دراسات وبحوث

شخصيات وأفكار وقيم من التراث: حنين بن اسحق العبادي

ميثم الجنابياحد أعلام الترجمة العظام والأطباء الكبار في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية. أصله من الحيرة. أما حياته ومماته ففي بغداد. وقد لازم صعوده العلمي ودراما حياته الشخصية في أوج تطور الدولة العباسية وتأسيسها لما ادعوه بإمبراطورية الثقافة وطابعها الكوني. وقد تكون شخصية حنين بن اسحق احد النماذج الجلية بهذا الصدد.

لقد أتقن حنين بن اسحق (194-264 للهجرة) اللغات السريانية والإغريقية والفارسية والعربية. وهذب معارفه بالعربية على أيدي شخصيات كبرى مثل الخليل بن احمد الفراهيدي. كما انه طور مفرداتها العلمية وبالأخص في ميدان الطب. إذ ترجم اغلب مؤلفات جالينوس إلى العربية. كما ساهم في تنقيح وتدقيق اغلب ما ترجم إلى العربية في علم الطب. لكن اهتمامه لم يكن محصورا بالترجمة، إذ أبدع حنين في ميدان الطب أيضا بحيث جعله ذلك احد الأعلام الكبار. وترجم كذلك بعض الكتب الفلسفية. وتنسب إليه كتابات في مجال الفلسفة والتاريخ، مثل كتاب (نوادر الفلاسفة والحكماء وآداب المعلمين القدماء)، وكتاب (تاريخ العالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم والخلفاء والملوك في الإسلام) انتهى به حتى زمان المتوكل.

جسّد حنين بن اسحق وحقق في ذاته فكرة الاندماج الثقافي وتنوع الأصول والمساهمة الفعالة في تأسيس كونية الثقافة الإسلامية. كما انه احد النماذج الرفيعة لوحدة الإرادة الإنسانية في تحديها لنقائص الأقلية ورذيلة الحسد المهني وبقايا الأموية في السلطة والحاشية. إذ تراكمت هذه المكونات في مجرى انتقاله من الحيرة الى بغداد، التي كانت تتمثل من حيث رمزيتها وواقعيتها الانتقال من إمكانية الصيرفة الى واقع العلم! والمقصود بذلك هو أن أهل الحيرة كانوا يتميزون آنذاك بمزاولة الصيرفة بينما كانت صناعة الطب حكرا على أهل جنديسابور. وهو "احتراف" مؤقت، لأنه طارئ بسبب مصادفات التاريخ الملازمة لصعود الحضارات وانحطاطها.

غير أن سيرة حنين بن اسحق تكشف عما في هذه المصادفات من تأثير على بلورة نفسية الانغلاق وأثرها السلبي في الموقف من العلم كما هو بوصفه حصيلة الإبداع الإنساني العام. وهي عمومية تستثير الإرادة الإنسانية لتجعل منها قوة عارمة في إعادة الاعتبار للعلم كما هو. لكن إعادة الاعتبار هذه عادة ما تدفع الرواد الأوائل الى تقديم قرابينها في مآس عديدة. وقد تكون شخصية حنين بن اسحق ضمن سياق تطوير العلم الطبي في الثقافة العربية الإسلامية احد النماذج الكبرى. إذ تروي لنا كتب التاريخ والسير كيفية انتقاله من الحيرة الى بغداد ومحاولاته التعلم في مدرسة أهل جنديسابور الطب. حيث كان يقرأ على يوحنا بن ماسويه. وكان المعروف عن حنين كثرة السؤال والاستفسار. مما كان يحرج أستاذه بحيث دفعه مرة إلى الاستهزاء به وطرده تخلصا من إلحاحه في السؤال وتخوفا من انتقال معارف الطب الى "أهل الحيرة"! وتنسب لأستاذه عبارة يخاطبه بها "ما لأهل الحيرة ولتعلم صناعة الطب"! وان من الأفضل له تعلم الصيرفة وخداع المشترين والمتاجرة بالمال المزيف! وقد مّست هذه العبارة أعمق أعماقه، ووضعته أمام تحد للنفس والإرادة. وفيها كانت تكمن فضيلة الرذيلة! لاسيما وأنها المعادلة الخشنة للوجود التي عاني منها حنين بن اسحق لاحقا وعلى امتداد حياته بحيث جعلته يعجب أيما إعجاب بأستاذه الروحي جالينوس القائل، بأن الأخيار من الناس قد ينتفعون بأعدائهم الأشرار!

لكن حقيقة الفائدة تتراكم في مجرى تربية الإرادة. وقد ربى حنين بن اسحق حقيقة الإرادة بوصفها سعيا علميا أخلاقيا. ومن الممكن رؤية ملامحها العديدة والمتعددة في كمية ونوعية المحن التي واجهها من جانب السلطة وحاشيتها. إذ تروي كتب التاريخ والسير والطبقات الامتحان الذي لاقاه على يد المأمون من اجل التأكد من أمانته العلمية والمهنية. انطلاقا من أن تقريب الطبيب من الملوك يحتوي بقدر واحد على قوة الشفاء والشقاء. لاسيما وان السفر الطويل لحنين بن اسحق إلى بلاد الروم وتعلمه اللغة الإغريقية وأصوله النصرانية كانت آنذاك تلعب دورا محتملا في استغلاله لصالح القوى المتصارعة. غير أن حنين استطاع تجاوز هذا الامتحان الصعب. وقد كانت عاصمته وحدة الأخلاق والعلم. انطلاقا من أن مهنة الطب ترمي الى شفاء الناس لا شقاءهم، وان حقيقة العلم تفترض التمسك بقيم الفضيلة والإنسانية. وقد أعجب المأمون بشخصيته وقرّبه بحيث جعله احد أطباء البلاط ومترجمي دار الحكمة. وقد شغل هذا الموقع لاحقا حتى مماته.

وقبل أن يصل إلى هذه الحالة فانه قد تعرض لمحنة زمن المتوكل أقسى وأصعب واشد إثارة لليأس من سابقتها. غير أن حنين اجتازها استنادا الى نفس المبدأ القائل بان العلم فضيلة والفضيلة علم. أحداهما للعقل والأخرى للإرادة. وكلاهما يصبان في مصب المصير الشخصي والتاريخي. فإذا كانت المحنة الأولى امتحان السلطة إياه من اجل اختبار إخلاصه للسلطة والعلم، فان الثانية كانت محنة الشخصية الصاعدة في وسط متميز بالصراع وحسد المهنة ورذيلة الانغلاق ونفسية وذهنية الأقلية. وقد اجتازها حنين بن اسحق بالشكل الذي جعله ارفع شخصيات العلم الطبي آنذاك وكبار المترجمين. وقد ترجم لهذه المحنة الشخصية في إحدى الرسائل الجميلة بوصفها إحدى الاعترافات الدقيقة عن خلجات نفسه وعذاباته وهمومه. لكنها تعكس بالقدر ذاته شخصيته الرفيعة ونبلها الكبير. وقد يكون ذلك احد الأسباب الخفية وراء تأليفه لكتاب (الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا) و(محنة أفضل الأطباء).

وليس ذلك معزولا عن المرجعية الفكرية والروحية القائلة بأن (العقل السليم في الجسم السليم) وكذلك مرجعية التجانس الضروري بين العقل والوجدان وغيرها من الثنائيات الكبرى التي تلازم ارتقاء الحضارة وتكاملها الذاتي. ففي مجراها عادة ما تتصارع وتتعايش، وتتحد وتختلف الأذواق والآراء والمواقف والشخصيات بقدر اقترابها أو ابتعادها عن إدراك هذه الثنائيات الكبرى وتحقيقها الفردي. وليس تجارب الشخصيات الكبرى سوى الصيغة الفردية لهذه الظاهرة التاريخية، التي تعطي لكل منهم مذاقه وموقعه في تاريخ الروح الثقافي. إذ تحتوي هذه التجارب على تنوع يصعب أحيانا إخضاعه لمنطق صارم. مع انه يتغلغل في كل مسام الأفراد والتاريخ والروح بصورة لا تخلو من أثر الدراما الدامية أحيانا للحقيقة القائلة، بان عصمة الأنا الكبرى محكومة بالعلم، وان العلم الحقيقي هو مصدر الرؤية الأخلاقية المتسامية. بمعنى أن العلم الحقيقي هو الذي يعصم الإرادة الفردية من التحلل والانهيار أمام تيار الزمن الفارغ وغبار السلطة والجاه والأهواء.

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم