دراسات وبحوث

حديث الولاية.. صفة العارف

مجدي ابراهيمحين نريد تحديد صفة العارف في حديث الولاية؛ نحددها خلال ما تعترك به الدنيا وتضج فيه من ناحية، ومن ناحية أخرى خلال ما يبرز لنا واضحاً من قواعد تأسيسية في الطريق نفسها، ليس يمكن الاستغناء عنها في مراحله المتطورة وارتقاءاته الصاعدة في معارج الروح والأخلاق : لسنا بمعنيين هنا بتحديد "صفة العارف" كما أرادها القوم وكما حَوتها كتبهم ومقالاتهم فهذا مما شك فيه إنْ كان من الأهميّة بمكان فهو موجودٌ متوافر في مصنفاتهم لمن شاء أن يطلع عليه. ولكننا عنينا بصفة العارف تحديداً تلك القيمة الباقية من الإنسان فيما لو نهج طريق العرفان واستطاع بمثل هذا المنهاج أن يحدد صفة العارف لا من خلال أقوال الصوفية فيها فحسب، ولكن أيضاً من خلال ظلالها وآثارها في الحياة الحية الواقعة تُعَاش أو ينبغي أن تعاش وفق خَصَال العرفان : أحولاً كانت أو أخلاقاً، ماذا عَسَاهَا تكون صِفَةُ العَارِفْ هذه؟

الإمام أبو القاسم الجنيد (ت 297 هـ) قال وهو يصف العارف: (مَنْ إذا نَطَقَ عَنْكَ وَأنْتَ سَاكت!). وهو وصف موغل في تجسيد الولاية كونها سراً ينطق عن السر، وإنْ كان موغلاً في الوقت نفسه في البعد عن العقلانية التي يشكُل معها النطق بالأسرار لأنها تأخذ بالعموم ولا تأخذ بالخصوص، وتتوجه إلى العقول ولا تتوجه إلى الأسرار، ولكن منذ متى تقاس الولاية بمقياس العقول المحدودة بحدود ما تفكر فيه؟ والولاية بعيدة بعيدة عن حدود العقول المحدودة بحدود ما تفكر فيه، فما يطابقها أو ينطبق عليها في عملية البحث من حيث كونها منهجاً، ليس هو العقل بل البصيرة، أعلى من العقل وأرفع في ملكات الإدراك. وإذن؛ فلابد من معرفة الجهة التي نتحدَّث فيها أو المنقطة التي ينطلق القول منها، ومعرفة ما يناسبها من عمليات الإدراك لكيلا نخلط بين حابل ونابل أو بين منهج ومنهج حين نحاكم أحدهما بالآخر في البحث والفحص والتنقيب. وعليه؛ فلا يفهم من قول الجنيد هذا ما يفهمه صاحب العقل المحدود حين يرى إشارته تتوغل بعيداً عن العقلانية فيحكم بالعقل عن أشياء صدرت من منطقة الذوق، فلا يكون حكمه صواباً بالقياس إلى من يريد أن يقيس الشيء وهو يجهل كيف يقاس. وفي إطار قيم المعرفة منهجاً وتحققاً تجئ صفة العارف متصلة بالإنسان حيث كان، ولكنها لا تتصل حين تتصل إلّا بالإنسان الأعلى من حيث مراقيه المعرفيّة لا من حيث هبوطه ونكوصه وترديه.

فالمحبة والمجاهدة والمعرفة والأخلاق والتحرُّر من عبادة السّوى؛ قيم باقية من خصال العارف تنطلق منها وتعود إليها، وتسمو الحياة بسموها في ضمائر أصحابها؛ وهى من الأصالة بحيث لا يمكن التغاضي عنها؛ فالعارف مجاهد، والعارف محب، والعارف ذو خلق متحرر من عبادة السوى. فهذا الفهم يضعنا في مواجهة العرفان كصفة خاصَّة بالأولياء والعارفين، يتحتم بروزها ليس فقط لدى هؤلاء الأولياء والعارفين بل من وجهة نظرنا كذلك في وقائع الأحياء على التعميم.

إن حُبَّ الله لهو أعظم آيات الامتنان الإلهي، لكنه لن يتحقق بإرادة الإنسان، بل يتحقق بهبة التوفيق. ليس الحب الإلهي الخالص المُخَلَّص من شوائب الزيف آية من آيات الفضل المسبوغ وكفى؛ بل هو كذلك في الأصل هبة إلهية يمنحها الله عطية وتوفيقاً من عنده لخاصة عباده، أختارهم واصطفاهم خاصة لأفضاله وخالص عطاياه. فما من حيلة وما من دعوى، وما كان عطاء ربك محظوراً قط، وما كانت هباته موقوفة ولا ممنوعة، فهو (أي الحب الإلهي) اصطفاء فوق كونه فضلاً مسبوغاً.

على أن الفرق بين الاصطفاء والفضل المسبوغ هو أن الأول تخليص خالص، وانتقاء إلهي كان في عالم الذَّر كما في قوله تعالى:" إنا أخْلَصْنَاهم بخالصة ذكرى الدار. إنّهم عندنا لمن المُصْطَفين الأخْيَار "(سورة ص : آية 46 - 47) ؛ بمعنى أن الله تعالى قد نقاهم من النقائص، وخَصَّهُم بخلة خاصّة وجعلهم من المخلصين المختارين لطاعته حين خصهم بخصائص القربة.

أما الفضل المسبوغ فهو لا يحرم منه أحد، ولا يختص بمخلوق دون مخلوق، ولكن نعمة الإيجاد تتطلب فيه نعمة الإمداد. ثم هو قد ينال جميع خلق الله بمقتضى الرحمة الإلهية، ومن قبَلهَا، وبغير استثناء مخلوق من إمداد الخالق. وفضل الله المسبوغ على عباده عام لا خاص، شامل لا محدود، واسع لا ضيق فيه. والمحبة الإلهية فوق كونها من فضل الله المسبوغ، فهى كذلك هبة تندرج في أعلى صفاتها تحت الاصطفاء الإلهي وتخصيص التقريب كما جاء في قوله تعالى :"والله يَخْتَصُّ برَحْمَته مَنْ يَشَاء، واللهُ ذو الفَضْل العَظيم"(سورة البقرة : آية 105) .

وفي تلك الخاصَّة الإلهيّة لن تتدخل إرادة مخلوق في إرادة الخالق؛ إذْ الأمر كله على التحقيق إرادة ربّ لا إرادة عبد. وهذا الفهم هو المهم في كل توفيق ممنوح. لكأنما أول خاصَّة عرفانية تقابلنا هى هنا خاصة المحبة؛ لأنها فيما يقول الإمام أبي الحسن الشاذلي:" أخذت من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل مُتَحَصّناً بمعرفته، والروح مأخوذة بحضرته، والسّرَّ مغموراً في مشاهدته، والعبد يستزيد فيُزَاد، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته فيُكسى حُلل التقريب على بساط القربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم، ومن أجل ذلك قالوا : أولياء الله عرائس ولا يرى العرائس المجرمون"؛ أو يقول:" المحبة سّرُ في القلب من المحبوب، إذا ثبت قطعك عن كل مصحوب"، وينبه محذراً فيقول:"حرامٌ عليك أن تتصل بالمحبوب، ويبقى لك في العالمين مصحوب "، غير أنه سبحانه إذا مَنَعَكَ ممَّا تحب، وَرَدَّك إلى ما يحب، فهى علامة صحبته لك". (يراجع : ابن عباد المحلي : المآثر الشاذلية؛ ص 90 - 91)

وإذا كانت هذه هى خَاصَّة المحبة عرفانية في الأساس؛ فإنها لتندرج في المعرفة فيجيء بمقتضاها نطق العارف مخبراً عن كل شيء، فقد سئل عبد الرحمن الفارسي عن كمال المعرفة فقال:" إذا اجتمعت المتفرقات، واستوت الأحوال والأماكن، وسقطت رؤية التمييز"؛ وعلق السرَّاج الطوسي على تلك الإشارة حيث قال :" ومعنى ذلك أن يكون وقت العبد وقتاً واحداً بلا تغيير، ويكون العبد في جميع أحواله بالله ولله مأخوذاً عمَّا سوى الله، فعند ذلك يكون هذا حاله" (السراج الطوسي : اللمع، ص 62) بمعنى أن تصير جميع الهموم هماً واحداً بلا تغيير، وتسقط جميع الشواغل إلا شاغل واحد هو تحقيق العبودية لله، وهى التي عبر عنها ذو النون المصري بعدم الالتفات إلى الخلق فقال:" إنْ التفت العارف إلى الخلق عن معروفه بغير إذنه، فهو مخذول بين خلقه "، مخذول؛ لأنه مادام قد أختار طريق العرفان ثم ألتفت فقد خَان؛ والخيانة خُذلان؛ ولأنه في هذه الحالة لن يكون مشغولاً بالتحقيق في مقام العبودية، وسيكون في الغالب موزع القوى مشتت الهَمِّ غير مجموع بالعين ولا هو بالمأخوذ كلية، وستكون فيه بقية من اختيار لا توصله إلى درجة العارف كصفة خاصة به.

وهنا قد نصل بالعرفان إلى مذهب "إسقاط التدبير" في تصوف السَّادة الشاذلية عامة، وتصوف أبي العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري خَاصَّة؛ فلن يكون اختيار العارف في تلك الحالة القصوى من العرفان إلا بمراد الله لا بمراده، وقد قال يحيي بن معاذ الرازي (ت 258 هـ) مادام العبد يتعرَّف (أي لم يبلغ درجة العرفان بَعْدُ) فيُقال له : لا تختر شيئاً، ولا تكن مع اختيارك حتى تعرف (أي حتى تبلغ من العرفان مبلغه الذي لا يتناهى)؛ فإذا عرف وصار عارفاً بمعنى أنه تحقق من العرفان فيُقال له إذْ ذَاك : إنْ شئت اختر وإنْ شئت لا تختر؛ لأنك إنْ اخترت فباختيارنا اخترت، وإنْ تركت الاختيار فباختيارنا تركت، فإنك بنا في الاختيار وفي ترك الاختيار".

أَفَكَثيرٌ على العارف - وهذه حالته على هذا الوصف - إذا هو نطق، نطق عنك وأنت ساكت؟ كلا! إن حركته وسكونه بالله، فمن نطقه ينطق بالله، وكذلك في سكونه يخبر عن المسكوت عنه فيما لو كان مأذوناً له بالنطق فيه وبالإخبار عنه، وذلك لأنه في الحركة والسكون ليست له إرادة وليس له حظ فيهما.

هذه الصفة، "صفة العارف" هى التي عبر عنها الإمام الشاذلي أيضاً لما أن قال : من انقطع عن تدبيره إلى تدبير الله، وعن اختياره إلى اختيار الله، وعن نظره إلى نظر الله، وعن مصالحه إلى علم الله لملازمة التسلم والرضا، والتفويض والتوكل على الله؛ فقد آتاه الله حُسْن اللب وعليه يترتب الذكر والفكر وما وراء ذلك من الخصائص " (المآثر الشاذلية؛ ص 98)؛ لكأنما الذكر والفكر من المراحل التالية لصفاء اللُّب بترك الاختيار النفسي وإسقاط شواغله إلى حيث اختيار الله تعالى وموالاته على الصفاء، فهما العلامتان اللتان يدلان على معقول النظر واستقامة العمل كما وصفهما بحُسْن اللُّبّ. غير أن هذه الصفة في المطلق لا تتأتى أبداً بغير تحقيق الإيمان ولا تأسس إلا عليه.

ليت شعري : ما الذي يُقدّمُه الإنسان على أسمى جزء موجود فيه، إذا أنعزلت عنده مَدَارك الذَّوْق وراح يدرك كل ما يناله ببصر المحسوس والملموس، ويكتفي بذلك فقط، وينكر ما دونه من مدارك وأذواق؟ إنه ليبدو مخلوقاً تافهاً حقيراً إذا لم تكن المعرفة منذ البداية قد وَقَرَتْ فيه، وإنه لينقلب من فوره إلى وضاعة ما بعدها وضاعة إذا هو لم يقدر وجوده الروحي، ولم يعرف أن هذا الوجود هو في الأصل مُقَدَّمَاً - وينبغي أن يكون مُقَدَّمَاً عنده - على كل وجود سواه، وأن وضاعته لتزداد وشرهه المادي ليتفاقم إذا هو لم يعد يمتلك قدرة التحقق بأسس العرفان.

إنما قصدت هنا تحديداً ذلك العرفان الذوقي بهذا الوجود الروحي أو بتلك الطبيعة الموجودة فيه : طبيعة الروح السامية المتعالية التي تستقر في محيط الإيمان. إنها من غير شك لطبيعة روحانية تسمو على كل طبيعة سواها، ترتفع ما أرتفع الإيمان في معدن الذات المؤمنة وأزدان.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم