزة في قوله تعالى:" وأنَّ هذا صِرَاطي مُسْتَقيماً فاتَّبِعُوه ولا تتبعوا السُّبَل فَتَفَرَّقَ بكم عن سبيله، ذَلكم وصَّاكم به لعلكم تَتَّقونَ".

أمامنا الآن ثلاثة محاور أساسية كبرى في الإرتجاء هى بمثابة تعقيبات أحكام تتسلسل بعضها عن بعض.

(1) محور أول في إرتجاء العقل.

(2) ومحور ثاني في إرتجاء التذكرة.

(3) ومحور ثالث في إرتجاء التقوى.

والأساس الصالح والركيزة الفاعلة في هذه المحاور هو "العقل"؛ فلولا العقل ما كانت التذكرة، ولولا اجتماع التذكرة التي تستقي روافدها وأركانها من العقل لمَا كان هناك تناسق في الصفة التي يتصف بها الإنسان من نشدان الكمال المعصوم في إتباع السبيل في غير تشتت وتَفَرُّق.

هو ذاكر لأنه عاقل، ويسير عليه فعل التذكرة بعدما اتصف بالرشاد والعقلانية، لكنها عقلانيّة ممزوجة بالنور تأخذ من مشكاة القلب ليرقيها، معجونة بخميرة الإشراق الروحي، وليست هى بالمعزولة عن هذه أو تلك بحال، ولا هى كذلك بالعقلانية البعيدة عن مثل هذا النور بشطط العقل الأهوج الغافل البليد.

فإذا تمَّ الرجاء في عقله سَهَلَ أن تتمَّ التذكرة عنده لتمام الرجاء في عقله سابقاً، ثم إذا أنت قرنت العقل مع التذكرة قرانة لزوم وارتباط كاللزوم الضروري والارتباط السّببيّ بين القضايا والأركان ثم التعقيبات على أحكامها، نتجت عن ذلك نتيجة مؤداها أن رياض الإيمان هو هو الفاعل في كل هذه القضايا والأركان يرتد من فوره إلى التقوى؛ وهو المُراد بوصية أخرى ثالثة هى بمثابة اللازمة الضرورية من مقدمتين سبقت أهمهما إحداهما؛ فالأهم كانت في إرتجاء العقل، ثم إرتجاء التذكرة بعد العقل بالطبع؛ فَلَزَمَ عن هذه وتلك, ذلك "الإيمان", وهو المراد بقوله تعالى:" ذلكم وصَّاكم به لعلكم تَتَّقونَ".

والتقوى لا مَحَاَلَة هى لب لباب الإيمان.

أي نعم! لب لباب الإيمان هو التقوى، ولماذا كانت التقوى؟ لأن للتقوى أنوراً هى ثمرة الجهاد مع التذكرة، تشع في باطن السريرة الإنسانية، فتلزمها كمال البقاء على الصراط المستقيم؛ فبعد أن يؤدى العقل الغرض الشريف ممّا هو مكفول له أن يؤديه، فيكتمل الرجاء فيه كلما عقل عن الله مراده وحكمه، وبعد أن تفي التذكرة بأركانها واحداً واحداً؛ يجيء الأمر صادراً بوصية التقوى (= أعلى الوصايا) في أن هذا صراطي مستقيماً فأتبعوه؛ فإذا أتبعتموه في مجال التذكرة ومن قبلها مجال العقل، كنتم لاشك من المتقين الذين يعرفون للاستقامة معنى ودلالة؛ أي كنتم لا شك - بمتابعة السبيل - من الذين هداهم الله إلى الإيمان الحق، فكان الإيمان الحق حقيقاً بأن تكونوا، بمزاولته، من المتقين.

ولا بأس آخر الأمر من الاستئناس بما وَرَدَ في "لطائف الإشارات" للإمام أبي القاسم القشيري (ت 465هـ) في تفسير الآية حيث ذكر أن الآية المباركة تضمَّنت عشرة أشياء أولها الشرك، فإنه رأس المحرَّمات, والذي لا يُقبَل معه شيء من الطاعات, وينقسم ذلك إلى شرك جليِّ وشرك خفي؛ فالجلي عبادة الأصنام، والخفيّ ملاحظة الأنام بعين استحقاق الإعظام. والثاني من هذه الخصال: ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق. والثالث: قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق. والرابع: ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا واستتر، ويدخل في ذلك جميع أقسام الآثام. والخامس: قتل النفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق. والسادس: مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم. والسابع: بذل الإنصاف في المعاملات والتوقي من جميع التبعات؛ أي: الاحتراز عما فيه تبعة. والثامن: الصدق في القول والعدل في الفعل. والتاسع: الوفاء بالعهود الإلهية. والعاشر: متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل. قال القشيري: "فمن قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد في داريه وحظى بعظائم منزلته". فاللهم حقق .

نعم، لقد صدق نظر العرفان الذوقي بمقدار ما لديه من صدق الموافقة والمتابعة, وكذبت أنظار المتعالمين من ذوي الدعوى العريضة في غير تحقيق ولا استشراف؛ فلئن خَرَّج القشيري دلالات هذه الآيات المباركات، فلقد خَرَّجها من ذوق عرفاني ودلالة معرفيّة غير أنها إشاريّة، ولم يخرجها دعوى عريضة لمجرد النظر العابر في سطح المفهوم .

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

                      

في المثقف اليوم